تنبيه: نعتذر عن نشر المقالات السياسية بدءا من يوم 1/5/2024م، لتوفير مساحة كافية للمشاركات الفكرية والثقافية والأدبية. شكرا لتفهمكم مع التقدير

قضايا وآراء

كارثة الإبداع العراقي ومنافيه .. إلى متى؟ .. بهنام أبو الصوف .. حبا لا رثاء / بشرى البستاني

وعلماء العراق الأجلاء وفنانيه ومثقفيه من استمرار النفي والاغتراب والغربة والتشرد والملاحقة وعذاب الحنين ..

أليس للعلماء العراقيين من جامع لشملهم، وآس ٍ لجروحهم ومؤازر لغربتهم ..

طلابا مصغين كنا، نلتف بوعي وحب وإجلال حول هيبته .

وهو الأستاذ والمعلم والفنان يعاملنا بروح إبداعية زاخرة بروح الشباب الخبيرة بالشباب، إنه الخبير بعلم الآثار وبخطوط اللغات القديمة المبدع الدكتور بهنام أبو الصوف.

كان عالما متقدا بالذكاء واللطف والتواضع الجم والمحبة والإصرار على التواصل، ففي نهاية كل جلسة كان حريصا على تأكيد موعد قادم، فعلمه يتجدد ولا ينفد، أمجد محمد سعيد ونجمان ياسين وأنا، ومن ينضم إلينا بين آونة وأخرى من المبدعين معد الجبوري، عبد الوهاب اسماعيل، محمد عطاء الله وغيرهم ..

لم نكن نعرف مَن المسلم والمسيحي فينا، فقد كانت الموصل العراقية كما العراق كله بؤرة مضيئة ومكثفة بانصهار الاديان والقوميات والطوائف، نتجاور سكنا ونتزاور صداقة ونتهيأ للاحتفال بأعياد بعضنا في دعوات المحبة على الطعام والشراب، كما نتقاسم أفراحنا وأحزاننا الشخصية، فكيف جرى ما جرى ..؟ ومن المستفيد غير ذوي المصالح والأهداف العدوانية الموغلة بالتخريب ..

كانت المكتبة الجامعية أو قاعة المتحف الذي يعشقه أو المركز الثقافي الجامعي مواعيد لقائنا، وهو يلقي العلم بانسابية تتخللها اجمل الطرائف والمفارقات عن دراسته في كامبرج البريطانية، وعن الإعجاب الكبير الذي يبديه الاجانب أمام عظمة الحضارة الرافدينية العريقة ومثابرة الإنسان العراقي منذ فجر التاريخ، وعن الفرح بلقية جديدة وألواح حضارية ثرة خلال عمله الدؤوب بالتنقيب ..

كان يؤكد دوما أن هذه الحضارة لن تنقطع مهما حاول المحاولون لأنها غدت عبر التاريخ جينا يجري في دم العراقي، ومن المؤكد أن يرثها الأجيال جيلا عن جيل، وما هذه المراحل التاريخية المنقطعة إلا محاولات إعاقة ما تلبث أن تخسر وتتراجع أمام وعي شعب حضاري، فكيف هان على العراق رحيلك بعيدا يا حارس تراث الرافدين الجليل، يا معلم المثابرة والحرص والشهامة على هوية الوطن وجذوره ..!

قرأت على المواقع أن الأوساط الأدبية والثقافية العراقية تودع عالمها الجليل المؤرخ والآثاري والأديب بهنام أبو الصوف، فتساءلت بجزع : كيف أودعك على بعد آلاف الأميال يا سيدي !

وحتام نصمت على انسلال أساتذتنا وعلمائنا ومبدعينا ومفكرينا بالموت شوقا وكمدا على نسمة من نسائم العراق ..!

إن استمرار الإبداع العراقي في المنافي يؤكد قولة القائلين أن العراق المعاصر يمثل اليوم بيئة طاردة للإبداع، نافية للثقافة، كائدة للمعارف، ولذلك فعلى المسؤولين إيقاف هذا النزف المعرفي بكل الوسائل المتاحة، مادية ومعنوية، وليكن ذلك من أولويات مهمات من يهمهم الأمر، وزارة الثقافة، اللجنة الثقافية في البرلمان العراقي، البرلمان برمته، الاتحاد العام للادباء والكتاب العراقيين، نقابة الفنانين، دائرة الآثار، والدولة بمؤسساتها جميعا . وأين المجمع العلمي العراقي بعد تسع سنوات من الاحتلال ....؟؟!

