قضايا وآراء

التقاليد الفكرية والمنهجية الإسلامية العامة في نقد الأديان / ميثم الجنابي

والقضية هنا ليست فقط في أن الجزيرة هي مهد "الشعوب السامية"، بل والكيان الذي احتوى في أعماقه على تقاليدها القديمة وأعرافها وقيمها وتصوراتها وأحكامها المنحلة في كل ما له علاقة بوجود الإنسان وصلته بالطبيعة وما ورائها. فقد كانت تمثل مكان المخزون الدائم للموروث الحي، الذي يشكل الاعتراف الدائم بالأسلاف والانتماء الدائم إليهم والإقرار بشرعيتهم الوحيدة في التكفير والإيمان صيغتها الفجة. وليس اعتراف اليهود الدائم بأنهم على دين آبائهم سوى الصيغة "التوحيدية" لردود الوثنين العرب في مواجهتهم الأولى للإسلام بأنهم على دين آبائهم وأنهم وجدوا آباءهم يعبدون ما يعبدون. ومن هنا الصيغة المتكررة للنفي الإسلامي الأول القائل "قل لا اعبد ما تعبدون"!

وفيما لو تتبعنا تاريخ الصراع الفكري والعقائدي بين الإسلام والأديان الأخرى بما في ذلك اليهودية والنصرانية، فإننا نلاحظ امتداده التاريخي ما قبل الإسلام، أي منذ الاستقلال الأولى للاتجاه الحنيفي في الجزيرة، الذي وقف موقف الحياد من صراع النصرانية واليهودية. وهو حياد لم يكن معزولا عن ضعفهما. مع أن الجزيرة كانت بمعنى ما الملجأ الأمين والمتسامي للمضطهدين بما في ذلك اليهودية، فإنها كانت أيضا مدرسة الخلوة الروحية وتقوية الإرادة لرجال النصرانية الأوائل وحملة لوائها التبشيري، كما أشار إلى ذلك على سبيل المثال بولص في رسالته إلى أهل غلاطية من أن الله عندما أودعه سرّه منذ الأزل في أن يدعو بين البشر لابن الله، فانه لم يتصدق بحيوان ولم يذبح كبش فداء، كما انه لم يتوجه إلى اورسليم كما فعل من قبله الرسل، بل انطلق إلى الجزيرة العربية. وكما استقبلت بين الحين والآخر طريدي الأمم المناهضين للظلم والاضطهاد من أنبياء ورسل، فإنها قدمت في وقت لاحق الإسلام ليرمم معالم الوحدانية في العراق وسوريا وفلسطين. فهي المناطق التي شكلت على الدوام الامتداد العضوي للجزيرة وذروة تجليها الثقافي. وليس مصادفة أن تتحول هذه المنطقة لاحقا إلى ميدان احتدام واحتكاك الصراع العقائدي والفكري والحضاري بين بقايا التوحيدية التاريخية والدينية لليهودية والنصرانية وبين توحيدية الإسلام الصاعدة. وهو صراع تمثل بصورة مباشرة وكبرى النماذج الأولية للمواجهات التي تعرض لها الإسلام من جانب الوثنية العربية واليهودية وبدرجة اقل من جانب النصرانية. وهي مواجهات عكست عمق التحجر والانغلاق الذي ميز تاريخيا تقليدية الوثنية ونموذجها العنصري المنغلق في اليهودية. إذ لم يكن "جدلها" يتعدى حدود الرفض المباشر والاستهزاء الخشن المميز للنفسية المنغلقة على ذاتها. على عكس النصرانية التي تمثلت حتى صعود الإسلام تقاليد الشعوب الثقافية في العقل والوجدان، مع أنها حاربت وخربت الإنجازات المادية والمعنوية الكبرى لتلك الشعوب.

غير أن الصراع أدى أيضا إلى بلورت منظومة من المفاهيم والمعايير والمواقف في التعامل مع الأديان مبنية على مبادئ التمثل الشامل، أي النفي الثقافي المبني على قواعد التحدي العقلاني والمواجهة الأخلاقية الشاملة.

