قضايا وآراء

محمود الريماوي وأسلوب الواقعية الجديدة / صالح الرزوق

و?ذا ?عني بالضرورة أنه منتج لفن له قواعد وش?ادة م?لاد مسبقة. ومن هنا تنجم المشكلة: أن تضيف إلى  الصفحات السابقة من تاريخ هذا الفن، وأن تكون أصيلا. وقد تمكن من إنجاز ذلك حتى أصبح من العسير تصنيف أعماله في واحد من البنود – المدارس المعروفة.

 

ظواهر واقعية عامة

ف?و قاص واقعي لأنه لا ?فرط في التعب?ر عن عواطفه، بمعنى أنه ?ترك مسافة أمان ب?ن الحكا?ة والفكرة، ثم ب?ن الحكا?ة والوجدان، مستودع كل العواطف والأفكار، ولكنه في نفس الوقت ?حجم عن التفص?ل في ماهية المكان (فالأحداث يمكن أن تحصل في أي مكان من العالم – باستثناء نماذج قليلة أهمها: البيت الأول وهي أصلا قصة مكان وعمودها الفقري مشاعر الحنين الجارف للأراضي المحتلة في نكبة 1948)(1). إن هوية المكان في هذه القصص عامة، ولا يوجد ما يدل عليها غير اسم بلا صفات. وهو غالبا اسم مدينة معروفة أو اسم بلد بكامله. يذكر الكاتب مثلا الكويت أو عمان أو الزرقاء ولا يحاول أن يقدم ولو لمحة بسيطة عما تشتهر به، وما يميزها عن غيرها. وإذا لم يكن هذا بحد ذاته تهمة أو نقصا، فهو بعيد عن الأسلوب الواقعي الذي يربط الشيء بهويته، وبالأخص الأمكنة والأشخاص.

الوقائع، كذلك، تعبر عن اختصار الحياة إلى لحظات مكثفة وموجزة. وقل نفس الشيء عن الشخصيات. إنها في خريف العمر بمعظم الحالات، وهذا (كما ورد في قصة  الأول والثاني) " يدعو إلى تضاؤل الفضول في التعرف على الآخرين "(2). إنها شخص?ات تنمو في الظلام، من غير ملامح أو قسمات، ولا تهتم بتطوير الأحداث في ما بينها. وهي مهزوزة وتعكس ضحالة مكانت?ا في المجتمع، وغالبا تنتمي للطبقة المتوسطة وما دون. ولنقل إن?ا كادحة وترزح تحت أعباء ماك?نة مجتمع متسلط وقدر غاشم لا ?رحم .كما أن الشخصية الرئيسية تبدو منهمكة بتضميد جروحها الناجمة من الخلاف مع المؤسسة (ومرادفاتها في الواقع أو الخيال حسب الظروف)، إن لم تكن ترزح تحت أعباء القدر المشروط الذي تحمله معها (بنفس طريقة السلحفاة والدرع العظمي: حيث أن البطء هو نتيجة وليس سببا كما يبين في أول رواياته: من يؤنس السيدة)(3). ويجدر التنويه أن البطء نظام للحياة في المنفى ولو أنه منفى الداخل أو الاغتراب كما بين ميلان كونديرا في رواية صغيرة تحمل هذا العنوان. بينما في رواية الأستاذ الريماوي إنه ينبع من الرتابة في تصور الحياة وعدم القدرة على الإبداع. بمعنى من التعايش معها وليس إزدرائها.

وعلى هذا الأساس لا تنظر الشخصيات إلى العالم كحلقات في سلسلة أحداث أو معجزات فوق واقعية. فهي شخصيات مركبة وبسيطة في نفس الوقت، وهذا ناجم عن شروط التصور في حدود الواقع. إن أحلام وتصورات هذه الشخصيات الطيبة والمطحونة بظروف حياة الضنك تنتهي عند حدود باب البيت أو أكثره عند سقف الغرفة التي تقطن فيها. وهذا مع بعض الحرية يقبل التمديد ليشمل حدود البلد، أو حدود المهنة، أو ربما حدود الواجبات الإجبارية.  لذلك تسمح شروط الموضوع للقصة أن توسع من حدود الرؤية لتصل إلى العمل في بلد مجاور، أو تأدية مناسك الحج مثلا. وفي هذه المساحة الضيقة يصبح من المبرر للحارة أن تكون هي قلب الوطن الدافئ، وللمطبخ أن يكون هو زناد وعقل الإنسان.

