قضايا وآراء

المعلومات وطبيعة الواقع .. من الفيزياء إلى الميتافيزياء / حسن عجمي

مفاده أن المعلومات أساس الكون والوجود. هذا الكتاب من إعداد  بول ديفيز ونيلز جريجيرسن  ويحتوي على مجموعة أبحاث لعلماء مختلفين رغم اتفاقهم على أولوية المعلومات ودورها الجوهري في صياغة العالم. فمثلاً، بالإضافة إلى شرح ديفيز لهذا النموذج العلمي وأصوله التاريخية، يوضح عالم الهندسة الكمية سيث لويد البرهان الأساسي على صدق هذه النظرية.  في هذا المقال نرتحل إلى عوالم هذا النموذج الفكري الذي يجمع بين الفيزياء والميتافيزياء.

يؤكد  الفيزيائي بول ديفيز على أن مفاهيمنا التقليدية حول المادة والعالم المادي لم تعد مقبولة من جراء التطورات الثورية في علوم الفيزياء والبيولوجيا . لقد سيطرت لقرون عدة فكرة الفيزيائي الكبير نيوتن القائلة بأن المادة مكوّنة من جسيمات صلبة وغير متجزئة وأن عالمنا محكوم بقوانين طبيعية حتمية قادرة على وصف ما سيحدث في المستقبل على ضوء الحالات الفيزيائية الموجودة في الحاضر والماضي . هذا هو الاتجاه المادي في العلم الذي يعتبر أن كل الأشياء فيزيائية مادية وأن كل الأنظمة الفيزيائية هي مجرد مجموعات من الأجسام والجسيمات المادية المحكومة بقوانين حتمية . وبذلك الأشياء كافة والتي من ضمنها الإنسان والمجتمع من الممكن بحق تفسيرها من خلال أجزائها المادية وتفاعلاتها الكيميائية. لكن كما يشير ديفيز كل هذا تغير مع الثورة الاحتمالية في العلوم التي تصر على أن العلم يحدّد احتمال حدوث الأشياء بدلاً من حتمية حدوثها، وبذلك تحوّلت الحتمية إلى نظرية ميتافيزيائية بدلاً من نظرية فيزيائية علمية راسخة. تمثلت هذه الثورة الاحتمالية في نظريتي الثرمودينميك وميكانيكا الكم. تقول نظرية الثرمودينميك إن دراسة السوائل والغازات لا تتم سوى من خلال مناهج إحصائية تُظهر احتمال انتشار هذه السوائل أو تلك الغازات، بينما نظرية ميكانيكا الكم تعتبر مثلاً أن درجة احتمال أن يكون هذا الجسيم جسيماً تساوي درجة احتمال أن يكون الجسيم ذاته موجة بدلاً من جسيم لأن بالنسبة إليها من غير المُحدَّد ما إذا كان الجسيم جسيماً أم موجة

   (    Editors : Paul Davies and Niels Gregersen : Information and the Nature of Reality:  From Physics to Metaphysics. 2010. Cambridge University Press).

من المنطلق نفسه، خسر مفهوم " المادة " استخدامه في العلم وحلت مكانه مفاهيم أكثر قدرة على أن تُحسَب كمفهوم الكتلة ومفهوم الجاذبية ما أدى في النهاية إلى انهيار أسطورة المادة واستبدالها بمفهوم المعلومة أو المعلومات في العلم المعاصر بفضل الثورات العلمية المتلاحقة. فمثلاً، تقول نظرية أينشتاين إن المادة تتحوّل إلى طاقة، وبذلك بدأ التفكير في تعرية المادة من ماديتها. من جهة أخرى، قضت ميكانيكا الكم على مفهوم المادة التقليدي نهائياً لأنها تعتبر أنه من غير المُحدَّد ما إذا كان الجسيم جسيماً أم ليس جسيماً بل موجة . كما أن ميكانيكا الكم تقول إن التقلب الكمي يصيب كل شيء وبذلك يجعل كل الأشياء غير ثابتة ما يتضمن عدم ثبوت العدم نفسه وخلق جسيمات افتراضية تولد من العدم ومن ثم تزول بسرعة هائلة. وبفضل هذه التقلبات الكمية ينشأ الكون من العدم. من هنا، غيّرت ميكانيكا الكم نظرتنا إلى المادة ما استدعى إعادة قراءة مفهوم المادة على ضوء المعلومات بدلاً من قراءتها تقليدياً على أنها صلبة وغير مختزلة إلى مفاهيم أخرى. أما البيولوجيا فأكملت هذه الثورة ضد مسلّماتنا الموروثة حول المادة من خلال اعتبار أن أجزاء الجسد الحي تتفاعل بفضل تبادل المعلومات فيما بينها. فمثلاً، الجينات تنقل المعلومات المسؤولة عن تشكيل الجسد الحي  من الآباء والأمهات إلى الأبناء ومن ثم إلى الأحفاد. هكذا أمست الخلية سوبر كومبيوتر يحسب المعلومات. من هنا، يستنتج ديفيز أنه لا بد من قلب المعادلة التقليدية في العلم. فبدلاً من اعتبار أن المكوِن الأساسي للكون هو الرياضيات ومعادلاتها ومن ثم الفيزياء ومن ثم المعلومات، لابد من اعتبار أن المعلومات تشكّل العناصر الأساسية في بناء الكون وعلى ضوئها تنشأ قوانين الفيزياء ومن ثم المادة. هكذا بالنسبة إلى ديفيز لم تعد المادة هي العنصر الأولي المسؤول عن تكوين العالم بل أصبحت المعلومات هي المصدر الأولي لبناء العالم وظواهره كافة. وبما أن الكومبيوتر هو خير مثل على حسبان المعلومات وانتقالها، إذن من الطبيعي اعتبار العالم مجرد كومبيوتر متطور (المرجع السابق).

