قضايا وآراء

فلسفة الإيمان عند الغزالي / ميثم الجنابي

من هنا توكيده على تجاهل الإفراط في استعراض آراء الفرق الإسلامية واختلافاتها بهذا الصدد. وفضل الاستعاضة عن ذلك بما اسماه "بالتصريح بالحق من غير تعريج على نقل ما لا تحصيل له"(1). أما إهماله "لنقل ما لا تحصيل له" فمرتبط أولا وقبل كل شيء بإدراكه الجديد للطابع العملي لمختلف جوانب هذه الإشكالية. ومن ثم أهميتها بالنسبة للروح الاجتماعي والأخلاقي الإسلامي. ذلك يعني أن إهماله "لنقل ما لا تحصيل له" يتضمن على إدراك خاص لتجاهل ما لا قيمة له في جدل الكلام وتقاليده المذهبية والمدرسية الضيقة. وهو موقف كان يحتوي في أعماقه على إدراك نظري وعملي جديد لإشكاليات الإيمان. وهو إدراك وثيق الارتباط بما يمكن دعوته بالتجديد  المنظومي للإيمان، باعتباره جزءاً من مهمة الإحياء الشامل للأمة. لهذا حاول منذ البدء، شأنه في مواقفه من كافة القضايا، تحديد معنى المفاهيم والكلمات، من اجل مناقشة مضامينها الفكرية. من هنا تأكيده على ما اسماه بالمباحث الثلاثة المتعلقة بكشف حقيقة الإسلام، والإيمان، وعلاقتهما المتبادلة.

وهي مباحث تتطابق من حيث مضمونها مع فكرة المستوى والأسلوب. وهو تطابق يتضمن محاولة لمّ شمل الوحدة المجزأة للإيمان والإسلام كل لحاله، والانفصام أو الفطام الفكري والروحي بينهما من خلال إعادة الوحدة إليهما عبر تأسيس الصلة الداخلية بين الأسلوب والمستوى والمعنى. من هنا نراه ينطلق مما اسماه بالمبحث اللغوي لكلمة الإيمان من خلال إبراز معنى التصديق فيها، أي أن معنى الإيمان هو معنى التصديق. أما الإسلام فهو التسليم بالإذعان والانقياد. والتصديق محله القلب واللسان، بينما التسليم محله القلب واللسان والجوارح. ومن هذه المقدمة اللغوية (أو التفسير الظاهري) حاول بناء استنتاجه القائل، بان كل تصديق بالقلب هو تسليم، وكل إيمان هو إسلام. وبالتالي فان الإسلام اعمّ والإيمان اخص. ومن ثم، فأن الإيمان اشرف أجزاء الإسلام. وذلك لان كل تصديق تسليم وليس كل تسليم تصديق(2).

أما النوع الثاني من المباحث فهو ما جاء به إطلاق الشرع، الذي ميز بين مفهوم الإسلام والإيمان، بوصفهما صيغاً متباينة أما على سبيل الاختلاف وأما على سبيل التداخل أو الترادف. فالاختلاف هو كما في الآية"وقالت الأعراب آمنا، قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا". أما التداخل فحسب ما ورد في الحديث "أن أفضل الأعمال هو الإسلام. وعندما سئل عن أي الإسلام أفضل، أجاب: الإيمان". أما الترادف فهو كما في الآية "فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين، فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين". وليست الصيغ الثلاث المذكورة أعلاه سوى الصيغ الشرعية لعلاقة الإسلام بالإيمان. ففي الاختلاف يظهر الإسلام تسليما بالظاهر، والإيمان تصديقا بالقلب. أما في التداخل فالإسلام هو تسليم بالقلب والقول والعمل جميعا، والإيمان هو بعض ما دخل في الإسلام، أي التصديق بالقلب. في حين يتطابق الإسلام والإيمان في الترادف. انطلاقا من أن الإسلام والإيمان كلاهما تسليم بالقلب والظاهر. وذلك لان التسليم الظاهر بالقول والعمل هو ثمرة تصديق الباطن(3).