وهي منظومة قامت على جملة مبادئ أساسية منها التأكيد على مبدأ الوحدانية، وان الإسلام هو الممثل الحقيقي الدائم لهذا المبدأ. ووضع القرآن هذا المبدأ في جملة من آيات السور المكية، مثل "أن هذا لفي الصحف الأولى صحف إبراهيم وموسى". و"قالوا يا قوم انا سمعنا كتابا انزل من بعد موسى مصدق لما بين يديه ويهدي إلى الحق والى طريق مستقيم". وكذلك مبدأ إظهار الوحدانية المجردة، من خلال التأكيد على جوهرية الإسلام، باعتباره إسلاما للحق، كما في الآيات "أم تقولون إن إبراهيم وإسماعيل واسحق ويعقوب والأسباط كانوا هودا أو نصارى"، و"ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما". وكذلك مبدأ تمثيل المسلمين لحقيقة التوحيد في الديانات التوحيدية، كما في الآية "محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم سيماءهم في وجوههم من اثر السجود، ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل"، و"يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصار الله كما قال عيسى ابن مريم للحواريين: من أنصاري إلى الله؟ قال الحواريون: نحن أنصار الله".

وتضمنت هذه المبادئ العامة في أعماقها على فكرة النفي الدائم والبديل الشامل، لتي صاغها القرآن في آياته المتنوعة والموحدة عن ماهية وحقيقة التوحيد الإسلامي، بوصفه نفيا واستكمالا لما في اليهودية والنصرانية من حقائق جرى تحريفها وتزييفها في الأقوال والأعمال. وبلور القرآن في مجرى تكامله التاريخي الأول خمس مواقف عامة كبرى من اليهودية والنصرانية.

 الموقف الأول ويقوم في ضرورة التمييز بين المهتدين والفاسقين، انطلاقا من انه "ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله أناء الليل وهم يسجدون. يؤمنون باله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات أولئك من الصالحين". و"منهم مهتد وكثير منهم فاسقون". الموقف الثاني ويقوم في رفض الجدل معهم، انطلاقا من أن "لنا أعمالنا ولكم أعمالكم لا حجة بيننا وبينكم. الله يجمع بيننا واليه المصير"، إذ أن "الذين يحاجون في الله بعد ما استجيب له حجته داحضة عند ربهم". الموقف الثالث ويقوم في رفض التعصب والغلو، كما في الآية "وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى. تلك أمانيهم! قل: هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين"، و"قالت اليهود ليست النصارى على شيء، وقالت النصارى ليست اليهود على شيء وهم يتلون الكتاب، كذلك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم". و"يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق". الموقف الرابع يقوم في إعلان تحريف اليهود والنصارى للوحي، ومن ثم لا قدسية في "الكتاب المقدس" الذي بين أيديهم. ويميز القرآن بين نوعين من التحريف. الأول فكري وينبع من الغلوّ الديني ومن ثم الإساءة لحقيقة التوحيد، كما في الآية "أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كم الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون". و"جعلنا قلوبهم قاسية يحرفون الكلم عن مواضيعه". و"لقد كفر الذين قالوا أن الله هو المسيح بين مريم"، كما "كفر الذين قالوا أن الله ثالث ثلاثة، وما من اله إلا اله واحد"، وما "المسيح بين مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل". والثاني عملي وينبع من كون "كثير من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله". و"إن اليهود والنصارى قد "اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا لعبدوا إلها واحدا". الموقف الخامس ويقوم في إعلان الصراع ضد انحرافهم عن الحق، كما في الآية "ولن ترض عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم. قل: إن هدى الله هو الهدى". ووضع مهمة الصراع في دعوته القائلة "وقاتلوا الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر ولا يحرمون ما حرّم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون". وهي دعوة مقيدة بموقف الإسلام من الإقرار بشرعية "أهل الكتاب" واستثناء الفاسقين من المهتدين في كل موقف بما في ذلك الجزية، كما في الآية "وان من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما انزل إليكم وما انزل إليهم خاشعين لله". وإذا كان الموقف من اليهود اشد معارضة، فلأنهم كانوا اشد قسوة في معارضتهم للنبي والتحريض عليه. بحيث صورة القرآن مسار التحجر والقسوة في قلوبهم في إحدى آياته قائلا "ثم قست قلوبهم من بعد ذلك، فهي كالحجارة أو اشد قسوة، وان من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار". بينما كان الموقف من النصارى اشد لينا وتعاطفا بفعل ما في النصرانية من أولوية للمحبة والغفران، كما في الآية "وقفينا بعيسى ابن مريم وآتيناه الإنجيل وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة". و"لتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا، الذين قالوا "إنا نصارى"، أنهم لا يستكبرون. وإذا سمعوا مما انزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق".

