قضايا وآراء

المسلسلات التلفزيونية وإعادة كتابة التأريخ .. "عمر" أنموذجا (1-3) / يوسف ابو الفوز

ولاقى الكثير من المؤيدين والمعارضين، حيث اعتبر اضخم الانتاجات الدرامية في تاريخ التلفزيون العربي الحديث، كان مسلسل "عمر" الذي تناول سيرة حياة الخليفة الثاني عمر بن الخطاب (579 ـ 644 م)، وهو أحد اشهر القادة في التاريخ الاسلامي المقربين الى النبي محمد بن عبد الله (571 ـ  632 م)، حيث عرف عمر بشخصيته الشديدة والحازمة وميله للعدل بين الناس حتى سميّ "الفاروق"، وتعد فترة خلافته مرحلة انتقال الإسلام من مرحلة الدعوة إلى مرحلة بناء الدولة بما يتطلّبه من مؤسسات أدارية لدولة توسعت في عهده وسيطرت على كامل أراضي الإمبراطورية الفارسية الساسانية وحوالي ثلثيّ أراضي الامبراطورية البيزنطية، بحيث شملت كامل العراق ومصر وليبيا والشام وبلاد فارس وخراسان وشرق الأناضول وجنوب أرمينية وسجستان والقدس، اي ان الدولة الاسلامية التي توسعت صارت تشمل اعراقا متنوعة فتطلبت لحكمها حنكة سياسية وأدارية غير عادية، وهذه توفرت عند الصحابي عمر بن الخطاب الذي عرف ايضا بتسامحه مع الاديان الاخرى، وهو الى جانب كل ذلك شخصية خلافية ما بين العديد من المذاهب الاسلامية، خصوصا ما بين الشيعة والسنة، وهذا ما سيلقي بالضرورة بظلاله على اي عمل أدبي أو فني يتناول هذه الشخصية، ويجعل قضية قراءة التأريخ هنا وكتابته تخضع للعديد من العوامل المتباينة. مسلسل "عمر" انتاج مشترك لتلفزيون قطر ومجموعة ام بي سي، التي يملكها الشيخ السعودي وليد أل ابراهيم (أخته أرملة الملك فهد بن عبد العزيز آل سعود)، إستغرق تصويرالعمل باكمله 170 يوما، ذهب 50 منها لتصوير المعارك، وبلغ عدد القائمين عليه 30 ألفا بيـن ممثلين وفنيين (موقع ويكيبيديا)، وبميزانية بلغت 200 مليون ريال سعودي، وعرض خلال شهر رمضان على اكثر من فضائية عربية خليجية، وجاء بواحد وثلاثين حلقة، مدة الواحدة منها خمس وأربعون دقيقة، واللافت ان المسلسل سجل سابقة بعرض اسماء المؤلف والمخرج والفنيين في اول تايتل المسلسل، وترك عرض اسماء كل الممثلين الى التايتل في نهاية المسلسل . ومسلسل " عمر " من تأليف الكاتب الفلسطيني ـ الاردني الدكتور وليد سيف (مواليد 1948م) الذي عرف بكتابته للعديد من المسلسلات التأريخية التي لاقت رواجا واقبالا من المشاهدين، ولفت الانظار اليه بثلاثيته الاندلسية ومسلسل صلاح الدين الايوبي واعمال اخرى، وهو من اخراج الفنان السوري حاتم علي (مواليد 1962م) الذي يزدحم سجله باخراج العديد من المسلسلات الناجحة وبينها عدد غير قليل من المسلسلات التاريخية من تأليف وليد سيف الذي شكل معه فريق عمل انجزا معا خلال فترة قصيرة العديد من الاعمال التي لاقت رواجا واقبالا وعرضت على معظم الفضائيات العربية، وقد نال حاتم علي العديد من الجوائز التقديرية مما جعله واحد من اشهر واهم المخرجين في المنطقة، وقد عرف بمواقفه الليبرالية تجاه العديد من القضايا الاجتماعية والسياسية . شخصيا لا اخفي كوني من المعجبين بالعديد من الاعمال السابقة التي اخرجها الفنان حاتم علي، ولم اتوقف ـ ولا ازال ـ عن دعوة الكثير من اصدقائي لمتابعة مسلسل "احلام كبيرة" االذي قدمه عام 2004 وهو من تأليف الكاتبة الفلسطينية ـ السورية ريم حنا (مواليد 1946)،هذا المسلسل يعتبر عندي واحدا من افضل المسلسلات العربية التي القت الضوء على واقع المجتمعات العربية وهموم الانسان البسيط، حيث تناول بشكل بارع تهميش التكنوقراط وتذبذب وضياع المثقفين وصعود الفئات الطفيلية لتستحوذ على كل شيء . في مسلسل "احلام كبيرة"، ومسلسلات اجتماعية اخرى، لجأ حاتم علي الى الاقتراب كثيرا من واقع الناس وهمومهم منحازا لهم وبروح تنويرية، فكان طبيعيا ان ترى انه وعند الانتقال من مشهد الى مشهد يعرض لنا لقطات واقعية خاطفة ذات روح وثائقية لحياة الناس وهم يمارسون تفاصيل حياتهم اليومية . امتلك حاتم علي خبرة كبيرة في اخراج المسلسلات التاريخية التي علمته ان يقود باحتراف ونجاح المجاميع الكبيرة من الممثلين والكومبارس والتفنن في اخراج المعارك وخبرة في عكس اجواء تاريخية تنقل المشاهد الى ايام سحيقة في التاريخمن خلال الاهتمام بأختيار اماكن التصوير والديكورات والاكسوارات والملابس واهم التفاصيل الصغيرة لتعكس الفترة الزمنية التي يحكي عنها المسلسل، لكن حاتم علي ومنذ ان انتقل لاخراج مسلسلات برأسمال خليجي، حيث اخرج المسلسل البدوي "صراع على الرمال" عام 2008، لم نعد نرى كثيرا لمسات المخرج الذي عرفناه واعجبنا به، ويبدو ان قاعدة "من يدفع هو الذي يقرر"هي التي صارت تتحكم ببعض أعماله، فصارت قراءاته للتاريخ وللوقائع تخلو من لمساته الفكرية وابداعاته الاخراجية، وصار مثل أي مخرج منفذ محترف يوظف قدراته الفنية البارعة في تقديم ما يريده المنتج وينقل لنا رؤية وافكار  الممول، وقد لمست للاسف شيئا من هذا بشكل واضح في مسلسل "عمر" انتاج 2012، الذي وظف فيه حاتم علي كل امكانياته الاخراجية ليقدم وجهات نظر المنتج السياسية والطائفية وبشكل لا يتناسب مع تأريخ المخرج الذي أدعى أنه يحاول تقديم صورة طيبة عن الاسلام المتسامح، والنتيجة  عمل فني يحمل دعوات طائفية صريحة وسنحاول القاء شيء من الضوء على ذلك .  في البدء لابد من الاشادة بكون مسلسل عمر، نجح بشكل بارز في أن يحقق للدراما العربية سبقا مهما، وذلك بكسر تابو تجسيد شخصيات الصحابة على الشاشة، والتي كان سابقا محرما الاقتراب منها واعتبار ذلك مساسا بهيبة الصحابة وتعديا على الثوابت الاسلامية، وقد تحرك بعض الشيوخ والمحامين بهذا الاطار ولكنهم فشلوا في وقف انتاج وعرض المسلسل، الذي حصل على فتاوى موافقة من رجالات الدين واجازة بأنتاجه وعرضه مدعومين من جهات سياسية وحكومية نافذة ترتبط بالممول لانتاج المسلسل، وهكذا شاهدنا على الشاشة الخليفة الثاني عمر بن الخطاب، جسده الممثل السوري  سامر اسماعيل (مواليد 1986)، والامام علي بن ابي طالب (599 - 661 م) جسده المخرج حاتم علي بنفسه، والخليفة