قضايا وآراء

الكتابة السومرية / زهير صاحب

ولامسها بخفة على سطح الطين فأبدع أول حرف مجرد، لا شيء فيه سوى شكل المسمار ( )، وبتحريك أشكال المسامير وإعادة تركيبها، ولدت ألف علامة وعشرة آلاف مدلول. لا شك أن العملية خارقة، أشبه بالمشي على حبل معلق في الهواء، أوالقفز من خلال حلقة نارية. حقاً كانت أرض الرافدين بؤرة الإنجازات المهمة في تاريخ الفكر الإنساني.

وكان المعبد السومري، بوصفه أهم ركائز المؤسسة الدينية، حيزاً مكانياً ذي دلالة قدسية، تفوق كثيراً حضوره المرئي، مكتسباً (كينونتهِ) القدسية من فعل حلول الروحي فيه حلولاً. الأمر الذي فعـّل سيطرة المعبد على معظم الفعاليات الاقتصادية والاجتماعية، وبفعل هذه الهيمنة المعبدية، جاء إختراع الكتابة في بؤرتهِ. وقد وصفها العلامّة المرحوم (طه باقر): "بأنها كانت كتابة صورية، تعتمد على تمثيل صور الأشياء المراد كتابتها"

فكان تحقق (الدلالة) في نظام هذه الكتابة الصورية، يتكون من ثلاث مرتكزات، الشيء المشار إليه وهوالمعنى، والإشارة وهي الإشارة الكتابية، والتشابه الكائن بين الاثنين. فقد كان التشابه مهماً في بنية النظام الكتابي الصوري الأول، ذلك أن المعرفة في زمانها، يصعب التأكد من (منطقيتها)، دون رابطة حقيقية بين الإشارة والمشار إليهِ.

وأقدم صور الأشياء المادية التي دونت، هي الأغنام والماعز والأصواف، والعلامة الدالة على كلمة تاجر، وصورة المحراث وعلامتي البستان وشجرة النخيل، والعلامة المعبرة عن العربة ذات العجلة. بالإضافة إلى قائمة طويلة سجلت العلامات الدالة على كلمات مثل: سنبلة القمح والثور والبقرة والكلب والخنزير والغزال والثعلب والاسد والحمار والبطة والسمكة، واليد والذراع والقدم والساق، والرَجُل والنجمة والأرض والكوخ والمحراث وسياج المدينة، والزورق والقناة وغيرها الكثير

فكان التعبير في الكتابة الصورية، قائماً على صلة الأرتباط الحيوية، بين المضمون والشكل الذي يُنظمّهُ ويُظهره. إذ يدعم كل منهما الآخر، داخل كل مترابط هوالبنية الكلية للنص المكتوب. ولذلك ارتبطت التسمية بالمسمى بصورة مباشرة، وتحددت العلامة بالموقف المُقرَر دون غيره، لتوخي الأعلام والأخبار في العلامات المُسطـّرة.

فخاصية (الكتابة) هنا، تعيش في محيط ذي مدلولات ومفاهيم ثقافية واجتماعية محددة، تتبادل معها الأثر والتأثير بطريقة دينامية متفاعلة، من خلال إطار نوعي اكتسب مضمونه من الخارج، فهي مرتبطة بالحالة العامة لمستوى التفكير، بوصفه (مرجعاً)  تسترشد به الجماعة، لتكون في النهاية خطاباً تداولياً (تبثّهُ) الجماعة للأجيال اللاحقة.

على الرغم من تسمية هذا النمط الكتابي بالكتابة الصورية. فان العلامات الكتابية لم تكن نسخاً للشكل المراد كتابته، وإنما كانت بمثابة التحليل والبحث في الشكل، لأنتقاء ذلك الجزء المعبر عن الكل، بفعل عملية التبسيط والاختزال، وتقشير أغلفة الشكل أحدها بعد الآخر وصولاً إلى اللب الذي يشكل (الجوهر). وتلك مظاهر (أسلوب)، تستند إلى الوعي الفكري للكتبة، لتحرير العلامة من خاصيتها الطبيعية، لبلوغ أشكالها الجوهرية الخالصة أوالمجردة من التفاصيل. فقد أختار الكتبة (الرأس) لكتابة كلمة غزال أوحمار أوشاة، وبفعل (اللعب) بطول أوقصر أوحركة الأذنين، ميَّز الكاتب شكل أحدها عن الآخر . وفي ذلك نوع من تأويل المعنى وتشظيه لمفهوم الدلالة، والتي لا نشك مطلقاً، بأنها امتلكت وعياً معرفياً شاملاً في حركة الفكر الاجتماعي.

أعقب نمط الكتابة الرمزية طور الكتابة الصورية، إذ وجد الفكر في زمانهِ، أن صلة (التشبيه) المادية المنظورة، غير كافية لتدوين شتى الأفعال المجازية. فأستعاض عنها بصلة روحية تتعدى التشبيه، هي صلة الرمز. إذ تجسدت ونمت وتفاعلت، قيم الرمز الجوهرية في التداول الاجتماعي، بالتحول من محدودية دلالة العلامات نحوالأعمام والإطلاق. "فأصبحت صورة القدم السومرية (Du)، تعبر عن جملة كلمات من بينها أفعال مهمة تقترن بعضوالقدم والرجِل، مثل قام أودخل أوذهبَ".