بالمقابل إن الحكاية لا تتألف من مقدمة وعقدة وخاتمة، ولكن من حالة تنوير ونهاية مفتوحة فقط، للتعبير عن العاطفة المكبوتة والمصير المسالم الذي يعقد صلحا ب?ن الشخص والواقع، وب?ن الفن والواقع أيضا. وقد دفعه ذلك لاختيار موقف وسطي بين فن المأساة (تجاوزا باعتبار أن مصادر الحزن الصغيرة هي تعبير تراجيدي عن المحنة) وفن الملهاة الذي يتعامل معه النبلاء بنوع من التصغير والازدراء. وهكذا اختار أسلوب السخرية وأحيانا النقد الأسود المبطن كما في قصة (حبات السبحة)(4) مثلا والتي يزدري بها التقاليد الشائعة لأنها سبب للعطب أو العطالة العاطفية. وبهذه الطريقة تمكن من التعبير عن التخلف الحضاري الذي هو السبب بالهزيمة (في الشعور – في قطاع المعرفة الواعي والمتيقظ)، مثلما فعل كتّاب العالم الجديد أمثال شتاينبك في روايته القصيرة (عن الرجال والفئران) للتعبير عن التخلف العقلي والذي هو سبب التردي الاجتماعي (في اللاشعور –  في قطاع المعرفة الكامنة والمتنحية – أو المحتجبة).

وبوجيز العبارة هذه القصص لم تنكر الواقع، وهي تأخذ منه المشاكل وطرق تعريفها، لكنها عابرة لحدود الجنس – الشكل. ويبدو أنها أقرب، فنيا، لمفهوم الواقعية الجديدة التي تختصر بنية القصة إلى لحظة تنوير وحكمة أو درس نستنتجه في ختام التجربة. وذلك بلغة محايدة ومن غير نشاط ألسني، وبتعبير الشكليين الروس: بلغة مونولوجية وليست بوليفونية. ويمكن استثناء روايته (من يؤنس السيدة) من هذه القاعدة العريضة والعامة، حيث بمقدورك أن تشعر بوجود ملقن يختفي وراء المنصة ويدلي بدلوه، وضمنا مفردات هي في عداد اللغة الميسرة، أو اللغة الثالثة.

 

الحداثة البسيطة

و?و أ?ضا كاتب مع الحداثة، لأنه ?عكس العلاقة مع الأسلوب. ف?و في معظم نماذجه ?ع?د تفس?ر الواقع،  وأح?انا ترس?م الحدود ب?ن الراوي وموضوعاته.  لكنه لا ?عترف بالفكرة المركز?ة للحداثة، أو حتى بفكرة الشكل والموضوع المجزأ والمتحول لذ?ن?ة ما بعد الحداثة.

لقد كان محمود الر?ماوي مع التعب?ر البس?ط والأص?ل عن ال?م الوجداني العام لأبناء ج?ل السبع?نات، والذ?ن حملوا صل?ب فن القصة على طريقتهم، فقدموا ?موما واقع?ة عن مجتمع متخلف وم?زوم وبأدوات المجتمع الصناعي، وبأخلاق وسلوك أبناء الج?ل الضائع.

لقد وقف محمود الر?ماوي على الضفة المعاكسة من الحداثة، وربما هي  ضفة روج?ه غارودي الذي لم ?رحم أحدا، والذي وزع أوسمة المدرسة الواقع?ة حتى على ألد أعدائ?ا، مثل ب?كاسو وكافكا.