 أما المبحث الثالث فهو الحكم الشرعي. بمعنى أن الإسلام والإيمان حكمان آخروى ودنيوي، أو مجرد وملموس، ميتافيزيقي وواقعي، خيالي وحقيقي. فالأخروي منها على سبيل المثال هو الإخراج من النار ومنع التخليد فيها استنادا إلى الحديث القائل، بأنه يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان. وهي "الذرة" الهلامية التي احتدم حولها صراع المدارس والفرق منذ نشوء الخلافة حتى عصر الغزالي من اجل تدقيق حدها وتحقيق ماهيتها. وهو صراع عمق روح التفاؤل في إدراك ماهيتها من جهة، وساهم في تشطيرها غير المتناهي من جهة أخرى. وهي عملية عادة ما ترافق صيرورة التجزئة والوحدة الملازمة لتطور الفكر والثقافة. وفيها ومن خلالها يجري توليف المنظومات الشاملة في مساعيها إعادة توحيد الأجزاء المتناثرة للتجربة الاجتماعية والسياسية للثقافة. وهو السر القائم وراء مواقف الغزالي "المتعالية" من "خلافات واختلافات الفرق والمدارس في قضايا الإيمان وماهيته"، وبالأخص تجاه المواقف الثلاث الكبرى التي بلورتها الثقافة الإسلامية تجاه هذه القضية. والمقصود بذلك الموقف القائل، بأن الإيمان هو مجرد العقد، وأن الإيمان هو عقد بالقلب وشهادة باللسان، وأخيرا أن الإيمان هو عقد بالقلب وشهادة باللسان وعمل بالأركان.

وعندما ننظر إلى آراء الغزالي بصدد هذه القضية، فإنها تبدو في مظهرها تجميعا للمواقف الثلاثة المذكورة أعلاه. فهو يؤيد من يجمع بينها. لهذا نراه يضع الموقف القائل، بان الإيمان هو قول وعقد وأعمال في ما اسماه بالدرجة الثانية. وضمن هذا السياق يمكن فهم موقفه المعارض لما دعاه "غلو المعتزلة وإفراط المرجئة"، انطلاقا من أن عدم الأعمال بالجوارح لا ينفي الإيمان في حالة وجود التصديق بالقلب والشهادة باللسان. ومع انه عارض "إفراط المرجئة" في مواقفها من الإيمان، فانه اتفق معها فيما يخص فكرتها القائلة بأن عدم النطق بالإيمان لا يعدمه أن كان في القلب، كما انه لا ينعدم بانعدام الفعل(4).

فقد قرن الغزالي ظواهر الغلو والإفراط المميزة لبعض الاتجاهات الإسلامية وفرقها الكلامية بانتقائها بعض عبارات الشرع وأحكامه. فعندما ناقش على سبيل المثال، مسألة الحكم الدنيوي في الإسلام فانه ميز بين درجاته المتباينة في الظاهر والباطن، أي في مستوى العلاقة بالدولة ومؤسساتها، وفي مستوى العلاقة بين الإنسان والله. فالمستوى الأول هو ميدان الحكم الفقهي (القانوني المباشر) بينما الثاني هو ميدان حكم الباطن (الله فقط). فما يجمع الإحكام الفقهية المختلفة بصدد قضايا بالإرث والزواج وغيرها هو كونها مباحث فقهية ظنية مبنية على ظواهر ألفاظ الشرع والأقيسة (العقلية). من هنا حكم الغزالي القائل، بأنه لا ضرورة للظن، بأن "المطلوب منه القطع من حيث جرت العادة بإيراده في فن الكلام"(5). ومن هذه المقدمة العامة رد على مقالات مختلف الفرق الكلامية في مواقفها من الإيمان.

