قضايا وآراء

السلطة على الشاعر .. القوى الغيبية

راسخ بان الشعر صناعة وضرب من التفكير يضاف إليها الموهبة التي تساعد على إطلاق عبارات منسجمة موحية، أو كما قال أرسطو في تعريفه الخالد للفن "خلق عوالم متوهمة" فهو يعرف ما يقوم به جيداً دون مساعدة أو اتكال على قوى غيبية…وقد سمى العسكري كتابه (الصناعتين) تأكيداً على أن الشعر والنثر صناعتان، بينما كان الشاعر الجاهلي يسمى شاعراً لا لأنه عالم بفن أو صناعة بل لأنه كان شاعراً بقوة شعره السحريةر(1) فقد استند الشاعر الجاهلي إلى قوى غيبية، وماضٍ كهنوتي بدا في استعماله لغة ساحرة مؤثرة في الناس ولباسه الذي يشبه لباس الكاهن عندما كان يهجو حيث كان يمارس قوته بشكل اكبر. وذلك انه خرج من عباءة الكاهن الذي كان يردد كلمات مسجوعة بسيطة الشعرية ثم انفصل الشاعر عنه إلا انه ليس انفصالاً تاماً فالشعر نظيره السحر؛ هذا ما وقر في أذهان ذلك العصر فكان كلام الشاعر يؤخذ على علاته دون تمحيص وإذا هجا فكأنه أنزل لعنات الإله على المهجو بالواسطة؛ يروى أن لبيد بن ربيعة هجا الربيع بن زياد وزير الملك النعمان حين ضاق الناس به ذرعاً، فادعى عليه زوراً حمل الملك على طرده بقوله:

مهلاً أبيتَ اللعن لا تأكل معه

إن استه من برص ملمّعه

وانه يولج فيها إصبعه

يولجها حتى يواري أشجعه

كأنما يطلب شيئاً ضيَّعه

 

ولما أراد الربيع الاعتذار لم يسمعه الملك وقال له:

قد قيل ما قيل إن صدقاً وان كذباً                فما اعتذارك من قول إذا قيلا(2)

واقتنع الجاهلي بوجود شياطين يلقنون الشعراء أشعارهم التي يكتبونها، وهم يسكنون واديا اسمه (عبقر)، ويسمون لكل شاعر شيطاناً فـ(مسحل) شيطان الأعشى، و(هبيد) شيطان عبيد بن الأبرص،و(لافظ بن لاحظ) شيطان امرئ القيس،و(هاذر) شيطان النابغة وهو الذي استنبغه، وللشياطين أسر وصلات قرابة فمدرك بن واغم صاحب الكميت ابن عم هبيد بن الصلادم، وقد يعمل الشيطان الواحد لحساب شاعرين وأكثر؛ فهبيد صاحب عبيد وبشر.

وقد روّج القرشي لفكرة الشياطين في (جمهرته) وافرد لها باباً، وأورد حكايات متشابهة في صيغتها في ظهور هؤلاء الجن وإعلانهم عن مكانتهم الأدبية كالخبر الذي أورده عن رجل من أهل زرود وصفه بـ(الثقة) دون ذكر اسمه!! انه خرج لطلب لقاح فرأى خيمة عظيمة يجلس فيها شيخ كبير وبعد حوار معه يعلم الزرودي أنه من الجن، ثم يسأله: أتروي من أشعار العرب؟ قال: نعم! وأقول. فانشده (قفا نبك..) فلما فرغ منها قال له الزرودي: لو أن امرأ القيس ينشر لردعك. قال الشيخ: أنا والله منحته ما أعجبك(3).

واستمر العصر الأموي مؤمناً بالشياطين؛ قال الفرزدق:" إن للشعر شيطانين يدعى احدهما (الهوبر) والآخر (الهوجل) فمن انفرد به الهوبر جاد شعره وصح كلامه، ومن انفرد به الهوجل فسد شعره"(4)، وقال العجلي:

إني وكل شاعر من البشر

شيطانه أنثى وشيطاني ذكر(5)

 

ولكن الشاعر العباسي أصبح الشعر عنده صناعة وثقافة كسائر أصناف العلم والصناعات(6)، وبات يعاني تعلم الشعر ودراسته لا كسلفه في اعتماده على الطبيعة لذا وجد نفسه غير مقتنع  بفكرة الشياطين التي أصبح (العلم) يشغل مكانها وقد شغر، وتندر بها حتى المحافظون؛ قال خلف الأحمر لأحدهم وقد عرض عليه شعره :" ما ترك الشيطان أحداً بهذا البلد إلا وقد عرض عليه هذا الشعر فما وجد أحداً يقبله غيرك"(7). إلا أن الفكرة لم تلغ من نفوسهم وأدبياتهم فنحن نرى شيطان الشعر يتحول مرة إلى رمز، ومرة يصر عليه بعض الشعراء.

