قضايا وآراء

الايدولوجيا السياسية في منظورها للاخلاق في المجتمع العراقي / علي محمد اليوسف

منذ تأسيس أول حكومة عراقية في آب (1921) كانت الممارسات السياسية على صعيد التطبيق غير المعلن ورفع الشعارات الزائفة الغارقة في مثاليتها السمجة، اهم عامل في تدمير صدقية الحس الوطني العراقي وافقاد المواطن الثقة بنفسه وادخاله دوامة التشكيك والتساؤل هل حقا هناك مبادئ يتم تنفيذ الجزء اليسير منها؟ وهل التضليل الإعلامي في كبت الحريات وتغييب من يقول كلمة (لا) هي مفردات تتوخى خدمة الوطن والمواطن وتحسين اوضاعه المعيشية المتدهورة. وكأن ميادين الاصلاح على صفحات الصحف فقط. وفي اللافتات الموزعة في المناسبات على الشوارع. ولم يكن الامر يتعدى الابقاء على كراسي الحكم المتنفذة التي تسوق الناس إلى مطاحن الكوارث والاقتتال في عقد واحد من الزمن لا أكثر (مليون ونصف المليون شهيد ومعاقا مفقودا).

أذن كانت التنظيرات السياسية والاعلام الصحفي تقلب وتمسخ مقولات يتقبلها الانسان في حال تطبيقها ويمكنها تحقيق بعض من مصالح الناس المطلوبة في حياتهم ومعيشتهم لو صدقت واخذت حيز التنفيذ. وكانت ازدواجية عدم تطابق الطروحات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية وانفصالها عن الواقع المعيشي الميداني،في اوساط المجتمع العراقي الغاطس في الفقر والجهل والتخلف. والانكى من ذلك ان هذه الازدواجية العامة كانت في السابق والان تمر من امام السلطة الحاكمة وهي مؤشرة لديها دونما دراسة حسابات ومتابعة ما انجز على طريق معالجتها واغفال السلطة تأشير ملازمة الضعف والفعالية والصواب والخطأ في اقترانها بمبدأ التطبيق والتنفيذ الميداني في ان تنال تلك المقولات ثقة الشعب العراقي وزيادة تعبويتها حول الحكومة وما تنطوي عليه من قيم حضارية جرى تغافل انعدام مدياتها العادلة في التطبيق والمتابعة في محاسبة مختلس المال العام وقوت الشعب وتبديد ثروات البلد وموارده التي هي ملك وحق اجيال، وبالعكس من ذلك جرى منح الامتيازات والعطاءات على اختلاف اشكالها على وفق مزاجية واعتبارات مناطقية طائفية عشائرية في غالبيتها تخرج كل حالة مبدئية متميزة في المقولات والشعارات ان تأخذ حيز التنفيذ الصحيح والسليم او يضعها ضمن اتساق مبدئي ومعنوي اخلاقي وطني يرسخ الارتفاع بالمواطنة الصادقة وبناء مستقبل افضل للجميع.

