قضايا وآراء

سلطة الشعر الجاهلي على الشعر العباسي

 فقد حصروا الزواج والمصاهرة بينهم، فالنعمان ملك الحيرة رفض تزويج ابنته من كسرى ملك الملوك وهو تحت امرته لانه اعجمي. وكان الخليفة عمر بن الخطاب (رض) لا يحبذ اختلاط العرب بالفرس ويود أن يكون بينهم وبين فارس جبلاً من نار، وقد ترجم هذه الرغبة إلى عمل؛ فبعد فتح العراق وتمصير الكوفة لم يسمح لأحد من الأعاجم بدخول المدينة. وقد تبنّى الأمويون الفكرة ذاتها؛ فعندما جاء الحجاج والياً على أهل العراق، جلب معه ألف فارس شامي، وخشية اختلاطهم بأهل السواد –  وهو ما لا تحمد عقباه – بنى لهم مدينة واسط التي لم يسمح لأهل السواد بالسكنى أو المبيت فيها؛ فكانوا يخرجونهم في الليل ثم يعودون بالغداة في حوائجهم.

ولكن إذا ابتعد الأمويون عن مواقع الاختلاط في دمشق، فان العباسيين جعلوا العراق المختلط مقرهم، وبغداد تحديداً. والأبعد من ذلك أن الدولة العباسية قامت على سواعد الفرس وفتحت الحدود معهم وبالتالي فقد أطلقت يدهم في الدولة الجديدة فنقلوا الحضارة الفارسية برمتها إلى العرب، كما نقلوا علومهم وآدابهم إلا أن القلق العربي تزايد وأصبح على كل خليفة عباسي التخلص من وزيره الفارسي المفروض عليه.

وإذا وجدت السياسة حلولاً للخلافة العباسية، فالمشهد الأدبي اخترق فعلاً؛ فأكابر شعراء هذا العصر هم أعاجم كبشار بن برد وأبي نواس وابن الرومي وأبي تمام في كثير من الآراء.

ومهما حاول الباحثون إلغاء أثر الثقافة الفارسية أو تهميشها فإنها كانت فاعلة في الحياة العباسية. وليس ينكر أن فنوناً كالقصص والتوقيعات والغزل المكشوف والتصوف هي فارسية، بل يذهب الدكتور محمد مصطفى هدارة إلى أن "الثقافة الفارسية أخذت تبسط سلطانها علمياً وفنياً وأدبياً حتى صار الأدب العباسي أدباً جديداً.

وأمام تنامي الحس القومي والصراع الشعوبي ظنت المؤسسة العربية – إن صح التعبير – وهي مؤسسة ضخمة؛ جزء منها سياسي تمثله الدولة،وجزء ثقافي تمثله النخبة، وجزء يمثله الجمهور العربي المتعصب لماضيه الثقافي، أن العرب في أزمة، وان الأدب الأجنبي الذي اخذ يفرض نفسه، سيعرِّض أدبهم إلى المسخ لو لم يتداركوا أمرهم. فكان لزاماً عليها أن تعمل ما بوسعها للمحافظة على هويتها إزاء الآخر، فكانت حركة إحياء شاملة للأدب الجاهلي الغرض منها جعل الأدب الجاهلي في القمة، والأصل الذي على كل شعر أن يحتذيه ويؤول إليه، وهو مقياس الجودة والشرعية والخارج عليه خارج على الجودة والشرعية. وهنا لابد من الإشارة إلى أن هذه الخطوة حملت الكثير من الحيف على الأدب العباسي – كما ستظهره الدراسة – فالشعر الجاهلي شعر مثـَّل الحياة الجاهلية خير تمثيل، وكانت له شروطه وأدواته المنسجمة والمتطابقة تماماً مع عصر الجاهلية فبلغ قمته، إلا انه أفقر من أن يفرض وصاياه على الشعر العباسي لتغير فكر وحياة العرب المسلمين وبالتالي فهم غير مستعدين أن يلبسوا (جاكتة) هذا الشعر الضيقة.

لقد كان لظهور الحياة العقلية نتيجة الترجمة والتلاقح مع الحضارات الأخرى السبب في البحث عن الجانب الآخر من الشعر الذي أغفله الجاهليون وهو (المعنى) فأصبح التنقير عن المعاني وتوليدها وتطويرها سمة الشعر العباسي وذلك على حساب اللفظ الذي قل الاهتمام به عند اغلب المجددين. وكان ظهور هذا الشعر الجديد خليق بان يغير مجرى النقد وكان الصراع الشديد بين المحافظين والمجددين قد افرز قضايا نقدية لم يألفها النقد القديم الساذج؛ كاللفظ والمعنى والسرقات الشعرية وعمود الشعر وقضايا ساخنة أخرى.