وتجدر الإشارة هنا إلى أن هذه المبادئ العامة والمواقف المترتبة كانت حصيلة الصراع الأولي الذي فرض على الإسلام في مرحلة ظهوره الأول حتى وفاة النبي محمد. وبالتالي ليس "التناقض الظاهري بين المواقف سوى النتيجة الطبيعية للصراع آنذاك والملازم في نفس الوقت لسعي الإسلام فرض توحيديته الجديدة بوصفها ردا شاملا وبديلا واقعيا وعقائديا وروحيا على مستوى الجزيرة العربية وخارجها. وهو الأمر الذي تجلى بوضوح في تزاوج وتماشي هذه الجوانب إثناء نشر الإسلام والتبشير به وما ترتب عليه من ممارسة الإقرار بشرعية وحرية الأديان وفرض الجزية، في مجرى بناء الخلافة.

ومع هدوء القوة الصاعدة للإسلام وسيطرته الجغرافية الواسعة وترسخ عقيدته ومبادئه الشاملة في الخلافة وشعوبها المتوحدة بالإسلام، أخذت تبرز إلى الأمام أولويات الصراع والمواجهات الفكرية بين ممثلي مختلف الأديان. وقد جاء الهجوم الأول المضاد من جانب الكنيسة الشرقية. ولم يكن هجومها المباشر وغير المباشر، المنظم وغير المنظم في الأغلب سوى التعويض الباهت عن هزائم الدولة الرومية و"حرابها" الروحية المتكسرة في الكنائس المترامية على أطراف جغرافيتها المتهرئة آنذاك. ولم يكن ذلك في الواقع سوى سبب من أسباب الصراع ووجه من أوجهه. وهو الأمر الذي نعثر على مفارقته التاريخية في صراع الإسلام في البدء مع اليهودية، وتمحوره لاحقا بالضد من النصرانية. إضافة لذلك أن للنصرانية في العراق وسوريا وفلسطين ومصر رصيدها التاريخي في ميادين الفكر والثقافة. بينما لم تتقن الموجة العربية الإسلامية الصاعدة تقاليد وأساليب الصراع الفكري بعد. وحالما اتخذ الاحتكاك طابع المواجهة بين تيارين كبيرين في التاريخ والثقافة، فانه أدى إلى بروز معالم الوحدة والاختلاف اللتين أخذتا بالتعمق لاحقا مع مجرى التطور الحضاري. إذ لم يجد يوحنا الدمشقي في الإسلام حينذاك أكثر من "هرطقة نصرانية"، بينما أعتبر المفكرون والمؤرخون المسلمون في وقت لاحق النصرانية مجرد تيارات متباينة من حيث ابتعادها واقترابها من حقيقة الإسلام. ومع ذلك ظلت الخطوط العامة للصراع والمواجهة والحوار محددة بالمبادئ العامة التي بلورها القرآن في موقفه من الأديان. أما التغيرات التي طرأت عليها فإنها كانت مرتبطة أساسا بتطور وتعمق الجدل الفكري بين المدارس الإسلامية نفسها، وكذلك بتطور الدراسات التاريخية والدراسات المقارنة في ميادين الكلام والفلسفة والأديان والأمم.

ارتبطت الصراعات الفكرية الأولى في تاريخ الإسلام بالقضايا السياسية. وافرز هذا بدوره التيارات السياسية والفكرية الأساسية والتأسيسية من خوارج وشيعة ومرجئة وقدرية ومعتزلة. وهي مدارس مختلفة ومتباينة، احتوت على كل النماذج الأساسية المميزة لحركة الحضارات الكبرى من عقلانية ولا عقلانية، تقليدية ومعارضة للتقليد، متحررة ومتزمتة. كما لم يخل أي جانب من جوانب الإبداع النظري والعملي في ميادين الأدب والكلام والفلسفة واللغة والتاريخ عن الصراع والجدل والحوار. ووجد ذلك بدوره انعكاسه الخاص في علم الملل والنحل بوصفه علم الموسوعات الفلسفية والدينية. وهي موسوعات تمثلت وعبرّت في مجرى تطورها عن طبيعة الصراعات الفكرية وحوارها، وبالتالي تعمق وترسخ تقاليد الرؤية العلمية عنها.