واذا كان من الصحيح جدا ان النضال والعمل بين الجماهير يجعل من الخطأ التصور امكانية قياس المنجز وعدم المنجز في العمل السياسي والمنطلقات والمقولات المبدئية بالانتقائية الفردية على اسلوب وطريقة هبات وعطايا الخليفة. فان الاصح من ذلك هو في تعمد السلطة اغفال اسباب الاعاقة والتفريغ لكل المنطلقات السياسية المرفوعة كشعارات ان تكون في خدمة المجموع العام وفي معالجة بعض اخفاقات التطبيق، العكس تمت وفق انتقائية مزاجية تصورها الصحف والتلفزيون لتحسين وجه النظام وتكرس نزعة التكسب والاستجداء الاجتماعي في ممارسة الازدواجية على انها حالة طبيعية في الممارسة الاجتماعية والوطنية وكسب المنافع الوقتية الرخيصة. يساعد ذلك ان بناء هيكليات المؤسسة الحاكمة يقوم على ترسيخ اللامبدئية والانحرافات في السلوك الفردي والمجتمعي وازدواجية القيم حين عودت مؤسسات الدولة منح الهبات والتمليك وتوزيع الاموال والعطايا لكل ممارسة نفاقية وصراخ اجوف اعلى بما يلغي تداول اية قيمة مبدئية خارج اطار المزايدة والكذب الاستجدائي الرخيص لتصبح هذه الانحرافات البعيدة جدا عن السلوك الوطني السوي بمرور الزمن عامل تهديم محسوس بتأثيره السلبي المباشر في افراغ جميع حالات التضحيات الوطنية من المضامين المبدئية والصدق والنزاهة وتنمية روحية الايثار وبذلك تأخذ التضحيات ناتجها التعبوي الوطني النظيف في تقديم الخدمة كل الخدمة للمجتمع وليس للسلطة. وبالتالي لن تكون الممارسة السياسية شكلا من حالة الانتفاع المادي المالي في كل مقاييس اخذ الامور بنتائجها على صعيد بناء وطنية حقة واجتماعية صادقة وهو ما كان مفتقدا مطلوبا في السابق ومطلبا تخريبيا منظما بعد سقوط النظام السابق امعانا في تغييب وتهميش الضمير الوطني السياسي والاجتماعي الصادقين النزيهين وهو ما حصر المبدئية النظيفة لدى المواطن التي انتهت بالحتمية المتوقعة الحدوث في انتشار وعلى نطاق اجتماعي واسع تمظهرات اخلاقية وسلوكية متدنية جداً تعمل على اعاقة وتفريغ كل نزعة وطنية صادقة ان تأخذ دورها بدءاً من تغييب الرقيب الضميري في شراء الذمم وقتل روحية المبدأ الاندفاعية في نفسية المجتمع وليس انتهاءا بتدمير الاخلاق والسلوكيات التي تبيح انتهاك كل المحرمات وطنيا اجتماعيا، ثقافيا، وعلى كافة الصعد حتى اصبح للفرد من الحزب او العشيرة او الطائفة قبل غيره وكما هو حاصل ومتكرر الآن حظوة في كل خطوة يخطوها على طريق الانحراف عن المصالح الوطنية العليا والتمسك بالمزايدة الكلامية الشعارية والازدواجية في التصرف قولا وفعلا سعيا وراء سلوك ومردود انتفاعي مادي او وظيفي لا يقبل التأجيل ويعمق سلوكيات الدجل والتكسب والسرقات وصولا إلى ارتكاب افضع الجرائم وهو ما حصل في الاعوام التي تلت سقوط النظام السابق من تخريب همجي بشع للبلد.