د. بهنام أبو الصوف عالما جليلا وأديبا مبدعا، وآثاريا بارعا، وإنسانا رائعا، وصديقا محبا للجميع ..

تحية إجلال لروحك المُفعمة بعبير الألفة والصدق والإخلاص ..

ولن يموت – حتى في زمن المكيدة - أمثالك من روائع الإنسانية الغراء، ليبقى العطر مشيئتنا في عالم خسر البهاء من أجل ومضة كذابة في الخرائب ..

يا باحثا عن اللقى الأصيلة في الترب النقي، وعن العراق الجميل في عراق ضائع بين الظلمة والأزمات والخسائر .

تحيات من دجلة التي أحببت ..

وحنين من حمرين وهي تخفي أطيافك بين ظلال مرتفعاتها، بينما تُغضي أدغالها خجلا من جهدك وعرق جبينك ..

من هضاب نينوى ومنحنياتها، تلك التي ضمتك طفولة وصبا ورجولة نبيلة المسعى وعلما مورق الأغصان .

ويؤلمني، يؤلم الجميع أن قلبك الجميل صمت بغصته النبيلة على الآثار العراقية النفيسة التي سُرقت وما تزال تُسرق من متاحف وكنوز آثار العراق، وعلى الإنسان العراقي الذي يُذبح مجانا، وعلى شعب برئ يتمزق ..

يؤلمنا أن روحك السامية ظلت تشتعل شوقا إلى العراق .

.........................................................

 

إضاءة :

الدكتور بهنام أبو الصوف من مواليد الموصل 1931.، اكمل دراسته الابتدائية والثانوية فيها.

تخرج من قسم الاثار في جامعة بغداد عام 1959 .

حصل على الدكتوراه من جامعة كمبرج في انكلترا، في علم الإنسان ونواة الحضارة عام 1966.

عشق العراق القديم واشتغل في التنقيب عن آثاره الحضارية في مواقع كثيرة، واشتهر عالميا عندما كشف عن حضارة جديدة ازدهرت مطلع العصر الحجري في وسط العراق، كشف عنها اواسط الستينات من القرن الماضي ..

له عشرات البحوث والدراسات والتقارير العلمية الاثارية واصدر ثلاثة كتب عن العراق.

وعمل أبو الصوف لسنوات عديدة في التنقيب والاشراف على الآثار في عدد من مواقع العراق الأثرية في وسط وشمال العراق، وكان مشرفا علميا على تنقيبات إنقاذية واسعة في حوضي سدي حمرين (في محافظة ديالى)، و" أسكي موصل على نهر دجلة " في أواخر السبعينات وحتى منتصف الثمانينات من القرن الماضي.

وكشف عن حضارة عراقية قديمة لم تكن معروفة تاريخيا زمنها مطلع العصر الحجري في وسط العراق، ألقت الكثير من الضوء على معلوماتنا في تلك الفترة الموغلة في القدم.

حاضر لسنوات عديدة في مادة جذور الحضارة والآثار والتاريخ وعن أهمية الحضارات العراقية القديمة في عدد من جامعات العراق وأمريكا وأوربا ومعهد التاريخ العربي للدراسات العليا .

نشر بحوثاً ودراسات وتقارير علمية عن نتائج أعماله الميدانية ودراساته المقارنة في مجلات علمية عراقية وأجنبية، وله مؤلفات عدة منها: «فخاريات عصر الوركاء... أصوله وانتشاره» (بالإنكليزية)، و»ظلال الوادي العريق»، و»العراق: وحدة الأرض والحضارة والإنسان»، و»قراءات في الآثار والحضارة، وتاريخ من باطن الأرض» الذي يضم خبراته وتجاربه خلال 30 سنة

وقد عين في عدة مناصب علمية وإدارية بهيئة الآثار والتراث وشارك في العديد من مؤتمرات الآثار

 

.............................

غادر أبو الصوف العراق بعد الاحتلال عام 2003 وأقام في العاصمة الأردنية عمان التي توفي فيها الاربعاء 19 / 9 / 2012 بسكتة قلبية .

 

  

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2223 الأحد 23/ 09 / 2012)

في المثقف اليوم