وفيما يخص الأديان، فقد بدأ الاهتمام العلمي بتاريخها منذ زمن مبكر في الحضارة الإسلامية. إذ بدأ البحث في جمع آثار القدماء وأديانهم منذ القرن الأول للهجرة. وظهرت أولى الكتب المتخصصة بهذا الصدد في القرن الثاني للهجرة على يد ابن الكلبي كما في مؤلفه (كتاب الأصنام) أو كتاب أديان العرب "الجاهلية". وتزداد هذه الدراسات والأبحاث بالتوسع والتعمق في القرن الثالث للهجرة، كما هو الحال في كتابات الكندي (رسالة في افتراق ملل التوحيد) والنوبختي (كتاب الآراء والديانات) وبين صرصر (ت 293) في قصيدته النونية التي احتوت على أربعة آلاف بيت، ومحمد بن احمد الترمذي (ت 295) في كتابه (اختلاف أهل الصلاة في الأصول)، وفي القرن الرابع للهجرة في كتابات أبو يزيد البلخي (  322) وبالأخص في كتابه (شرائع الأديان) والنسفي (ت   318) في كتابه (الرد على أهل البدع والأهواء) وفي القرن الخامس في كتابات محمد بن عبيد الله المصبحي (ت 420) في كتابه (درك البغية في وصف الأديان والعبادات) والبيروني (ت   440) في (ما للهند من مقولة) وأبو المعالي محمد بن عبد الله (ت  485) في كتابه (بيان الأديان) وكثير غيرها.

فإذا كانت الدراسات الأولى مرتبطة أساسا بالفرق الإسلامية كما هو الحال عند الكعبي والاشعري وغيرهم، فإنها أخذت في مجرى تطور الحضارة الإسلامية على احتواء فرق الأديان الأخرى والمدارس الفلسفية من نصرانية ويهودية ومانوية وزرادشتية وبراهمة وغيرهم كما هو الحال عند الباقلاني والبغدادي وابن حزم وغيرهم. بينما ستظهر في وقت لاحق دراسات مستقلة متعلقة بمقارنة الأديان كما هو الحال عند البيروني (ت-440).

وعمقت هذه الدراسات الكثير من نتائج الصراع الفكري والعقائدي، وكشفت في نفس الوقت عن التأثير المتبادل بين مختلف الاتجاهات. إضافة لذلك بينت في مواقفها وتحليليها الكثير من الجوانب التاريخية المتعلقة بظهور الأديان وخصوصياتها وكيفية نشوء فرقها ومذاهبها. إلا أن ذلك لا يعني تشابهها في الموقف من الأديان. أي أننا نرى نفس الصورة الكبرى التي ميزت مواقفها من الإسلام وفرقه. فهناك من استعرضها كما وصلت إليه، وهناك من حاول تحليلها بصورة موضوعية وحيادية، بينما انتقدها البعض وهاجمها الآخر. وهي مواقف حددها في الأغلب منهجية المؤرخ والمفكر وانتمائه الفرقي (بالمعنى الإسلامي) والأسباب المباشرة القائمة وراء تناوله إياها. إلا أن ما يميز هذه الدراسات هو ارتقائها النسبي مقارنة بدراسة الفرق الإسلامية. بمعنى أنها استفادت من أساليبها السابقة في تحليل الفرق الإسلامية ونقدها.

كانت تجربة التعامل مع الفرق الإسلامية مقدمة عمقت الوعي الذاتي وسلحته في نفس الوقت بأساليب الرؤية العقائدية والفلسفية في التعامل مع الآخرين، أي أن الجدل مع الأديان الأخرى لم تحدده السياسة وتأثيراتها المباشرة في المواقف الفكرية. مما أعطى للموقف من الأديان الأخرى صيغة الجدل العقائدي الديني العام. الأمر الذي نلاحظه في القرنين الأول والثاني الهجريين في الموقف من النصرانية واليهودية. بينما تغيرت الحالة نسبيا بعد ذلك، رغم أن العناصر الجوهرية الكبرى في الموقف من الأديان الأخرى (التوحيدية) ظلت كما هي. فهي لم تظهر في القرنين الأول والثاني بفعل السيادة العربية الإسلامية وانتصاراتها العسكرية الكبرى على النطاق العالمي وكذلك بفعل الموقف الإسلامي من "أهل الكتاب"، ومعارضته للجدل، والتسامح العميق المميز للإسلام بشكل عام وفي مراحل صعوده الثقافي بشكل خاص. وهي أسباب نرى ملامحها الجلية في تعدد الفرق واختلافاتها وتنوع الأديان وحرية أتباعها في ممارسة عباداتهم ومعتقداتهم، بما في ذلك اشتراكهم في الحياة الاجتماعية والعلمية والإدارية للدولة، واحتلالهم لمواقع متقدمة من السلطة (كتّاب وأطباء وندماء). وهي ظاهرة بدأتها الخلافة الأموية ووسعتها الخلافة العباسية. فإذا كانت الدولة الأموية قد قربت النصارى أساسا، فان العباسية أشركت النصارى واليهود والمجوس والصابئة وغيرهم. واحتوت هذه الظاهرة في أعماقها على دبيب الصراع الخفي بين الأديان أيضا، باعتباره جزءا من عملية حضارية موحدة كبرى. وتشكيل أساليب علم الكلام وجدله مع الأديان نموذج عمليا لذلك.