بالإضافة إلى ذلك، يتفق عالم الهندسة الكمية سيث لويد مع مسلّمات ديفيز فينظر إلى  الكون على أنه كومبيوتر متطور يقوم بحسابات رياضية. بالنسبة إلى لويد، كل نظام فيزيائي عبارة عن عملية حساب للمعلومات. فأي نظام فيزيائي يحتوي على معلومات ويتكوّن منها ومن عملية حسابها. أما تغير أي نظام فيزيائي فهو مجرد تحوّل في عملية حساب المعلومات. من هنا، من الممكن تصوّر الأنظمة الفيزيائية كافة على أنها حسابية كالكومبيوتر تماماً، ولذا يصف لويد الكون على أنه كومبيوتر ويفسّره على ضوء أنه يتشكّل من حسابات للمعلومات كالتي يتضمنها الكومبيوتر ويتشكّل منها. بالنسبة إلى لويد، كل الأشياء ومن بينها الذرات والجسيمات كالإلكترون والفوتون تحتوي على معلومات، وأي تفاعل بينها ليس سوى عملية تحويل للمعلومات. فالكون كومبيوتر كمي . لكن ماذا يحسب الكون؟ يجيب لويد قائلاً إن الكون يحسب ذاته أي تصرفه بالذات ( المرجع السابق ).

يشرح لنا لويد اختلاف الكومبيوتر الكمي عن كومبيوتراتنا العادية. فالكومبيوتر الكمي يُبنَى على ضوء ميكانيكا الكم، وبذلك يتخذ صفات النظام الكمي. بالنسبة إلى ميكانيكا الكم، الموجات تتصرف كالجسيمات، والجسيمات تتصرف كالموجات، والشيء نفسه قد يوجد في مكانين مختلفين في الوقت ذاته. على هذا الأساس، الكومبيوتر الكمي ينجح في القيام بملايين من الحسابات معاً. ففي هذا الكومبيوتر تشارك كل ذرة وإلكترون وفوتون في تسجيل المعلومات وحسابها. من هنا، يكتسب الكومبيوتر الكمي قدرة هائلة على القيام بحساباته بدقة وسرعة لا نعهدها في كومبيوتراتنا التقليدية. من وجهة النظر العلمية، من الممكن بناء هذا الكومبيوتر الكمي المتطور رغم أننا حالياً لم نتمكن من إنشائه. وبما أن الكون بكل أجزائه وطاقاته ومواده يمتلك تلك القدرة الهائلة على تحقيق حساباته التي يمتلكها الكومبيوتر الكمي المتطور، إذن يستنتج لويد أنه لا يوجد فرق بين الكومبيوتر الكمي والكون. وبذلك الكون ليس سوى كومبيوتر كمي متطور (المرجع السابق).