ولذلك كانت أعماله من النمط الذي يحترق تحت أنقاض ورماد معاناته الشخصية. ولا يمكن لك أن تشاهد لسان الحريق الملتهب، وهو يكتفي بأن يوقد شمعة عند رأس كل حي – ميت من أفراد هذه الطبقة غير الموسرة والمتدهورة التي تقلمت أظافرها بسبب المعاناة مع نوائب الدهر. وقاده ذلك لتصنيف كل جروحنا النازفة في عداد الماضي المنصرم، ومن هنا كان العلاج برأيه ليس الكي، ولكن بغض البصر والنسيان.. ليس بدحر الواقع ولكن بالتفاهم السلبي معه، وكأنه يبشر بما قاله الشاعر العربي منذ عدة قرون: ما لجرح بميت إيلام.

وعلى ضوء هذه الافتراضات غير الآدمية والمجحفة يتحول الإنسان لمجرد رقم إضافي في طابور طويل من الأرقام الجوفاء والفائضة عن اللزوم. ويصبح من اليسير أن تستدل عليه من أشيائه وبقاياه وليس من خلال مطلق نفس – وجوده أو علاماته الفارقة.

إنه إذا كان كافكا قد مسخ بطله إلى صرصار تافه ومثير للاشمئزاز، فقد مسخ محمود الريماوي أشخاصه إلى غسيل منشور على الحبال، حيث تتجاور ملابس الرجال مع ثياب المرأة (5)، أو في موقع آخر إلى أشباح بلا ماهية (6). وهذا في كلتا الحالتين للدلالة على تشيؤ الإنسان وتصحر المجتمع وموت القلب مركز الحب ومركز الأحاسيس ورمز كل العواطف النبيلة.

 

أهمية الرموز في النص

 أخ?را، لديه ملامح تعود إلى المدرسة الرمز?ة، نظرا لأنه وظف بعض الرموز المعروفة لتحل محل الشخص?ات، كحامل للفكرة أو حامل للدلالة  (لو شئت أن تكون سوس?ر?ا)، ومن ذلك الشجرة والعصفور والسلحفاة، وأح?انا عناصر جامدة أخرى من غ?ر العاقل )?ي النفس الساكنة بلغة المعلم الأول أرسطو(. ومن الواضح أنه يعتمد في المجاز على تداخل عدة نشاطات بلاغية عامة هي الاستعارة والترميز والإسقاط  لتمرير خطابه الوطني أو السياسي بعيدا عن المباشرة قدر الإمكان كما فعل في حديثه عن اغتصاب فلسطين حيث قدمها بصورة سيارة موديل 67 تطاردها عصابة من الأشباح (7). و من ذلك أيضا رمز القطار و الذي يدل به على دورة دولاب الحياة أو كما يقول الفلاسفة (تعاقب الأزمنة) كمرادف مباشر وشديد الصلة بـ (تعاقب الفصول). وكان هذا بالنسبة له رابطا بين الحدس وقيمة العمل أو حافظا للشخصيات من خطر الاندحار أمام تبدلات الواقع. وبالاستطراد هو حارس لمقاييس المعرفة من الضياع والتشتت أثناء الحركة. وكما يقول في إحدى قصصه (بما معناه): إن القطار لا ينقل المواد فقط (الركاب والأمتعة) ولكنه ينقل أيضا الانفعالات، وربما يشترك في تصنيعها (8).

 

بنية وخطاب رواية (من يؤنس السيدة)

وتعود صورة الزمن الميت الذي لا يتحرك، المحكوم عليه بالسكون، وعلى أبطاله بالانتظار، وكأنهم نسخة محلية من تراجيديا بيكيت في عمله الشهير (بانتظار غودو)، لتضعنا أمام نفس المعضلة في روايته (من يؤنس السيدة).