لقد أراد القول، بان آلية الجزم القاطع المميز لمختلف فرق الكلام في إدراك الحقائق هو الذي حدد فهمها ومواقفها من "حقائق الإيمان". وفي هذا يكمن سر ما أسمته المتصوفة بتضييق الرحمة الإلهية. وهو أمر جلي حالما نظر إلى آراء ومواقف مختلف الفرق مثل المرجئة والمعتزلة والاشعرية . إذ استند كل منها إلى بعض الآيات القرآنية المنفردة واعتبارها بحكم الجزم القاطع. فالمرجئة، على سبيل المثال، استندت إلى آيات عديدة مثل "فمن يؤمن بربه فلا يخاف بخسا ولا رهقا"، و"الذين آمنوا بالله ورسوله أولئك هم الصديقون"، و"لا يصلاها إلا الاشقى"، وغيرها من الآيات. ولم يجد فيها حجة مقنعة لاستنتاجهم القائل بأن المؤمن لا يدخل النار وان أتى بكل المعاصي. إذ ليس الإيمان هنا سوى ذاك الذي أريد به مع العمل. ثم أن المرجئة لم تفعل إلا أن عممت العموميات، في حين أن القرآن يحتوى على مضاداتها العامة مثل "ومن يعص الله ورسوله فان له نار جهنم خالدين فيها"، و"إلا أن الظالمين في عذاب مقيم" بعبارة أخرى، أن الغزالي يدرك كون معارضة العموميات بالعموميات لا يشكل دليلا برهانيا. لهذا اعتبر التخصيص ضرورة. في حين أنكر الاشعرى وطائفة من المتكلمين صيغة العموم باستنادهم إلى بعض الآيات مثل "كلما القي فيها فوج سألهم خزنتها"، أي فوج من الكفار. لهذا طالب بالتوقف في تأمل هذه الألفاظ إلى حال ظهور قرينة تدل على معناها. في حين سارت المعتزلة في الاتجاه المضاد للمرجئة. بمعنى استنادها إلى العموميات التي تؤكد على وحدة القول والعمل مثل "واني غفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى"، و"العصر أن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات"، وغيرها من الآيات.

لقد وجد الغزالي في هذا الأسلوب مجرد عموميات مخصوصة. بمعنى إضافة القرآن كلمات مثل "ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء"، إي نفي إمكانية بقاء المشيئة لله في مغفرة ما سوى الشرك. غير أن ذلك لا يعني وقوف الغزالي بالضد من ربط الإيمان بالعمل. لاسيما وان العمل يمكن أن يكون من الإيمان. وذلك لان جوهر الإيمان هو التصديق بالقلب.  فالرأس والبدن من الإنسان، كما يقول الغزالي، لكن في حالة إزالة الرأس منه فانه يكف عن أن يكون إنسانا. بينما يبقى الإنسان إنسانا في حال قطع اليدين. والشيء نفسه يمكن قوله عن الإيمان، بمعنى بقائه مع التصديق وعدم انعدامه بإزالة الأعمال الظاهرة. ومن هذه المقدمة حاول إزالة التعارض الشديد والأحكام الجازمة في الفكر والمواقف من المؤمن والكافر. وذلك لان الإيمان درجات، وأساسه في التصديق بالقلب. فعندما نقول عن العاجز بأنه ليس إنسانا، فان المقصود بذلك فقط هو فقدان الكمال بوصفه حقيقة الإنسانية(6). وينطبق هذا بالقدر ذاته على المؤمن بغير عمل، بمعنى عدم كمال إيمانه لا انعدامه. ومن هذه المنطلقات العامة حدد موقفه من إحدى القضايا التي أثارت الجدل آنذاك وهي قضية الزيادة والنقصان في الإيمان. فعلى الرغم من أن الإيمان في جوهره هو التصديق بالقلب، لكنه قابل في نفس الوقت للزيادة والنقصان. فالزائد موجود مثل وجود النقصان، رغم أن الشيء لا يزيد بذاته. فنحن لا نقول بان الإنسان يزيد برأسه، بل بلحيته. كما أن الصلاة لا تزيد بالركوع والسجود، بل بالآداب والسنن. وبالتالي فان الإيمان موجود، أما زيادته ونقصانه فشيء آخر.