وقد أعاد بديع الزمان الهمذاني (القرن الرابع الهجري) إليه الحياة في المقامة الإبليسية؛ حيث يجعل عيسى بن هشام راوية مقاماته يلتقي إبليس في وادي الجن، فيقرأ عليه إبليس أشعارا لشعراء جاهليين، ثم قصيدة لجرير يزعم انه هو الذي أملاها عليه مردفاً " ما أحد من الشعراء إلا ومعه معين منا "(8).

كما أوحت فكرة الشياطين لابن شهيد برسالة (التوابع والزوابع)(9) وفيها يلتقي ابن شهيد شيطانه (زهير بن نمير) الذي يكمل له كلما ارتج عليه، ثم يحمله إلى ارض الجن فيلتقي (توابع) الشعراء الجاهليين: امرئ القيس وطرفة وقيس بن الحطيم، ثم توابع الشعراء العباسيين: أبي تمام والبحتري وأبي نواس والمتنبي. ولا يكتفي ابن شهيد بإحياء سنة شياطين الشعر بل يبتدع للكتاب شياطين أيضا يسميهم (خطباء)، فيلتقي صاحبي الجاحظ وعبد الحميد الكاتب، ثم صاحب بديع الزمان الهمذاني(10). والرسالة وان كان الهدف منها إثبات قدرة ابن شهيد الشعرية والنثرية وانه لا يقل شأواً عن الفحول لان شياطينهم اقروا له بذلك. إلا أنها تدل على إيمان بهذه الفكرة وعدم الفكاك منها.

كما إننا لا نزال إلى اليوم نستعمل الألفاظ المتعلقة بها مثل (عبقر) و(عبقرية) قال الجواهري:

عبقر وادٍ نزلنا سرحه

شتوةً فهو أصمّ لا يرنُّ(11)

أما (العبقرية) فهي مألوفة في حياة الأدب وحياتنا العامة بشكل أوسع.

 

الشاعر الصحفي:

وعقبة أخرى وضعوها أو فرضوها على الشاعر العباسي؛ فقد كانوا يستهجنون الذي يتلقى علمه من الدفاتر ويسمونه (صحفياً) وقد ألزموا الكثير من الشعراء والمثقفين الممتازين طلب البادية لمنحه شهادة القبول الفكري، وهذه السنة سنها خلفاء بني أمية، فكانوا يبعثون أولادهم إلى البادية لإتقان العربية، كما فرضوا ذلك على الشعراء؛ يذكر المرزباني إن ذا الرمة لم يظهر معرفته بالقراءة والكتابة حفاظاً على سمعته الأدبية(12). واذ خالف خلفاء بني العباس ذلك فاتخذوا المعلمين من العلماء لأبنائهم في قصورهم، فإنهم دفعوا العلماء إلى طلب البادية لمنحم شهادة الخبرة والقدرة، وهكذا أصبح الكسائي معلم أبناء الرشيد بعد أن طلب البادية، وفعل مثله أبو نواس بنصيحة من خلف الأحمر، وكذلك مكث بشار بن برد في البادية ردحا من الزمن كان يفخر بان إتقانه المميز للعربية بسببه. وللسبب نفسه وجدنا المتنبي، وهو أعظم شعراء العربية، يرسله أبوه إلى البادية ليعود عربياً قحاً(13) لأنهم سيعدونه عربياً غير قح بلا هذا الذهاب. بل ذهب ابن قتيبة أبعد من ذلك حين قرر أن المرء لا يستطيع أن يفصل في شعر الهذليين إذا لم يذهب إلى أرضهم بين وادي شابة وساية(14)، وأي ضير في أن يفصل المرء في شعر الهذليين وهو في دار أو مجلس؟! وقد أشار إلى ذلك أبو نواس مجاملا خلف الأحمر (المؤسسي) حين طلب منه رثاءه:

فكلما نشاء منه نغترفْ

رواية لا تجتنى من الصحفْ(15)

 

 

الشاعر المدّاح:

كما ألزم الشاعر العباسي بأمور بأخرى أملتها الثقافة الجاهلية لم يستطع الانفكاك منها فـ(قصيدة المدح) ظلت المنبر الوحيد المسموح للشاعر أن يطل من خلاله على الحياة الأدبية، والشاعر الذي لا يمدح أو يبرز في المدح لا تكون له سيرورة أو صيرورة ، وحتماً سيتراجع إلى المرتبة الثانية والثالثة،وهذا الأمر أدى إلى نشوء شعراء شعبيين لأنهم لم يصلوا إلى القصر؛ فان مشاهير الشعراء ما كانوا ليجدوا الاعتراف الكامل بمواهبهم الفنية إلا في بلاط الخلافة(16).