النظم السياسية العراقية السابقة كان فشلها السياسي على صعيدي الداخل والخارج وسقوط كل شعارات المزايدات التضليلية التي لم يكن لها رصيد  في الواقع وحقائق الامور، لم يكن سقوطها فقط بتأثير عامل الزمن في مجاوزتها ومغادرتها وعامل الفشل في تطبيقها ايضا، إذ لم يكن هناك منطلقات ايديولوجية سياسية واضحة تسيطر على متغيرات ومستجدات الواقع الدائمية الحصول بل اكتفت النظم السياسية في صياغة منظورها السياسي في توخي كسب الاقناع المزيف والتعبوي التجهيلي وتعميمه على انه حقائق الامور لا غيرها بمتاجرات ومزايدات شعارية بعيدة عاجزة عن معالجة او تلبية حل ابسط المشاكل المزمنة التي تهم حياة الناس في الصميم. فلا التطبيق الصحيح والسليم موجود ولا وسيلة التنفيذ (التنظيم الحزبي او مرافق الدولة) بمستطاعها عمل شيء. فأصبحت واجهات المتاجرة بالكذب والنفاق هي طبائع الامور المرغوبة اجتماعيا وحكوميا معاً. مما جعل محاولة كشف الزيف والفساد يستقر في ظلام ودهاليز يأس امكانية اصلاح الامور حتى على مستوى التفكير في مراجعة النفس والنقد الذاتي. ان فشل الطروحات السياسية لاي نظام تكمن في سببين: الاول عامل (الخوف) عند عامة الناس في غياب حرية الكلام الصادق والنقد السليم وتشخيص الاخطاء والخلل وتسمية الامور بمسمياتها الحقيقية. والثاني في جعل المجتمع افرادا منفردين اجتماعيا كل واحد فيهم يبحث عن مصالحه الخاصة فقط وكيفية تحقيقها على حساب او بمعزل عن مصالح غيره في المجتمع. فتكون التعبئة الشعبية المعبر عنها بالتظاهرات والهتافات البليدة والتصفيق الاجوف قائمة في اغلبها على نفاق الفرد وازدواجيته المستمدة من نفاق وازدواجية الحزب او الكتلة السياسية التي ينتمي لها وكان للدولة دوراً مهماً لتنمية بذرة الانتفاع الفردي وتفشيها في المجتمع وتصبح مصالح المجتمع الجمعية في خبر كان حين تنتشر الرشوة ويعم الفساد والاهمال المتعمد واللامبالاة المقصودة المطلوبة من قبل اعداء هذا البلد. إن أكثر من 60% من الشعب العراقي اليوم محرومون ولحد الان من ابسط خدمات الحياة الانسانية. لذا يعتبر تحديد ما هو مبدئي اخلاقي وخدمي وطني هو معيار ومقياس بناء دولة انسانية وارساء قيم حضارية. اليوم المواطن المحروم من الامتيازات والهبات والمكارم السخية ينظر إلى المنتفعين في السلطة ويجد امامه اصحاب الثراء الفاحش والتسابق في مارثون نهب اموال الدولة ومواردها ابتداءا من اعلى هرم في السلطة رافق ذلك تعطيل ادنى فعالية تغييرية في التصدي لتصحيح مظاهر الانحراف والفساد تحت وطأة تغييب الضمير الاخلاقي والوطني. مما جعل هذا التكريس المنطقي الخاطئ المفروض بقوة قسوة التسلط وجبروته في فرض واقع مأساوي معيشي على انه حالة قدرية لا يستطيع الانسان العراقي التخلص او الفكاك منها ولا يجد في نفسه تفسيرا عقلانيا لها. وهذا الواقع رغم بشاعته كان مصدر راحة وترف ورضا وإثراء مادي لمستويات عليا مستفيدة من الدولة وحكمها من احزاب وكتل سياسية. وهذه المستويات كانت ولازالت تفهم او تتغابى بان هذا الواقع الشاذ المكرس بالحرمان المعيشي والانحراف السلوكي المتردي في المجتمع انما هو قلب معكوس لتضييع إلقاء تبعية غياب القيم والمعاني الوطنية الحقة وضياعها من غير أسف عليها في تعليقها على مشجب وقناعة زائفة هي لا طاقة للكثيرين على مواجهتها وهم جزءا من السلطة كي لا يخسروا امتيازاتهم فيكون الصمت عندهم وعند غيرهم رأس الحكمة وسيد الاخلاق.

هذا الانحدار نحو هاوية الفساد الاداري والمالي وبلا قرار لا يزال قائما اليوم بعد تغيير النظام السابق وعلى مستويات عليا مسؤولة بالدولة، الآن بأكثر كارثية ومأساوية. نفس المعادلة غير المشروعة القائمة على ثنائية مقياس أي عمل ومن أي نوع تعاد اليوم على اساس قياس مقدار الربح والخسارة المادية والمالية والوظيفية والانتفاع وكسب الامتيازات كما كانت في الماضي تقوم على تغييب المبدأ الاخلاقي والوطني للصالح العام.

وفي هكذا نموذج حكومي وشعبي منحرف وطنياً وسلوكيا اخلاقيا اجتماعيا هو من صنيعة الاحزاب والكتل السياسية. يريدونه انسانا فاقدا لضميره الوطني اجوف من كل قيمة انسانية مبدئية اجتماعية، معبأ بالركض اللاهث وراء الكسب الحرام وبأي وسيلة متاحة على حساب الاضرار بمصالح وحقوق الجميع كائناً من يكون، وهذا النموذج تحكم كل خطوة يخطوها حسابات المنفعة والسحت الحرام حتى اصبح هذا النموذج يتكاثر ويتناسل في نماذج لا حصر لها واصبحت ممارساتها اللاوطنية وسلوكها المنحرف من طبائع الامور التي اعتادها المجتمع وتعود عليها على كافة الاصعدة ومختلف مناحي الحياة في لامبالاة الاحزاب والكتل السياسية.