ولم يقف الغزالي بصدد هذه القضية عند حدود انتقاداته المذكورة أعلاه، بل دفعها صوب نهايتها المنطقية، أي صوب معارضة ودحض الغلو والإفراط المميزين للاتجاهات الإسلامية وفرقها الكلامية المتصارعة. بعبارة أخرى، لقد كانت مواقفه بهذا الصدد جزءاً من أسلوب نقض المذهبية الضيقة والتعصب العقائدي للفرق. ولعل موقفه من تحديد هوية الإيمان وحقيقته ودرجاته، نموذجا جليا بهذا الصدد. فالإيمان حسب نظره، اسم مشترك يمكن إطلاقه، في الإطار العام، على أوجه ثلاثة، وهي نفسها درجاته العامة. الأولى وهي التصديق بالقلب على سبيل الاعتقاد والتقليد. والثانية ما يراد به التصديق والعمل جميعا. والثالثة التصديق اليقيني على سبيل الكشف(7). وهي درجات متباينة لكنها لا تنفي أو تفقد حقيقة الإيمان فيها جميعا. أما الخلافات الممكنة هنا فهي درجات كمال الإيمان في كل منها. وهو الشيء الذي حاول كشفه في موقفه من الإيمان بذاته. فالإيمان بالنسبة للغزالي هو ليس كيانا ما محدودا، بل كينونة دائمة غير متناهية في تجلياتها. لهذا وقف بالضد من تحديد الإيمان بصيغة واحدة. وذلك بفعل تباين تجلياته في ميادين المعاملة والمكاشفة، رغم ترابطهما الوثيق. فمعرفة المعاصي المهلكات من الإيمان، لكن ليس كل الإيمان. وذلك لأنها علم يؤدي إلى عمل. كما أن من الممكن افتراض أن يكون المرء مؤمنا في علم المكاشفة، بمعنى معرفته الله ووحدانيته وصفاته، ويقترف المعاصي في الوقت نفسه. وهو أمر يشير إلى نقص الإيمان لا عدمه. فالإيمان حسب نظر الغزالي، هو ليس "بابا واحدا، بل هو نيف وسبعون"(8). ولم يقصد بذلك حدّها وعدّها الشكلي، بقدر ما كان يقصد به الصيغة التعبيرية عن تعددية أبواب الإيمان الكمية والنوعية في مختلف الميادين والمستويات، من الله حتى أجزاء العالم الصغرى، تماما كما ينحصر وجود الإنسان المادي والروحي بين بشرته وروحه. فالإيمان له أبواب (أو درجات) وتجليات عديدة. أعلاها شهادة التوحيد وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، كما يقول الغزالي. لهذا اعتبر الغزالي الإيمان كالإنسان.  فالإنسان أيضا يتكون من نيف وسبعين موجودا أعلاها القلب والروح وأدناها إماطة الأذى عن بشرته(9). وإذا كان الإيمان كالإنسان، فإن فقدان شهادة التوحيد بالكلية بالنسبة للإيمان يساوي فقدان الروح بالنسبة للإنسان.

ووضع هذه  المقارنة الظاهرية والباطنية بين الإنسان والإيمان في أساس محاولته للكشف عن المستوى الجديد لأدراك علاقة الإسلام بالإيمان من خلال البرهنة على أن من ليس له إلا شهادة التوحيد والرسالة فهو كالإنسان المقطوع الأطراف، المفقوع العينين، الفاقد لأعضائه الباطنة والظاهرة، باستثناء أصل الروح. فهو قريب من حال الميت رغم وجوده حيا. وان من له أصل الإيمان فقط دون الأعمال شبيه بالميت – الحي. فهو يشترك مع المؤمن بالاسم فقط، ويفترق عنه تماما بالقدر الذي تشترك به شجرة الصنوبر مع القرع أمام رياح الخريف. آنذاك تظهر حقيقتها كما في قول القائل.

سوف ترى إذا انجلى الغبار         أفرس تحتك أم حمار(10)

وبهذا يكون قد نقل قضية علاقة الإسلام بالإيمان إلى ميدان العمل باعتباره محكا كاشفا لحقيقتها. ووضع هذه العلاقة في إطار أوسع ألا وهي علاقة الأصل بالفرع، مؤكدا على أن افتقاد المرء إلى الفرع (العمل) هو مثل افتقاده إلى الأطراف. بمعنى حياته الجسدية الظاهرية وموته الباطني الروحي. ووضع استنتاجه هذا في فكرة نظرية عملية كبرى تقول، بأنه "لإبقاء للأصل دون الفرع ولا وجود للفرع دون الأصل، ولا فرق بين الأصل والفرع إلا في شيء واحد وهو، أن وجود الفرع وبقاءه جميعا يستدعي وجود الأصل، وأما وجود الأصل فلا يستدعي وجود الفرع. فبقاء الأصل بالفرع ووجود الفرع بالأصل"(11).