الاول ابو بكر الصديق (573 ــ 634 م) جسده الممثل غسان مسعود (مواليد 1958)، والكثير من الصحابة ممن اعتدنا على تجسيدهم في السينما والتلفزيون فقط كأصوات وغالبا ما تكون بالأنابة . مسلسل عمر تم تصويره في العديد من المدن المغربية، ونجح المخرج كثيرا في توظيف الامكنة في التصوير الخارجي لتقديم صورة مبهرة ومقنعة، خصوصا في عرض مشاهد مدن الجزيرة العربية في تلك الحقبة، وازقتها وحاراتها، وعن ذلك تحدث المخرج في لقاءاته الصحفية فبين "أن صدقية العمل وقدرته على محاكاة التاريخ تحتاجان دائماً إلى اختيار الموقع المناسب، فالاختبار الذي نواجهه كصنّاع لمثل هذه النوعية من الأعمال، يكمن في مدى قدرتها على إعادة بناء مشهديّة فيها كثير من الصدقية من ناحية التقارب بين العناصر المختلفة من بيئة العمل والأحداث الأصلية وغيرها، ... وعادة فإن مشكلة أعمال من هذا النوع تكمن في أن أماكن الأحداث الأصلية تكاد أن تكون معروفة لجميع المسلمين في أنحاء العالم، لما تتميز به هذه البقعة الجغرافية من قداسة ومكانة في وجدان المسلمين، بالتالي فإن إحدى الصعوبات كانت البحث عن بيئة مشابهة لمدينة مكّة مثلاً، وهو أمر في غاية الصعوبة، لأنه لا يمكن أن تجد مكاناً مشابهاً أو مطابقاً لمكان آخر، وهو أمر شبه مستحيل "(صحيفة الحياة  10-07-2012)، وكان واضحا اهتمام طاقم العمل بكل التفصيلات من اجل اقناع المشاهد بما يرى، ولن ننس ابدا مشاهد زيارة الخليفة عمر بن الخطاب وهو في شبابه، في تاريخ عامين قبل البعثة النبوية، الى دمشق (الحلقة الاولى) حيث كانت زوايا التصوير والمشاهد الخارجية مرسومة بحرفة عالية تقترب من العالمية، زاد في كمالها فريق الكرافيك الفرنسي الذي استعان به مخرج العمل، لاقناع المشاهد بما يرى وتقديم مشاهد رائعة . ان اختيار المغرب لتصوير احداث مسلسل "عمر" الذي يعج بالعشرات من الشخصيات، قاد المخرج، وحسب قوانين الانتاج المغربية، الى الاستعانة باعداد غير قليلة من الممثلين المغاربة كضيوف لاداء ادورا صغيرة، بعضها لا يتعدى المشهد الواحد، مما قاد بالتالي الى سيادة لهجة شمال افريقيا في المسلسل، الذي تدور غالبية احداثه في الجزيرة العربية، فبدا الامر مفارقة طريفة، ويبدو ان  طاقم المسلسل لم ينجح في معالجة هذا الامر تماما، رغم ان المخرج لجأ الى دبلجة اصوات العديد من الممثلين، منهم صوت الممثل المغربي محمد مفتاح الذي لعب دور حمزة بن عبد المطلب (567 م - 624  م)، كما لجأ الى استبدال صوت الممثل سامر اسماعيل الذي لعب شخصية الخليفة عمر بن الخطاب، وايضا استبدال صوته شخصيا وهو يلعب دور الامام علي بن ابي طالب، واستعان لهذا الامر بأصوات تجيد العربية الفصحى بدون اي لحن ولكّنة، وحرص ان تكون اصوات عميقة ومؤثرة، ليس فيها نعومة أو رخاوة، من اجل الحفاظ على شيء من روح التقديس والمهابة لهذه الشخصيات .

يتبع ...

 

 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2222 السبت 22/ 09 / 2012)

في المثقف اليوم