لكن مما يتكوّن هذا الكومبيوتر الكوني؟ يجيب لويد بأن قوانين ميكانيكا الكم تشكّل الكومبيوتر الكوني بينما التقلبات الكمية هي التي تجعله يعمل. بالنسبة إلى ميكانيكا الكم، مبدأ اللامُحدَّد يحكم عالم ما دون الذرة؛ فمن غير المُحدَّد مكان الجسيم وسرعته في آن . فالكون عرضة لتقلبات كمية تجعله غير مُحدَّد في ماهيته وصفاته. وهذه التقلبات الكمية تزوّد الكون بمعلومات جديدة باستمرار وكأنها الأفراد والعلماء الذين يتحكمون بعمل الكومبيوتر. من هذا المنطلق، يفسّر لويد التعقيد في الكون على النحو التالي: في النظام الكومبيوتري ثمة برامج بسيطة مع معلومات كثيرة تؤدي إلى نشوء نتائج معقدة. وبما أن الكون كومبيوتر كمي حيث برامجه هي قوانين ميكانيكا الكم بينما معلوماته تتدفق من التقلبات الكمية، إذن من الطبيعي أن ينتج الكون (بوصفه كومبيوتراً كمياً) التعقيدات الموجودة فيه. هكذا يفسّر لويد وجود التعقيدات في  الكون على ضوء نموذجه العلمي القائل بأن الكون مجرد كومبيوتر. وبذلك يكتسب نموذجه قدرة تفسيرية، وهذا ما يتطلبه أي نموذج علمي. من هنا، تملك النظرية القائلة بأن الكون كومبيوتر متطور فضائل معرفية منها تفسير نشوء التعقيدات في الكون ما يجعلها مقبولة علمياً (المرجع السابق).

يعتبر العديد من العلماء كالفيزيائي ديفيز والمهندس لويد أن الكون كومبيوتر متطور . وحجتهم الأساسية هي التالية: كل نظام فيزيائي عبارة عن عملية حساب للمعلومات، لكن الكومبيوتر هو أيضاً يتكوّن من عمليات  حسابية تحسب المعلومات. إذن كل نظام فيزيائي هو كومبيوتر متطور . لكن الكون يتشكّل من أنظمة فيزيائية، إذن الكون مجرد كومبيوتر متطور . الآن، يعاني هذا البرهان من مشكلتين أساسيتين هما : أولاً، ليس الكومبيوتر وحده هو الذي يتكوّن من عمليات حسابية تحسب هذه المعلومات أو تلك، بل العقل أيضاً يتكوّن من عمليات حسابية تُعنَى بحساب المعلومات. فمثلاً، ينتقل العقل من مقدمات ليصل من خلالها إلى نتائج معينة وبذلك العقل يقوم بعمليات حسابية على ضوئها يهتدي إلى نتائج فكرية معينة. لكن الحجة الأساسية لكل من ديفيز ولويد على أن الكون كومبيوتر متطور تعتمد على أن الكومبيوتر يتكوّن من عمليات حسابية. وبما أن العقل يتكوّن أيضاً من عمليات حسابية إذن من الممكن الاستنتاج بحق بأن الكون عقل بدلاً من الاستنتاج بأن الكون كومبيوتر. هذا لأنه إذا كان كل نظام فيزيائي هو عبارة عن عملية حساب للمعلومات، وبما أن العقل أيضاً يتشكّل من عمليات حساب للمعلومات، إذن الكون المتكوّن من الأنظمة الفيزيائية هو عقل.

كل هذا يدلنا على التالي : إذا كان منطق حجة ديفيز ولويد منطقاً مقبولاً، إذن المنطق نفسه يدل على أن الكون عقل ما يشير بقوة إلى أنه من غير الضروري الاستنتاج بأن الكون كومبيوتر متطور من منطلق ما نعلم من مقدمات لأنه من الممكن بحق الاستنتاج بأن الكون عقل متطور بدلاً من كومبيوتر متطور. هكذا نصل إلى نتيجة أنه من غير المحدد ما إذا كان الكون كومبيوتراً متطوراً أم عقلاً متطوراً . وبذلك من غير المُحدَّد ما هو الكون . ثانياً، إذا كان الكون عمليات حسابية للمعلومات، وبما أن الكومبيوتر كما العقل يتشكّل من عمليات حسابية للمعلومات، إذن قد نستنتج بحق أن الكون شبيه بالكومبيوتر المتطور أو شبيه بالعقل المتطور بدلاً من الاستنتاج بأن الكون هو كومبيوتر متطور أو عقل متطور . من هنا، منطق حجة العلماء السابقين يدل على أن الكون قد يكون كومبيوتراً أو عقلاً أو مجرد شبيه بهما، وبذلك منطقهم يشير بالحقيقة إلى أنه من غير المحدد ما إذا كان الكون كومبيوتراً أم عقلاً أم مجرد شبيه بالكومبيوتر والعقل . هكذا من غير المحدد ما هو الكون . عالم من معلومات عالم غير مُحدَّد. وعالم غير مُحدَّد عالم يرفض أن نحدده فكرياً . هكذا يدعونا العالم إلى التفكير المستمر فيما هو وكأنه وُجد خصيصاً لكي يستمر التفكير البشري.

 

 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2218 الاحد 02/ 09 / 2012)

في المثقف اليوم