وكما قال الأخطل خمرياته من خلال مدحياته، نجد المتنبي العباسي ينشد حماسته من خلال قصيدة المدح أيضا. ولذا سما أبو تمام والبحتري لاتصالهما بالمعتصم والمتوكل، والمتنبي لاتصاله بسيف الدولة. وقلت أهمية شعراء مثل الصنوبري لانقطاعه إلى الوصف، وعبد المحسن الصوري لعدم تفوقه في المدح، والخبز أرزي لمخاطبته العامة. ولعله السبب الذي جعل المعري يقف في مطلع شبابه في بلاط الحمدانيين ليمدحهم فانه ما انقطع لتأملاته الشعرية المتفلسفة إلا بعد أن سجل اسمه في دفتر شعرائهم كما يشهد ديوانه الأول (سقط الزند).

 

الإنشاد وقوفاً:

ويتصل بالثقافة التي فرضت طوال العصر العباسي وبعده، تقبيل الأرض بين يدي الممدوح وإنشاده الشعر وقوفا. لان الشعراء الجاهليين كانوا ينشدون أشعارهم في عكاظ وفي قصور الملوك وقوفاً، ولعل الإسلام لم يعن بهذه القضية فيغير سنتها ولا بقضايا الشعر الفنية سوى توجيهه اخلاقياً. وإذا ساوى الرسول الكريم بين الشاعر الملتزم وبين الخطيب كما جاء في الخبر إن الرسول (ص) كان ينصب لحسان منبراً في المسجد ينشد عليه قائماً(17)؛ فانه – حسب الخبر- أبقى الشاعر واقفاً على السمت العربي المعروف ولم يجلسه. وذكر ابن كثير أن الرسول (ص) قال لحسان يطلب منه الرد على أحد الشعراء " قم يا حسان فاجب الرجل"(18) مشياً على العادة المألوفة وإلا فما يمنع حسان من أن يجيبه وهو جالس. كما جاء في الموشح أن حسان بن ثابت انشد أبا بكر الصديق (رض) واقفاً(19).

واستمر الشاعر الأموي ينشد الشعر واقفاً في مواسم وأسواق الشعر. وتابع الشاعر العباسي أسلافه فكان ينشد ممدوحيه واقفا. وقد جاء عن البحتري أنه كان إذا أنشد " يتزاور في مشيه، مرة جانباً ومرة القهقرى، ويهز رأسه مرة ومنكبيه أخرى، ويشير بكمه ويقف عند كل بيت ويقول أحسنت والله، ثم يقبل على المستمعين فيقول ما لكم لا تقولون أحسنت"(20) وهو ما يدل على انه كان ينشد واقفاً.

وقد ناقش العباسيون هذه المسألة ولكنهم لم يجرؤوا على إلغائها وحاول النقد تبريرها؛ قال ابن رشيق:" إنما يطلب من الشاعر ذلك لأنه متشوف إليه يحب إسماع من بحضرته أجمعين بغير آلة ولا معين ولا يمكنه ذلك إلا قائماً أو مشرفاً وليدل على نفسه ويعلم انه المتكلم دون غيره"(21). ولا نجد كلاماً كثيراً في هذا الموضوع وكأنه محسوم تماماً بينما اجلس الإسلام الخطيب على منبر فالمتكلم له الفضل والأولوية وعلى الشاعر أن يجلس كالخطيب ولا مبرر لقيام الشاعر وجلوس الخطيب.