وانسحب هذا على الأوزان الشعرية أيضا فوضعوا (علم العروض) محددين الأوزان العربية بـ(16) بحراً، أمام سيل الأوزان المستحدثة من شعراء جعلوا وُكدهم مخالفة الأوزان المتوارثة والكتابة على أعاريض جديدة كابي العتاهية وابن السميذع ورزين العروضي والعتابي وغيرهم .

كما كانت الاختيارات من الشعر الجاهلي خطوة ستبنى عليها خطوات كثيرة لاحقة وقد رصدت أموال كثيرة لرواة أشعار الجاهليين وهذه الحركة المفتوحة أتاحت الكثير من الزيف. وكانت مختارات الضبِّي والأصمعي والقرشي تؤكد على الشعر الجاهلي كما أن علماء كحماد وخلف الأحمر عملوا على تنقية هذا الشعر وبث روح جديدة في أجزائه الميتة إلى ابعد حد ممكن ليواكب المرحلة.

انطلق هؤلاء الجامدون على القديم من فرضية خاطئة لا محالة وهي: إن هذه القوالب الجاهلية أخرجت من طبيعة اللغة العربية فهي لا تستبدل ولا تعدل بل تنقل أبداً، فلا فحولة ولا فصاحة ولا إبداع إلا لذلك العصر المستعاد دوماً وكلما فتق المجددون الثائرون ناحية راح هؤلاء يرقعونها بقضية مستحدثة تعارضها أو يردونها إلى عرب الجاهلية.

وهنا تطرح نفسها قضية تهم الأجيال الأدبية كلها في كل مكان وزمان، وهي هل الأدب إنساني أم قومي أممي؟ وهل هناك فعلا ما يعرف بـ(الأدب الهوية) تحرص الشعوب والدول جميعاً على أن يمثلها دون غيرها أو يطرحها أولا ثم يطرح من خلالها ما يهم الآخر؟ وما هي الأسس التي يعتمد عليها في بناء مثل هكذا كيانات أدبية ؟ وهل ستكون هذه المفردات صلدة على الاختراق؟

 إن الصراع بين الأجيال الأدبية سمة كل أدب، وغالبا ما تتحكم باتجاه الأدب ذراع السياسة؛ فالرومانسيون انتصروا على الكلاسيين بانتصار الثورة الفرنسية، والالتزام ساد الأدب الروسي بعد الثورة الشيوعية، واعتماد أدباء أميركا اللاتينية الأدب المشفر كان بسبب القمع.

      ولكن مهما علا وغلا صراع بين أدبين، فإن الصراع في العصر العباسي بين الأدب المنتصر للجاهليين والأدب الجديد الذي أراد أن ينتفع بكل معطيات الحضارة التي أتيحت له، لم يكن مجرد صراع كما هو في الأمثلة المتقدمة، بل كان صراعا على الهوية العربية، إذ سعت المؤسسة المحافظة إلى حصر الأدب في القناة الجاهلية باعتبارها السبيل الوحيد للحفاظ على الهوية العربية للقصيدة. وكان المجددون لا يرون ضيراً في الخروج من تلك القناة ما دامت القصيدة منتمية إلى الشعرية، وإنها برغم جديدها ستبقى عربية، سيما وان الأدباء بمن فيهم غير العرب كانوا يحترمون العربية بل ينذرون لها أنفسهم، وفضَّل احدهم أن يسب بالعربية على أن يمدح بالفارسية!!

لقد جاءت هذه الدراسة لتوضح حقيقة أصبحت ناصعة لدى أبناء جيلنا؛ وهي: إن الشعر يجب أن يمثل عصره، ويجب أن ينهض به جيله لا أن يبقى يرزح تحت قيود جيل سابق عليه. لذا عالج البحث صراع الشعر العباسي للتخلص من سلطة النص الجاهلي ووصاياه وقوالبه الخانقة التي فرضتها المؤسسة العربية ظلماً، وجهاد شعراء العصر العباسي المجددين لفرض وصاياهم البديلة الملائمة. وفي ضوء ذلك فإننا سوف نفسر قضايا الشعر تفسيرا آخر فنظرية فذة كعمود الشعر، وعلم فذ كالعروض إنما طرحت عراقيل في مسيرة الإبداع الجديد ليظل الشعر الجاهلي لات ومناة وعزى الشعر.

وسننشر تباعاً تفاصيل هذه الدراسة متسلسلة.

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1203 الثلاثاء 20/10/2009)

 

 

في المثقف اليوم