وهنا أرى كم كان أبطال هذه الرواية مساكين من وجهة نظر فنية.. إنهم يدورون في نفس الدائرة، كما لو أن حياتهم تمثيلية محكومة بخشبة مسرح. وهم أيضا لا يشعرون بأهمية الزمن ولا يحدسون به. فالحياة بالنسبة لهم لا تعرف النسبية ولا تتطور. وإنما تتقدم بخطوات حثيثة فوق صراط هو المعادل الموضوعي لإنسان بلا علامات خاصة. إنسان غفل ويعيش عند حدود الماهية الغامضة والبكماء، وفي وجود معطل وبلا مفاجآت. وبعبارة مختصرة: إنهم أفراد يقدمون الوقود اللازم لحركة المجتمع على حساب حركتهم الخاصة المحكومة بالجمود وبالتخشب وأخيرا بالسقوط. وكما ورد في الرواية: المحكومة بالعجز البدني وضعف الذهن (9). ويبدو أن هذه هي ميزة الرواية ومغزاها. فهي تعيد تفسير لحظة اليأس والفراغ الوجودي من خلال مسرّات يغطيها التخلف بطبقة سميكة من الزيف، حتى تبدو الحياة أشبه بشكل آخر من أشكال الموت، وحتى يتحول البيت إلى صورة أخرى من صور القبور والأضرحة.

وهذا لا يشبه الصورة التي رسمها خيري شلبي، شيخ رواية الستينات في مصر، لمدينة الموتى، كما يقول، حيث تكون الحياة في المقابر بسبب الضرورة، مما يعني أن المحرك يدور وأن الرغبة بالخروج أو التصعيد موجودة، والمسألة هي مسألة أدوات. لقد كان كل أبطال الرواية في حالة إنفصال حضاري وعدم إدراك والمحرك لا يدور في داخلهم. وهم بلا ساعة تقيس القيمة العامة للعمر ولتوالي الفصول. وبلغة مباشرة: كانت الرواية صورة معدلة من قصته عن القطار المتوقف على القضبان والذي لا يعمل. وأكاد أقول إن هذه الرواية (مثل قصة القطار) هي تطبيق عملي لمقولة باشلار عن المكان باعتبار أنه تجميد لتيار الزمن، أو إلغاء لمتواصلة الحدس بمصطلحات برغسون.

وبرأيي إن هذا العمل كان ضربا من المغامرة في بناء شخصيات راكدة تحترق بنار وجودها المعطل، فهي مع أنها لا تقترف ذنبا تضرب رأسها بجدار الواقع، أو بأسباب العصاب المادي والمعنوي. وهي شخصيات اغترابية تصالحت مع واقعها بواسطة لا شعور إيماني اشترى صكوك الغفران لقاء التخلي عن حقه بالخصوصية.. وبالأحرى إنها نسخ لشخصية واحدة يعكسها الواقع بمرآته مثل سيميولاكر بلغة النقد الفني الإغريقي. بمعنى أنها صور غير حقيقية لمغزى الحياة وتفسير سفسطائي لواقع يتألف من صور بلا ماهية. لقد وضعتنا هذه الرواية أمام صفقة أخرى على شاكلة ما فعل أوسكار وايلد بدوريان غراي.. والفرق أن محمود الريماوي لم يطلب من الشيطان تجميد شكله ليبدو جميلا، وإنما طلب منه تجميد الزمن كي لا ترى شخصياته أشكالها بعد المرور بالاختبار الإجباري أو بما يسميه الوجوديون الإمتحان.

ولا شك هنا أن مبدأ الميثاق أو العقد مختلف. فهو في حالة دوريان غراي يوظف الأدوات السحرية للتحايل على مفهومنا البديهي لجدلية التاريخ. تماما كالمسكنات الرومنسية التي وظفها الخطاب القومي بواسطة تضخيم التصورات وبالاعتماد على تصعيد العواطف. وبالمقابل تبنت الرواية مبدأ المحاكاة لتثبيت العلاقة بين الواقع النفسي والمادي وبغرض تصوير ما تنطوي عليه الطبيعة من إجحاف وقسوة في ظل هذه المرحلة المتردية كما فعل أنصار المذهب الطبيعي في أوروبا بعد إشهار البورجوازية لإفلاسها.