ولابد أن الشعراء أحسوا بكثير من الغبن حتى كسر هذه القاعدة المتنبي؛ فقد اشترط على سيف الدولة ألا يكلف تقبيل الأرض بين يديه ولا ينشد شعره إلا قاعداً(22) ، وكرر الطلب نفسه عند عضد الدولة في شيراز: " أنا لا انشد ماثلاً فأمر عضد الدولة بكرسي له"(23)، وجلس مكان الممدوح طاهر العلوي وجلس الممدوح بين يديه حين مدحه(24) ، وكان ابن العميد يجلسه في دسته(25). ولكن المتنبي لم يستطع كسر هذه السلطة وإزالتها عن الشعراء إلى الأبد بل كان بدعاً بينهم، وانه حين طلب ذلك من سيف الدولة نسب إلى الجنون(26). واليوم نجدنا متمسكين بوقوف الشاعر على منصة الإلقاء، وجلوس الباحث في المهرجانات، دون أن نفكر بالتخلي عن هذه الوصية الجاهلية، ودون أن نناقش قضية الوقوف لتبريرها أو إلغائها.

 

الفحولة:

هل الأعشى فحل؟ قال الأصمعي: كلا(27) ، وقال ابن سلام: نعم وفي الطبقة الأولى(28). غير أن الفحولة مبدأ ابتدعه الأصمعي وكان انفعالياً ومزاجياً جداً فيه، ولكن بلا شك إن القاعدة الأساسية التي وضعها للفحولة هي التي استند إليها ابن سلام. والأصمعي بدوره استند إلى ثقافة جاهلية توجه الشعر هذا التوجيه؛ فالشعر الجاهلي، وهو الأنموذج الذي حرص الأصمعي وجماعته على أن يحيوه من الرماد وينصبوه (أبولو) للشعر، يجعل الشاعر تابعاً لقبيلته يذود عنها وينافح دونها، وحدّ الشعر يكاد يكون في ذلك. والأصمعي يعي دور الشاعر الجاهلي جيداً ذلك الدور الذي على الشاعر العباسي أن يلعبه مرغماً؛ فخرج الأصمعي بنظرية (الفحولة) بهذه الخلفية الجاهلية ليزيح الإسلاميين حسان وأمثاله الذين جاؤوا بمفاهيم مغايرة للشعر الجاهلي فزعم أن الشعر " إذا أدخلته باب الخير لان ألا ترى أن حسان بن ثابت كان علا في الجاهلية والإسلام فلما دخل شعره باب الخير من مراثي الرسول وحمزة وجعفر لان شعره "(29). اذاً لم يعد حسان فحلاً بعد أن أصبح خيّراً، وكذلك لبيد بن ربيعة بعد إسلامه، قال عنه الأصمعي" كان رجلا صالحاً كأنه ينفي عنه جودة الشعر!"(30). وكذلك أبو دوَاد؛ قال أبو حاتم سألتُ الأصمعي عنه فقال: صالح ولم يقل فحل(31). وكأن (الخير) و(الصلاح) ضد الفحولة!!

ويرى الأصمعي أن طريق الشعر طريق الفحول مثل امرئ القيس وزهير والنابغة... ولكن ما هو طريق الفحول؟ إن الجامع لهؤلاء هو (المديح) بالدرجة الأولى؛ امرؤ القيس ملك مدح نفسه وأباه، والنابغة وزهير اختصا بمدح الملوك، ويتصل بالمدح نقيضه الهجاء وتوأمه الفخر وهو ما استطرد إليه نص الأصمعي " من صفات الديار والرحل والهجاء والمدح والتشبيب بالنساء وصفة الخمر والخيل والحروب والافتخار"(32). واغلب هذه الأغراض حاربها الإسلام.

إلا أن الإسلام سمح بالغزل العفيف ووصف الخيل والحروب وهو ما أثبته واقع شعر الإسلام ولكن الأصمعي يريد أن يؤسس للشعر الجاهلي. إذاً الفحولة هي أغراض الشعر الجاهلي، ولم يختلف ابن سلام عن الأصمعي كثيراً، وظلت الفحولة تدور في هذا الفراغ ومما يؤكد ذلك خبر أورده الأصمعي نفسه" قال ذو الرمة للفرزدق ما لي لا الحق بكم معاشر الفحول؟ فقال له: لتجافيك عن المدح والهجاء"(33). ولم يكن ذو الرمة يجيد المدح وقد غلطه الممدوحون قبل النقاد، فحين انشد بلالاً بن أبي بردة قوله:

رأيتُ الناس ينتجعون غيثاً

فقلتُ لصيدح انتجعي بلالا

 

قال بلال: يا غلام أعطه حبل قت لصيدح(34). وعلى هذا الأساس دفع الشعراء العباسيون وخاصة المجددين منهم، عن الفحولة. وقد ناظر احمد بن أبي طاهر أبا علي البصير في أبي نواس وكان لا يرضى أبا نواس ومسلم بن الوليد ولا من كان في طريقهما من الشعراء.فقال: من أين تدفعه عن الإحسان فقال البصير: الشعر بين المدح والهجاء وأبو نواس لا يحسنهما وأجود شعره في الخمر والطرد(35).

