قضايا وآراء

الأمراض النفسية في الأغاني العراقية / قاسم حسين صالح

وقد يكون هذا الادراك موضوعيا سليما يمنح البهجة ويفلّ عن الانسان شرنقته فيطلقه ممتلئا بالنشوة والقوة في فضاء لا حدود له، وقد يكون ذاتيا ملتويا يزوي صاحبه في مكان محصور فيغدو له الكون الفسيح أضيق من عنق الزجاجة.

والأغنية من اكثر المواد الاعلامية شيوعا وتأثيرا، وربما كانت اكثر المؤشرات التي يعتمدها الباحثون في تحليلهم الحياة النفسية والاجتماعية للشعوب.

ان الكثير من أغانينا العاطفية مليئة بامراض نفسية، أخطرها المازوشية التي تعني ان الفرد لا يحصل على اللذة والمتعة والمشاركة العاطفية الا من خلال ايلام الذات. ولك أن تعدّ في أغانينا ما لا يحصى: «اجرح... اجرح... وعذّب على كيفك»، «عذّبني اكثر وآني احبك اكثر»، «تعذّبني بليالي جفاك... تلوعني وأظل اهواك»، «حيل اسحن كليبي سحن... وغركني بالهمّ والحزن».

وتنفرد أغانينا بصفة مازوشية غريبة هي التباهي بالحزن! فمن المعقول أن يتباهى الانسان بما يملكه من مال، املاك، اولاد، جاه، حظ... اما ان نتباهى بأينا اكثر حزنا، فتلك بالتأكيد حالة مرضية. والشائع انه ما ان يحضر شاعران شعبيان، من ناظمي الاغاني، في ندوة تلفزيونية حتى تراهما يتباريان «بالدارمي» بما هو أوجع حزنا وافدح مصيبة. والمؤشر الاخطر، أن تقويم الناس لهذا الشاعر او ذاك قائم على أساس هذا المعيار المازوشي! حتى صار حالنا في التباهي بالحزن كحال تلك المرأة التي ذهبت الى صديقتها تشكو همومها فقالت: «ما تدري بيّ الناس، العلّه خفيه... بالكلب سبع زروف ويلاه يخيه»، أي ان الناس لها الظاهر يا أخيتي ولا تدري بأن الهموم احدثت سبعة ثقوب في قلبي. وكان المفروض بصديقتها ان تهوّن عليها الامور، لكنها اجابتها بالدارمي ايضا: «نيالك بدنياك بس سبعه زروف... الكلب منخل صار بيه العمى يشوف»، اي: سعيدة انت اذا كان بقلبك سبعة ثقوب فقط، فقلبي صار منخلا يرى من خلاله حتى الاعمى! وهذا ما صار شائعا بيننا... التباهي باحزاننا. وربما ان الله خصنا بالزيادة منها اكثر من باقي البشر، لأننا نحبها! ولك أن ترى التغالب بضرب الخدود التي تنفرد بها «اللطّامات» العراقيات!

وثمة معلومة علمية هي ان البحوث الحديثة أشارت الى ان فاعلية الدماغ تتراجع حين يتعرض الفرد الى انفعال الحزن، وان الضغوط المصحوبة بالتهديد تؤثر بشكل خطير في كيميائية الدماغ. ولـ33 سنة العراقي «يدق ويلطم» والدارمي يتولى دور الندّابة البارعة بتأجيج الحزن، والاغنية تشيعها حتى صيرت التلذذ بالحزن مزاجا عاما بين الناس.

ان العمر الذهبي للأغنية العراقية هو عقد السبعينيات، ففيه حافظت على أصالة وعذوبة اغاني الستينيات والخمسينيات (داخل حسن، ناظم الغزالي، الكبنجي، يوسف عمر، سليمه مراد، زهور حسين...) كان الطرب فيها للكلمة واللحن والصوت، فمن من جيلنا لا يطرب حين يسمع: «مرينه بيكم حمد، الليلة حلوه... حلوه وجميله، كلي ياحلو منين الله جابك،خطار عدنه الفرح». فيما الجيل الجديد صار يرقص فرحا لأغنية «يمه كرصتني عكربه».

ان الأغاني تعكس القيم السائدة بين الناس، فقبل اربعين سنة كانت قيم المجتمع فيها اصالة وتماسك، واخلاقه كانت مهذبة في الحب والعواطف عكستها أغان مهذبة نظيفة، فيما الآن صارت الأغنية العراقية تافهة، وتحديدا تلك التي التقطها مخرجون خبثاء أدركوا ان جيلا كاملا من الشباب عاش أربع حروب صار في حاجة الى اشباع ما حرم منه فعمدوا الى توظيف «الكيولية» باعادة انتاجهن باجسام وحركات مغرية وتركيز الكاميرا على مناطق الاثارة، فضاع معنى الكلمة والتطريب وصار هدف الاغنية استثارة غرائز حيوانية تشجع على الانحراف، وتحط من قيمة المرأة بتصويرها موضوع جنس... وهذا ناجم عما حصل من تهرؤ للقيم، سببه أن مؤلفي الأغاني والمخرجين لدغتهم ايضا «عقربة الفساد» الأخلاقي!

  

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2218 الاحد 02/ 09 / 2012)

في المثقف اليوم