فالعلامة الكتابية في طورها الرمزي، مفرّغة تماماً من وجودها المادي، ومرحّلة بفعل ضغوط البنية الفكرية العميقة، نحوالتحرر من قيود السطحية والمباشرة، سعياً لتأكيد وجودها الحقيقي والجوهري. فالرمز الكتابي محمل بمعنى اكثر إنفتاحا من الشيء الذي يرمز إليه. ذلك ان العلامة الكتابية الرمزية هنا تعمل خارج حضورها الواقعي كبنية (دال)، بوصفها تلخيص للمدلولات التي تمثلها، والتي (تشفّر) عن مغزى دلالي كامن خلفها (تحت النص) في مدلولاتها المرتبطة ببنية مفاهيم الفكر الاجتماعي.

فتزامن مع مثل هذا الانتصار الفكري، إختزال الأعداد الكثيرة للعلامات الصورية من 2000 علامة الى حوالي 800 علامة في أواخر العصر السومري المبكر، "فمثلاً أختزل عدد العلامات المعّبرة عن كلمة (غنم) أي الكلمة السومرية (udu)، من 31 علامة في أوائل هذا العصر، إلى نحوثلاث علامات في أواخرهِ".

وبغية تصنيف دلالات الأشياء في بنية النصوص الكتابية، فقد تم إنتقاء طائفة من العلامات المسمارية، كانت تكتب قبل أسماء الأشياء أوبعدها، لبيان الصنف الذي تعود إليه أوالمادة المصنوعة منها، مثل العلامة الدالة على الخشب (Gish) للدلالة على أسماء الأشجار أوالأخشاب، وبما يشكّل في نظام الكتابة بالعلامات الدالة.

كما طرأ تبدل في كتابة العلامات المسمارية. فبعد أن كانت تكتب في الأسطر من الأعلى إلى الأسفل، صارت تكتب أفقياً من اليسار إلى اليمين. "والطريف ذكره بهذا الصدد، أنه في أثناء هذه التطورات التي نوهنا بها، ظهرت المحاولات الأولى لتأليف أثبات أوجداول بالعلامات المسمارية لشرح أصواتها ومعانيها، أي بعبارة أخرى ظهور فن المعاجم".

وإن (سمة) مثل هذه الصور الفكرية الرمزية السومرية، تكمن في عدم وجود توافق بين المدلول ونمط التمثيل. فلا تمثل الأشكال ذاتها، بما فيها من خصوصية فردية، بل كانت إشارة وتلميح وإختزال لمدلولاتها. بوصفها أنساقاً علامية، ترتبط بالأفكار والمفاهيم بآليات وكيفيات تمثيلها، داخل بنية من الخطابات الرمزية المفعمة بالتجريدات والترميزات.

فالتفكير بالرموز في النصوص الكتابية السومرية، كان بمثابة إرتقاء بشكل العلامة الكتابية، إلى درجة عليا تتعدد فيها مستويات الدلالة، فقد حققت الذهنية السومرية خصوبة فكرية مكّنها من إدراك العلاقات والنماذج والصيغ والكليات. "ففي الرموز الكتابية نوع من النزوع البشري إلى تنقية الخبرة من الجزئية والفردية والمباشرة، ونزوع بشري أيضاً، إلى التحرر من قيد الزمان والمكان، والذي يَفضي الى الخلاص من الكثافة المادية الغليظة وتحقيق الرهافة الروحية الشفيفة. ففي الرموز الكتابية، مستوى دلالي، زال فيه ما شاب الخبرة من غموض وإبهام، فالتأمت خبرة الجماعة، وتفتحت فيها مقدرتها على حفظ خبرتها في كليات رامزة إلى السعادة والشقاء والعدل والظلم والقهر والحرية". 

وبفعل تداول هذه المنظومة من الرموز الكتابية في ذهن الجماعة، نتيجة إستمرار الممارسة والفهم. أن غدت مثل هذه الرموز حقائق (إصطلاحية) لا تتطلب إستغراقاً ذهنياً من قبل الفرد والجماعة في إستيعاب دلالاتها، بوصفها أداة  تواصل، بوساطة ضرب من التناغم في حركة الفهم الإجتماعي، وقد وجد مدلولاتهِ بشكل (تمثلات) ذهنية ثابتة.

وفي المرحلة اللاحقة أي في العصر السومري الذهبي (2800-2370 ق.م)، دخلت الكتابة مرحلتها المقطعية – الصوتية. فلم تعد الكتابة تتكون من مُمثلات وأصوات تقوم بدورها بتمثيل المُمثَلات، بل أنها الآن، تتركب من عناصر شكلية تنتظم داخل أنساق خاصة، تفرض على الأصوات والمقاطع تنظيماً ليس (تمثيلياً). أي أن الكتابة تحولت من وسيط تمثل فيه الكلمات (الأشياء) التي تشير إليها دون زيادة أونقصان، إلى أنساق خاصة تتراصف فيها الكلمات، فتكتسب مدلولاتها من علائقها الداخلية كل منها بالآخر. فالعملية هنا ليست تمثيل لأشياء كائنة في تطورها الأعلى لكن النقيض هوالصحيح.

 

كلية الفنون الجميلة – بغداد

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2206   الاحد  19/ 08 / 2012)

في المثقف اليوم