كما ابعد الفرسان عن الفحولة لمخالفتهم موضوعاتها، ومنع الرجاز من حقها بسبب النظرة الجاهلية الدونية للرجز؛ فالأغلب الراجز أول من شبه الرجز بالقصيد وأطاله وكان الرجز قبله إنما يقول الرجل منه البيتين والثلاثة إذا خاصم أو شاتم أو فاخر وهو القائل:

إن سرّك العز فجعجع بجشمْ(36)

وله ميزة الفحول، ولكن الأصمعي لم يعدّه من الفحول ولا أي راجز غيره؛ بل انه جعل الرجز نقيضاً للفحولة. سأله أبو حاتم: " فحل هو أم من الرجاز؟ فقال: ليس من الفحول"(37). ولعل هناك شرطاً خفياً للفحولة لم يعلن عنه هو ان يستكمل الشاعر الجاهلي مقومات الشاعر الكبير الذي سيطرح (مثالا منافساً)، والشعراء الذين استثنوا من الفحولة لم يصلوا الى درجة ذلك المثال الذي سيقاس ويقارن به شعراء عباسيون خطيرون؛ فشعراء كابن مقبل والحويدرة وخفاف بن ندبة  لم يعدوا فحولا لانهم لا يمكن مقارنتهم ببشار بن برد وابي نواس وابي تمام وهكذا فان احد شروط الفحولة التكافؤ مع الشعراء العباسيين الكبار وهو شرط خفي.

وعموماً كانت التقييمات مزاجية فالفحولة لم توضع لها شرائطها الصارمة. وهذا هو التعريف العريض للفحولة وليس يغير في شيء ما أضافوه من إكثار الشاعر أو نوع إجادته فالمهم في القضية إبعاد الشاعر العباسي عن الفحولة.

وقد تجاهل الأصمعي الشعراء الكبار الذين عاصرهم مثل بشار بن برد وأبي نواس وأبي العتاهية لمجرد كونهم عباسيين. ووقف ابن سلام في منتصف الدرب بين القدماء الذين صرَّح بفحولتهم واختار منهم أربعين شاعراً، وبين الإسلاميين الذين لم يذكر معهم كلمة (فحول) كما ذكرها صراحة مع الجاهليين. وإذا حملنا العنوان العام على الثانوي فقلنا انه بقوله طبقات فحول الشعراء يعني الإسلاميين أيضا فان الفحولة عنده تنتهي في العصر الأموي.

وتجاهل ابن سلام اكبر فحل عاصره وهو أبو تمام لأنه كان اكبر مجدد، كما تجاهل البحتري وسواه ممن استحقوا الفحولة بجدارة، ذلك أنهم رأوا الشعر ذكورياً مشتملا على الشدة والخشونة في ألفاظه ومعانيه وهي خصيصة الشعر الجاهلي، ورأوا في شعر المحدثين تأنيثاً للقصيدة العربية واخصاء لذكورتها لاشتمالها على الرقة واللين؛ سأل احدهم صاحبه:" هل تعرف بيتاً من الشعر نصفه أعرابي في شملة والنصف الآخر مخنث من أهل العقيق يتقصف تقصفاً"(38).

ولم يؤلف احد في الفحولة بعد ابن سلام لا لأن هذا الموضوع صعب فتحاشاه القدماء(39)، ولكن لأن النقد العباسي حسم الفحولة لصالح الجاهليين فليس لشعر جديد مطمح أو مطمع فيها.

 

الحجة وغير الحجة:

وتشبه الحجة الفحولة؛ فقد جردوا الشاعر العباسي  من هذا الحق الذي منحوه لشعراء أقل أهمية، وهو جعل شعره حجة. فالغالبية على أن عام (132هـ/750م) حد فاصل بين عصر الفصاحة وعصر الهجنة وإذا نظرنا إلى هذا العام الفاصل وجدناه فاصلاً بين الدولة الأموية اللصيقة بتفاصيل الحياة الجاهلية وبين الدولة العباسية المتحضرة والتي أنجبت شعراء تجديديين لم يرضوا النقد العباسي المحافظ.