وقد نجم عن ذلك اعتماد بنية تتألف من مشاهد متتالية أو من فصول. وكان تطور الأحداث عبارة عن انتقال بين الأمكنة، وهي كلها أمكنة ذات نظام موحد ولا تغادر الدائرة النفسية العامة، أو ما يقول عنه البنيويون ذات - الحالة. ولذلك أخذت بطلة الرواية (أم يوسف) صفة شخصية مهاجرة.. وكانت دائما تبحث عن بيتها الماضي والمفقود وليس عن مشكلتها مع الزمن الضائع. فالهم أصلا هو بالهوية وبالحقيقة التي ترمز لجوهر الانتماء. وليس في ذلك لغز لو علمنا أنها من ضحايا نكبة 1948 ولديها إحساس مضخم أنها خارج المكان باستمرار. وبلغة الكاتب نفسه: أنها تعيش حالة خروج وعلى هوامش المدن (10).

في جميع الأحوال إن فكرة الانتقال – الهجرة – تبديل المكان تشبه فكرة تبديل الملابس. بمعنى أنها إجراء شكلي.. تغيير في الإضاءة ودرجة السطوع والديكور، بينما يقف التاريخ عند عتبات مشاكله عاجزا عن اختراق الجدار. وهذه الفكرة موتيف له صوت جهوري ومرتفع في معظم أعمال محمود الريماوي. ولو صحت المقارنة مع الشعر إنها توازي موتيف البحر في شعر أديب كمال الدين، أو نخلة الله في قصائد يحيى السماوي الجديدة. حيث أن التكرار يرسم للدراما وللمضمون محيط دائرة يصعب كسره. هكذا هو أيضا شأن شخصيات هاروكي موراكامي في معظم أعماله، ولا سيما في حالات البهجة والحزن.. أو حالات الهيجان العاطفي، فهي تتأنق باللون الأسود وتسدل ستارا داكنا على مشاعر وأجواء الأحداث دون أن تفكر حتى ولو بالصدفة بفتح الباب والخروج إلى الهواء الطلق..

وغني عن القول أن الفن والأدب بعد الحرب العالمية الثانية، ولا سيما الناطق باللغة العربية الذي خرج من معطف النكبة ليدخل بعد أقل من عشر أعوام في معطف النكسة، قد عانى من هذه المشكلة بشكل واضح. ويبدو لي أن هذا القانون يسري مفعوله على جميع أشكال وأساليب التعبير الأدبي في تلك الفترة. ألم نسمع بمقولة معين بسيسو التي ورد فيها:

أتممت ألف دورة، ولم أزل أدور

وهذه الوحوش حول خيمتي تدور(11).

ألم نسمع أيضا برواية إلياس خوري الأولى التي حملت عنوان (عن علاقات الدائرة)(12).

لم يكن محمود الريماوي الذي ولد في بيت ريما عام النكبة بالضبط استثناء من هذه القاعدة الذهبية. لقد اعتادت شخصياته أن تغادر مثله وهي تحمل في جعبتها مشاكلها. واعتاد النص أن يعيد بناء الأحداث بما تنطوي عليه من رواسب نفسية واجتماع سياسية. وقل نفس الشيء عن أدوات الحركة.. البساط السحري الذي فقد قيمته العجيبة وتورط مع البنية المعروفة لمجتمع مهزوم ومتأزم. بشكل عام وفي كل النماذج السابقة – الشعر و النثر - تميل الأدوات لتكون أدوات حاضنة لسوء تفاهم مزمن مع التاريخ. فهي تتعامل معه بمنطق ما جرى فعلا وليس بمنطق ما يمكن أن يحصل. وهذه هي المفارقة رقم 2.