لم تكن قضية الإيمان والإسلام في منظومة الغزالي الفكرية معزولة عن علاقة العقل بالشرع. فهو يناقش هذه القضية من خلال تحويلها إلى مسألة أخلاقية عملية. أما في مستواها المعرفي فإنها تصبح جزءا مما دعاه باليقين المعرفي وحقائق التوحيد في مستوياته المتعددة. فعندما تناول على سبيل المثال قضايا التوبة ومضمونها، فانه يشير إلى ما يدعوه بظاهر الكتاب (الشرع) في دلالته على التوبة باعتبارها الرجوع عن الطريق المبعد عن الله. لهذا أكد على انه"لا يتصور ذلك إلا من عاقل. ولا تكتمل غريزة العقل إلا بعد كمال غريزة الشهوة والغضب وسائر الصفات المذمومة"(12). وبالتالي فان إتباع العقل لإشارة الشرع يؤدي في مجرى تطوره الذاتي، أو ما يدعوه باستكمال غريزة العقل بعد استكمال الغرائز الأخرى، إلى إدراك الخير والشر وصراعهما باعتباره صراعا بين العقل واللاعقل. إذ ليس العقل هنا سوى "حزب الله وجنده، ومنقذ أوليائه من أيدي أعدائه شيئا فشيئا على التدرج"(13). انه يتخذ صيغة الوسيلة السليمة والحقيقية. أما إدراك حقيقة وكيفية تحقيقها العملي فهو من نصيب  المتصوفة، لأنهم الوحيدون القادرون على ربط العلم بالعمل في كل واحد وممارسة ثمرات الحال في سلوكهم الدائم.

لقد وضع استنتاجه هذا في أساس موقفه من درجات الإيمان الاجتماعية والمعرفية.  ولا يعني ذلك تلفيقية الرؤية أو إسباغ روح "المساومة الحرة" عليها، بقدر ما يعني محاولته لتوحيدهما على أساس تجانس النظرة الواقعية في إدراك مهماتها في ميدان العلم والعمل. بمعنى تجانس الرؤية النظرية (اللاهوتية – الفلسفية) والعملية (الاجتماعية والسياسية). وذلك لان صيغة العلاقة الملازمة والفاعلة للأصل والفرع ما هي إلا التعبير "الخشن" عن التباين الواقعي بين إدراك اليقين الإيماني ومظاهره التقليدية (إيمان العوام)، واليقين الكشفي ومظاهره الذوقية (إيمان الخواص).

غير أن الغزالي لم ينظر إلى هذه المستويات نظرته إلى أشكال متناقضة. وذلك بفعل رؤيته لوحدة الأيمان باعتباره تصديقا بالقلب. فهو ينطلق من أن مقدمة الإيمان الأول تكمن في أساس الفطرة الإنسانية. لان الإنسان يخلق خاليا من كل اعتقاد باستثناء اعتقاده بخلق الله له. مما يعني خلو الفطرة الإنسانية في بدايتها من عبث الاعتقادات. وبالتالي ليس الإيمان التقليدي سوى ذاك الذي يعيق الإنسان إدراك حقيقة الإيمان، بفعل مطابقته بين حقيقة الإيمان وتقليده الخاص (الشخصي). فالإيمان التقليدي هو إيمان العوام. وقد جعله ذلك يؤكد على أن إيمان الخلق كافة، باستثناء المتصوفة، هو إيمان تقليدي، مبني على التصديق والاستماع دون إدراك حقائقه(14). فهو إيمان مميز للجميع بغض النظر عن انتماءاتهم الدينية. وبغض النظر عن "حيادية" مواقفه من هذا التقليد، بفعل سموه الصوفي عن صراعات المذاهب المتعصبة، إلا انه وجد في محاربته الخفية أسلوب تهشيم التعصب الديني والمذهبي.

لقد سعى للبرهنة على أن الإيمان التقليدي هو إيمان ظاهري متعصب شكلي. وهو أمر جلي كما نراه في عدم تأثر المؤمن التقليدي بالخوف والتحذير والوعظ والتحقيق والبرهان(15). لكنه في نفس الوقت إيمان صلب هش عرضة للتشكك(16). فجزميته قابلة للانحلال بأدنى درجات ووسائل الشك والخيال(17). لكنه في نفس الوقت متفاوت الدرجات. بمعنى أن للتقليد في الإيمان ومستوياته درجات تتراوح ما بين التقليد الأعمى المميز للعوام وتقليد النظار المميز لعلماء الكلام (اللاهوت). ولا يختلف إيمان اللاهوتيين عن إيمان العوام إلا بكونه مخروجاً بنوع استدلال(18).