فقد عكس علم الكلام مختلف المواقف من الأديان بالشكل الذي ميز خلافات فرقه ومدارسه الكبرى والصغرى. إذ نرى في مواقفه منها صيغا معتزلية واشعرية وظاهرية وغيرها. غير أن ذلك لا يعني وجود خلافات جوهرية تامة بين هذه المدارس الإسلامية من الأديان الأخرى. إننا نعثر على اشتراكهم في المواقف الأساسية الكبرى فيما يتعلق بالدفاع عن الإسلام ومبادئه الكبرى وأفضليته. وقد أدت هذه العملية إلى تعميق هوة الخلاف بين الإسلام والأديان الأخرى من جهة، وساهمت في تعميق الرؤية العلمية والمواقف النقدية من جهة أخرى. ووجد ذلك انعكاسه الأولي فيما تشير إليه المصادر التاريخية وكتب السير عن المؤلفات المتعلقة بدراسة الأديان من جانب اغلب المدارس والفرق الإسلامية. فمن بين المعتزلة تجدر الإشارة إلى مؤلفات الأصم (ت-200) مثل كتاب (الرد على اليهود)، ومؤلفات العلاّف أربعة كتب أحدها على اليهود وآخر على النصارى وثالث على عمار النصراني ورابع عن أهل الأديان. كما ألف المردار (ت 226) كتاب الرد على النصارى وكتاب الرد على أبي قرة النصراني. أما أبو عيسى الوراق (ت 247) فتنسب له أربعة كتب ثلاثة منها في الرد على النصارى الكبير والأوسط والصغير، وكتاب في الرد على اليهود. وكتب الجاحظ رسالة (الرد على النصارى). كما كتب من بين ممثلي الفرق الإسلامية الأخرى كالجبرية والاشعرية وغيرهم كتبا عديدة بهذا الصدد مثل كتاب ضرار بن عمرو في (الرد على أهل الملل) وكتاب (الرد على النصارى)، كما صنف النوبختي كتابا عن (الآراء والديانات)، وكتب ابن الراوندي جملة رسائل في مهاجمة الأديان، كما تناول هذه القضايا الباقلاني في كتابه (التمهيد)، والجويني في (الإرشاد) وفي (شفاء الغليل فيما وقع في التوراة والإنجيل من التبديل).

وفيما لو جرى تكثيف الفكرة العامة والسياق العام لتقاليد نقد الأديان في الثقافة الإسلامية فمن الممكن حصرها بما يلي: كان نقد الأديان في الثقافة الإسلامية جزءا من بحثها عن اليقين. وذلك لان هذه الانتقادات جرت ضمن إطار التأسيس لما تدعو بالتوحيد الحق. إذ لم يكن اهتمامها موجها من اجل الكشف عن التوثيق والتدقيق في المصادر بقدر ما كان موجها من اجل بيان طبيعة الابتعاد عن ماهية الحق كما جرى إدراكه ضمن مفاهيم التوحيد الإسلامي. ولم يعن ذلك أنها أهملت تأمل وتتبع المصادر التاريخية، بقدر ما أنها وضعت أولوية اهتمامها في التدليل على أن اليقين الحقيقي يفترض كحد أدنى القبول بالعقائد الكبرى التي بلورها الإسلام عن التوحيد، باعتبارها تجسيدا معقولا له. وهو ما سأتناوله في أبحاث لاحقة.

 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2217 السبت 01/ 09 / 2012)


في المثقف اليوم