وبهذا الخصوص يطيب لي أن أربط بين طبيعة شخصيات من يؤنس السيدة (وهن أناث وكبيرات في السن بشكل ملموس) وطبيعة النشاط الذاكروي عن المكان. فهي تتناسب مع مفهوم الشرق عن المرأة باعتبار أنها سيدة المنزل. وباستطراد تحليل نفسي باعتبار أنها مسؤولة عن علبة أسرار العائلة أو عن الحيز وتفاصيله. لقد حول ذلك بطلات الرواية إلى رموز لأمكنة.. بل قل إلى حامل لخصوصيات وجماليات الفضاء الاجتماعي والديني بكل مدلولاته وإشاراته، سواء الغائب الموجود بقوة دلالته أو الموجود ولكن الضعيف والهزيل بقوة القانون.

وبالعودة لنموذج دوريان غراي، إن أية مقارنة مع عمل محمود الريماوي يضع مفهوم الرواية على المحك وعند مفترق طرق.. الأول يتدخل لتغيير مجرى المستقبل مثل جميع الأبطال الذين تتوفر لهم أدوات سحرية يصعب تفسير جدواها بالمنطق. والآخر ينفذ إملاءات قوة غيبية وقهرية دون أن يجرد أسلحته لمحاربتها.

ولكن يجدر التنويه أن النموذجين، مع ذلك، يلتقيان في نقطة واحدة.. وهي الإقرار بعدمية الذات وعبثية الموضوع وبلاجدوى المحاولة، سواء في حال يقظة الوجدان حينما يشتد الصراع بين العاطفة والواجب، أو بسبب قناعات جاهزة تمهد لضرورة الموت الاجتماعي ولانعدام الوعي بمغزى الواجب ولاندماج العاطفة والوظيفة في هوية مركبة.

 

الأصالة والمعاصرة

لقد كان ارتباط محمود الريماوي بالمفا??م التصور?ة أو الأداء التصو?ري جانبياً (ونفسياً بالحفر داخل نفوس أبطاله في الغالب)، وعلى الدوام كانت الرموز في قصصه تعكس حقيقة الرأي – الموقف الذي يتبناه ويسميه في قصة  (ألون) بـ " وحدة الكائنات والتوازن ما بينها "، والذي يرى أيضا أنه مصدر تطهر " كاثاريسيس " كلاسيكي، أو بعبارته أيضا كما ورد في نفس القصة السابقة: " مصدر عزاء للفلاسفة والمتصوفين " (13). إن الرموز لديه أداة والغاية منها التعب?ر عن صوت الداخل، صوت الوجدان الصامت، المكبوت والجر?ح، والذي لم تسمح له الظروف أن ?غ?ر الواقع ولو حتى بقلبه  (و?ذا أضعف شروط الإ?مان) .