إن إدراج الغزالي إيمان المتكلمين في رتبة الوسط بين إيمان التقليد المحض وإيمان العارفين لا يعني بنظره، اختلافه الجوهري عن إيمان العوام. أما اندراجهما في مرتبة واحدة فهو بسبب خلوهما من المعاناة الفردية الذاتية. بينما تشكل هذه المعاناة مصدر وخصوصية إيمان الخواص. لهذا نراه يحدد حقيقة إيمان الخواص بأنه "التصديق اليقيني على سبيل الكشف وانشراح الصدر والمشاهدة بنور البصيرة"(19). وان يعتبرها أيضا "المشاهدة بنور اليقين" و"الإيمان الحاصل بانشراح الصدر بنور الله"(20). وأبقى على هذه الصيغ في حيز التجربة الحسية وأمثلتها الملموسة. فإذا كان التصديق هو الأساس المشترك لإيمان العوام والمتكلمين والخواص، فانه يتخذ عند العوام صيغة التقليد، وعند المتكلمين صيغة الاستدلال (العقلي)، وعند المتصوفة صيغة المشاهدة. فالتصديق، على سبيل المثال، بوجود زيد في الدار له ثلاث درجات. الأولى أن تصدق بوجوده في البيت بعد أن يخبرك شخص تعرفه ولا تتهمه بالكذب. والثانية أن تسمع كلام زيد وصوته من داخل الدار، ولكن من وراء جدار. والثالثة أن تدخل الدار فتنظر إليه بعينيك وتشاهده. واعتبر الدرجة الثالثة هي درجة المعرفة الحقيقية والمشاهدة اليقينية. وبالتالي فان الإيمان الكشفي هو الذي يطوي (ينفي) في ذاته إيمان العوام والمتكلمين، ويتميز عنهما بميزة إضافية يستحيل معها الخطأ (21).

وقد شكلت هذه المقدمة منطلق إدراك الغزالي لما اسماه بحقائق الإيمان الكشفي لا الإيمان ذاته. فالإيمان الكشفي هو الإيمان الباطن الحق. وبهذا المعنى يتضاد مع الإيمان التقليدي. فهو إيمان باطني لا متناه، وكشفي ذوقي لا تقليدي، متحرك بنفيه الدائم، متسامح بفعل إدراكه سعة الرحمة الإلهية، ووجداني بفعل فاعلية الحال، وعقلاني أخلاقي بفعل أساسه ومقدماته العلمية العملية. وهي رؤية وحصيلة ملازمة للتجربة الصوفية، التي لا تتمايز إلا بسعة قوى العارفين. إذ ليس الإيمان الكشفي، كما يقول الغزالي، سوى"انشراح الصدر بنور الله حتى ينكشف فيه الوجود كله على ما هو عليه، فيتضح أن الكل إلى الله مرجعه ومصيره. إذ ليس في الوجود إلا الله وصفاته وأفعاله"(22). ذلك يعني أن حقيقة الإيمان لا يمكن إدراكها خارج التجربة الفردية الذاتية. وبالتالي ليس الإيمان الكشفي سوى حصيلة التجربة الصوفية العملية ونتائجها المتراكمة في  إدراك اللامتناهي في المتناهي، والمتناهي في اللامتناهي باعتبارها عملية إدراك الحقيقة الإلهية في الوجود. وهي عملية تتضمن بالضرورة على نفي محدودية التقليد وضيق التعصب المذهبي.