ذمة تساؤل كان ملحا في السابق ولازال يطرح نفسه اليوم، تساؤل يهدد مستقبل اجيال قادمة من العراقيين، هو كيف يمكن حل اشكالية التفاوت الطبقي الموروث سابقا والمتفاقم حاليا اللاأنساني في المجتمع العراقي؟ نسبة لا تزيد على 30% في المجتمع العراقي تملك كل شيء من املاك وعقارات وعملة نقدية صعبة داخل وخارج العراق، ومصالح تجارية مشبوهة وصفقات تهريب واختلاس الملايين من الدولارات، مقاولات وصفقات وهمية توفر لهذه الزمرة كل متطلبات المعيشة فوق الارستقراطية خارج العراق وداخله. يقابلها نسبة 60% وأكثر من شعب العراق لا تملك اكثر من كفاف يومها والحصة التموينية ان وجدت.

والسؤال ايضا وبأي وسيلة ووفق أي آلية سياسية او اقتصادية يتم ردم هذه الهوة الشاسعة من التفاوت المعيشي والاقتصادي؟ وما مصير اجيال من العراقيين من بعدنا أذا ما بقيت هذه التركة متوارثة لا يحدها الدين ولا يطالها القانون؟ غنى فاحش من جهة وفقر مطلق ميئوس من علاجه من جهة اخرى. يرافقه كل عام جديد ازدياد سكاني مضطرد مع سوء معيشة غير مسيطر عليهما، وبطالة مستشرية بين أوساط الشباب والعاطلين عن العمل لا علاج لها، مع موروث أكثر من مليوني امرأة ارملة ومطلقة وثلاثة ملايين طفل يتيم نسبة كبيرة من هؤلاء الأرامل او المطلقات هن المعيل الوحيد لأطفالهن يضاف إلى كل ذلك جوانب أخرى للمسألة في انتشار مخيف لهيمنة الجهل والتخلف التي تغذي بعض الأجندة الدينية والسياسية لأحزاب وكتل داخل وخارج العراق وفي دول جوار العراق في تحقيق مصالحها على حساب الشعب العراقي.

ومن المهم الاشارة إن استشراء الفساد المالي والاداري ولحد الان على اولوية مسبباته تقف الاحزاب والكتل السياسية ومريديها والمنتفعين بها، ومن هؤلاء انتقلت العدوى إلى المجتمع العراقي كأفراد. عدوى جواز مشروعية نهب اموال الدولة والسرقة والرشا والاستملاكات غير القانونية واستباحة هيبة القانون حين يستخدم غطاءا للتهريب والصفقات المشبوهة والاتجار بكل موارد البلد ومصالحه واهدافه الوطنية.

وكنتيجة حتمية لهذا التردي الاخلاقي والسلوكي المنحرفين حصد العراق ويحصد ويلات وكوارث اعمال التكفيريين والجريمة المنظمة وعصابات الخطف والابتزاز وغيرها. أن ركض بعض شخوص السلطة الحاكمة وموظفيها الذين تسندهم احزابهم وكتلهم السياسية وبمختلف مستوياتهم في المسؤوليات الرسمية الذي يركضون وراء الكسب المادي وافساد الذمم وشراء الضمائر في الولاءات والانتخابات، كل ذلك ألغى ويلغي بداهة وبشكل طبيعي جداً البعد والمعنى الانساني والهدف النبيل المنشود في ان يكون للمجتمع مؤسسات قانونية وحقوقية وقضائية تضع الامور في سياقها الصحيح وتردع وتأبى الاعتياش على مرور الفساد والجريمة والسرقات والنهب من امامها ولا تحرك ساكناً، كما ان غياب الممارسات الوطنية والأخلاقية السليمة من شأنها قتل الغيرة الاجتماعية التي تداس فيها مصالح الاخرين المشروعة بل حتى المتواضعة منها بالاقدام والارجل.

 

علي محمد اليوسف

العراق-الموصل

 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2215 الخميس 30/ 08 / 2012)

في المثقف اليوم