إن رموز محمود الر?ماوي ?ي إعادة ص?اغة لنفس المادة القد?مة الخام، التي لجأ إل??ا إ?سوب في خرافاته أو ابن المقفع في )كل?لة ودمنة)، وللتوضيح هو لم يكن ناسخا، لم يرسم صورة فوتو كوبي، ولكن قام بإعادة تأهيلها، ليحول القصة إلى ما يشبه مفهوم اللوحة القلمية التي يرسمها الكاتب بشكل (بنية – منظور) لا يتطلب منا المشاركة بحاسة الرؤية، ولكن بحاسة السمع لنصغي إلى صوتها المتكلم والناصح، أو لصوت العقل الضع?ف (بمعنى الخافت والمرعوب)  وهو ?نتقد المؤسسة (14). وعلى أية حال إن الدخول بواسطة الثقافة الرمزية إلى المحراب الأصولي لفن الخاطرة واللوحة القلمية يعكس واقع البنية التحتية لحركة المجتمع الشمولي، وهو نفسه مجتمع (الأخ الكبير الذي انتقده بشكل لاذع البريطاني المناضل جورج أورويل في روايته 1984). إنه شكل – بنية عابر للأجناس ويعبر بفصاحة وبمنتهى الإبلاغ والإيجاز عن هيمنة الشركات العابرة للقوميات التي حلت محل الدولة التقليدية، وابتلعت شكل دولة لها حدود وسيادة بشكل مؤسسات توظف اليد العاملة وتحتكر رأس المال. وأعتقد أن ذلك هو الرد المعاكس على مبدأ أممية الثورة في العالم. لقد كان الذهن طوال القرن الماضي محتكرا ومستغلا من قبل توسع الدولة أو توسع الشركة. ولذلك كان شكل النص هو الأسلوب المقابل والموازي لتقاليد وأصول الكتابة الجديدة. ومما لا شك فيه أنه توجد في هذه القصص – النصوص -  مؤثرات خف?فة من رواد ?ذا الفن المستورد أصلا، وهي مؤثرات من درجة ثان?ة (وانعكس ذلك بشكل واضح على طبيعة رموزه الأساسية وهي تعكس درجات التفاضل في مجتمعه الخيالي: إنها جميعا إشارات تدل على الصف الثاني: نائبة مديرة مدرسة، فندق أربع نجوم، موظف بالوكالة وما شابه). لقد كانت القصص أساسا تركز على دور الأخلاق الشخصية والنشاط اللغوي الخاص وهما بمواجهة المخيلة - الجوهر . بعد ذلك يحين دور الذاكرة الفنية، وفي المقدمة عناصر (غير مباشرة) نعلم أنها من بن?ة وتراك?ب زكر?ا تامر، وأح?انا قل?لة من تصورات فخري قعوار وسوا?ما ممن وضع فن القصة القص?رة عند حدود?ا ومسؤول?ات?ا :أن تكون بل?غة ومعاصرة، وأن تكون خجولة فتقاوم أصول?ا ولا تقاوم مستقبل?ا، وأن تكون موجزة.  وذلك في إطار من الت?كم على مصادر المفارقات ومكامن السخرية المؤلمة.  لكنه دائما ?تدارك ذلك بنغمة ل?ا نبرة الاستطراد إلى الأصول، وإلى نقطة البدا?ة والمنابع.

لقد كان محمود الر?ماوي واضحا ب?ذا الشأن، ف?و لم يحاول أن ?عكس صورة ال?و?ة المعروفة لفن السرد، وانحاز بكل ما يملك لتقال?د فن القول أو الحكا?ة. وكأنه يضغط لتأصيل فن مستورد ومغترب بربطه مع تقاليد تدعى عربيا بالمسامرة والمنادمة. وبهذا الخصوص يقول في رسالة شخصية (بتاريخ 16 – 6 – 2011) : من دواعي سروري أن "?ُربك" ما أكتب القارىء المتفحص..، الكتابة ذات الق?مة ?ي التي تؤدي الى إرباك قارئ?ا، بدلاً من إثارة طمأن?نته حول "ال?و?ة المعروفة للسرد" وأمور أخرى ذات علاقة ..

 

أيلول 2012

 

...................

هوامش :

1 – انظر مجموعته رجوع الطائر. صادة عن وزارة الثقافة  في عمان. الأردن.

2 – قصة الأول والثاني، مجموعة سحابة من عصافير. منشورات دار الساقي. 2006 . ص 59 .

3 –  من رواية من يؤنس السيدة. منشورات دار فضاءات. ص 87 . ص 88 .

4 – من مجموعة سحابة من عصافير.

5 – قصة القطار. من مجموعة تحمل العنوان نفسه.

6 – قصة هذا هو أنت.

7 – قصة هذا هو أنت.

8 – قصة القطار.

9 - الرواية السابقة، ص 174.

10 – الرواية السابقة. ص 13 وص 15 .

11 - ص 25 –  قصيدة جواز سفر فلسطيني –  مجموعة الأشجار تموت واقفة – دار الآداب- 1966 .

12- صدرت الرواية عن دار الأداب عام 1975. وهي تنضوي تحت لواء الرواية الجديدة. أو ما يسمى في النقد الفرنسي بروايات منتصف الليل.

13 –  قصة ألون. مجموعة رجوع الطائر.

14 – انظر  قصته خمسة نصوص مثلا. منشورة في موقع مجلة إلى الإلكترونية – حزيران 2011 .

  

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2222 السبت 22/ 09 / 2012)

في المثقف اليوم