ووضع الغزالي فكرة ونموذج وأسلوب محدودية التقليد في مفهوم الحجاب، بوصفه الحاجز المعيق للتصورات الجزمية التقليدية في تذليل محدوديتها الخاصة. وهي محدودية تظهر بقدر واحد في كل من الروح والجسد. فالمصالح والشهوات، على سبيل المثال، تعيق المرء عن إدراك الحقائق كما هي، بفعل طابعها العابر والجزئي والعندي والنفسي. فهي لا تصنع في أفضل الأحوال غير أوهام الحقائق، رغم فاعليتها في الحياة الدنيا كحوافز قائمة وراء نشاط الإنسان وفعله المباشر. بينما يعيق تقليد النفس بفعل "حسن الظن" إمكانية بلوغ الحقيقة، وذلك لأنه يحول بينه وبين الحق. بمعنى غلق التقليد لإمكانية اكتشاف خلاف ما يحصل عليه من مظاهر التقليد. وهو الأمر الذي نراه في اعتقادات العوام والأغلبية، بما في ذلك النظار المتكلمين، بفعل تحولها إلى حجاب يمنعهم من رؤية الحقائق كما هي. غير أن الغزالي لم يحصر استحالة بلوغ الحقائق كما هي بالأسباب الآنفة الذكر، بل وربطها بما اسماه بالجهل بالجهة التي يقع منها العثور على المطلوب. فالاعتبارات "العلمية" التي عادة ما يضعها النظار في استنتاجاتهم ما هي في الواقع إلا "حيل" عجيبة تقترب في درجاتها وتبتعد عن الحقيقة، إلا أنها بمجموعها تعيق المرء عن إمكانية إدراك الحقائق كما هي. وإلا فان قلب الإنسان، كما يقول الغزالي، صالح بالفطرة لمعرفة الحقائق(23). فما يميز الإنسان عن كل ما هو موجود، هو قدرته على المعرفة باعتبارها "أمرا ربانيا شريفا". وبهذا يكون الله قد أعطى للإنسان الإمامة في الأرض. أما هذه الإمامة فهي "المعرفة والتوحيد"(24). غير أن ما يعيقه عن بلوغها هو جملة أمور يدعوها الغزالي بحجب الوجود والمعرفة. إذ أن كل إنسان، حسب الحديث النبوي المشهور "يولد على الفطرة إنما أبواه يهودانه وينصّرانه ويمجسانه". وبالتالي ليس الإيمان الحقيقي إلا الإيمان الذي ينكشف فيه ويزول الحجاب بين الله والإنسان. آنذاك تتجلى صورة الملك والملكوت في قلبه، إي العابر والمطلق، المحسوس والمعقول، النهائي واللانهائي، أو فيما دعاه الغزالي بالحضرة الربوبية، بفعل إحاطتها بكل ما هو موجود. إذ "ليس في الوجود سوى الله وأفعاله"، كما يقول الغزالي(25).

فالإيمان الكشفي هو ليس فقط إيمان التصديق اليقيني المبني على أساس تجربة الذات الصوفية، وبالتالي الأبعد عن قبول الزيادة والنقصان، بل والمطمئن في الوقت نفسه في قلقه الدائم. ولا يعني ذلك في التجربة الصوفية سوى استمرارية المعرفة بالله، بفعل تحولها في إيمان الصوفي إلى رديف للسعادة الحقيقية. وذلك لان المعرفة بالله ، كما يقول الغزالي، لا تنحصر. وذلك لان "الإحاطة بكنه جلاله غير ممكنة، وبحر المعرفة ليس له ساحل.(26) وبالتالي، فان "الطريق إلى الله لا نهاية لمنازله. فالسالكون سبيل الله لا نهاية لدرجاتهم"(27). وبهذا لم يعد الإيمان عملية اعتراف عابرة، أو اعتقاداً ما تقليدياً، بل استمداد أمثل لحقيقة الحق في الوجود، لأنه ليس في الوجود سوى الله وأفعاله.

إن تأكيد الغزالي على فكرة الإيمان الذاتية الباطنية بصيغتها الصوفية، لا يعني تجردها عن فاعليتها الاجتماعية السياسية. على العكس! لقد سعى الغزالي من خلالها إلى تأسيس أسلوب فاعلية الإيمان الاجتماعية السياسية والأخلاقية. وبالأخص في ميدان تهشيم قواعد وحوافز التعصب المذهبي والعقائدي في الاتجاهات الإسلامية بشكل خاص، وفتح باب التسامح الديني بين الأديان عموما (التوحيدية خصوصا). فقد رفع الإيمان الحقيقي إلى مصاف النفي غير المباشر لإيمان العوام من خلال مطابقته مع الإيمان الباطني، باعتباره التجسيد الأمثل لعلاقة الإنسان المباشرة بالله.

لقد سعى الغزالي في مواقفه من علاقة الإسلام بالإيمان ووحدتهما للخروج من مأزق الصراعات المذهبية الضيقة. غير انه لم يضع هذه الوحدة في حدود التوفيقية المفتعلة، بل في إطار ما يمكن دعوته بالمساومة التاريخية الفضلى. وذلك بفعل إدراكه محدودية المذهبية الضيقة وضرورة تجاوزها في عناصر وجودها الواقعية. مما جعل منظومته تتخذ في تاريخيتها صيغة التمثل الحر للفكر الإسلامي الحر. أما مظهر التلفيق الشكلي في عباراته فإنها لا تعكس حقيقة الفاعلية الداخلية لأفكاره، بقدر ما كانت  تستجيب لوعي الانتماء الثقافي لعالم الإسلام. وهو ما يفسر لحد ما احد أسباب هجومه الشديد على المعتزلة والمرجئة وغيرها من الاتجاهات. انه حاول البحث عن الطريق الوسط، والذي لم يعن تاريخيا سوى سحب البساط من تحت أقدام المذهبية المتبجحة بذاتها وبإحكامها الجازمة.

إن تحرير الغزالي لحقيقة الإيمان من قيود التقليد، هو التأسيس المناسب لتحرير الإنسان من قيوده. وبالتالي التأسيس لقيم الإيمان الاجتماعية. وبهذا يكون قد وضع فكرة الصوفية عن وحدة الحقيقة والشريعة في إطار فاعليتها الاجتماعية. لهذا أكد على ضرورة الوحدة الدائمة بين العلم والعمل، وبين الإيمان الحق والعمل الحق، رغم "تهاونه" النسبي في الموقف من العوام. وهو تهاون يعادل في مضمونه الاجتماعي إدراك استحالة مساواة الجميع في الارتقاء الأخلاقي. كما انه يحتوي على إدراك الخلاف الدائم بين الفردي والاجتماعي، باعتباره نتاجا للتجزئة الواقعية بين حقائق الباطن الأخلاقي وظواهر الوجود الاجتماعي.

لقد سعى الغزالي إلى صياغة القيم العامة للممارسة العامة من خلال إنزالها في الوقت نفسه إلى ميدان الفعل النموذجي والمعقول للأفراد والجماعة. وفيها يمكن أن نعثر على محاولته تأسيس التجانس الممكن والواقعي بين الفرد والمجتمع، بما في ذلك من خلال توحيد المضمون الاجتماعي الأخلاقي للإيمان. من هنا انتقاده لفكرة الإرجاء بسبب احتواءها على إمكانية تجرأت الناس على المعاصي، والاحتماء المتهور بعفو الله، مما يؤدي "إلى زيادة رجائهم على خوفهم". من هنا فكرته عن ضرورة الوعيد باعتبارها الصيغة المناسبة لطباع الإنسان. لكنه استكملها بما اسماه بالعدل في تعديل الخوف والرجاء(28). وهي ذات الرؤية التي نعثر عليها في مواقفه مما اسماه بأسس الدين من صوم وصلاة وحج وزكاة. فقد اعتبر الحج أفضل من الصدقة، إلا انه أكد على أن من الأفضل بالنسبة للغني البخيل تقديم صدقة درهم على قيام ليال وصوم رمضان، وإلا فان فعله يكون شبيها بمن يعالج مرض البطن بدواء صداع الرأس. فرجل كهذا، كما يقول الغزالي، لا ينفعه صيام مائة سنة وقيام ألف ليلة، بل لا يزيله إلا بإخراج المال(29). وهي الفكرة التي كانت تؤدي في تآلفه الفلسفي مهمة نفي التعصب المذهبي والدعوة إلى التسامح الديني باعتباره ميدان التصنيع الدائم لقيم الوجود الأخلاقي والروحي للأمة.

 

***

1. الغزالي: إحياء علوم الدين، ج1، ص116.

2. المرجع السابق، ج1، ص116.

3. المرجع السابق، ج1، ص116-117.

4. المرجع السابق، ج1، ص117-118.

5. المرجع السابق، ج1، ص119.

6. المرجع السابق، ج1، ص120.

7. المرجع السابق، ج1، ص120-121.

8. المرجع السابق، ج4، ص7.

9. المرجع السابق، ج4، ص7,

10. المرجع السابق، ج4 ص8.

11. المرجع السابق، ج4، ص8-9.

12. المرجع السابق، ج4، ص9.

13. المرجع السابق، ج4، ص9.

14. المرجع السابق، ج4، ص27.

15. المرجع السابق، ج1، ص120.

16. المرجع السابق، ج1، ص120.

17. المرجع السابق، ج4، ص27-28.

18. المرجع السابق، ج3، ص15.

19. المرجع السابق، ج1، ص121.

20. المرجع السابق، ج4، ص27.

21. المرجع السابق، ج3، ص16.

22. المرجع السابق، ج4، ص27.

23. المرجع السابق، ج3، ص14.

24. المرجع السابق، ج3، ص14.

25. المرجع السابق، ج3، ص15.

26. المرجع السابق، ج4، ص27.

27. المرجع السابق، ج4، ص27.

28. المرجع السابق، ج2، ص237.

29. المرجع السابق، ج4، ص137-138.

  

 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2210 السبت 25/ 08 / 2012)

في المثقف اليوم