وهذه الحجة كأختها الفحولة ليس لها أسس ثابتة لمنحها بل هي انفعالية تعصبية؛ فقد عدَّ أبو عمرو بن العلاء ذا الرمة حجة لأنه بدوي، برغم الحكم على شعره بأنه لا يشبه شعر العرب وانه نقط عروس وابعار ظباء(40)، وبرغم الأخطاء اللغوية الكثيرة التي عددوها له. ولم يعدَّ الأصمعي الكميت والطرماح من الفحول للاختلاف الفكري.

واستبعد الشعراء العباسيون من (الحجوية) برغم الاعتراف بفضلهم. قال الأصمعي:" إن الرواة ختموا الشعراء بمروان بن أبي حفصة ولو ختموهم ببشار كان أخلق"(41).

واضطر ذلك الشعراء إلى اتخاذ البداوة خلقا أدبيا أو في الأقل يجعل في شعره نصيباً من البداوة في اللغة والأسلوب والموضوع ضرورة؛ نجد ذلك عند شعراء لا علاقة لهم بالبادية كأبي نواس وخاصة في طردياته وكذلك أراجيزه؛ فبينما نجده صادقاً كل الصدق حينما يكتبها على طريقته العباسية نحو قوله:

يا أيها العاذل دع ملحاتي

والوصف للمومات والفلاة

دارسة وغير دارساتِ

إلى أباريق مفدمات

يصغين للكؤوس راكعاتِ

عذبني حبّ غلامياتِ

ذوات أصداغ معقرباتِ

مقومات القدّ مهضوماتِ(42)

نفاجأ به مدفوعاً مدفـَّعاً الى القول:

يا رب غيثٍ آمن السروبِ

حباريات جلهتي ملحوبِ

فالقطبياتِ إلى الذنوبِ

يرفلن في برانسٍ قشوبِ

وحف الظهارِ عصل الأنبوب

آنس بين صردحٍ ولوبِ(43)

 

وانشد بشار بن برد خلف الأحمر وأبا عمرو بن العلاء:

بكرا صاحبيّ قبل الهجيرِ

إن ذاك النجاح في التبكيرِ

 

فقال له خلف: لو قلت مكان (إن ذاك النجاح ) (بكـِّرا فالنجاح) كان أحسن فقال بشار: إنما بنيتها أعرابية وحشية فقلتُ: إن ذاك النجاح كما يقول الأعراب البدويون، ولو قلتُ (بكرا فالنجاح) كان هذا من كلام المولدين ولا يشبه ذلك الكلام، ولا يدخل في معنى القصيدة. فقام خلف فقبل بين عينيه"(44). وجعل المتنبي حظ البداوة في ألفاظ ومعاني شعره عظيماً، وكانت البدوية المرأة المثالية التي تغنى بها وفضَّلها على المتحضرة التي تمضغ كلامها وتتصنعه لعدم امتلاكها الطبع السليم.

 

الهوامش

(1) تاريخ الأدب العربي،ج1، ص46.

(2) ينظر تفصيل ذلك في العمدة ج1، ص51، 52.

(3) ينظر جمهرة أشعار العرب، ص43، 44.

(4) المصدر نفسه، ص54.

(5) ديوان أبي النجم العجلي ، ص86، 87.

(6) طبقات فحول الشعراء،ص5.

(7) الموشح، ص557.

(8) مقامات بديع الزمان الهمذاني، ص212.

(9) من العجيب أن الباحثين اختلفوا اشد الاختلاف في أصل فكرة (التوابع والزوابع)  مع إنها إحياء واخذ من فكرة شياطين الشعر الجاهلية؛ فذهب شوقي ضيف إلى أنها مأخوذة من مقامة بديع الزمان الإبليسية، وذهب احمد ضيف وآخرون إلى أن ابن شهيد كان مقلداً للمعري في رسالة الغفران، وقال بطرس البستاني وآخرون بعكس هذا وهو إن المعري كان مقلدا لابن شهيد. انظر:(المقامة، ص31؛ بلاغة العرب في الأندلس،ص51؛ رسالة التوابع والزوابع، ص75).

 (10) ينظر الذخيرة، ق1،مج1، ص210- 257.

(11) ديوان الجواهري،ج4، ص327.،

(2 ) الموشح، ص281.

(13) الصبح المنبي، ص20.

(14) الشعر والشعراء، ج1،ص83.

(15) ديوان أبي نواس، ص577.

(16) ينظر تاريخ الأدب العربي، ج2، ص12.

(17) أسد الغابة، ج1، ص549.

(18) البداية والنهاية، ج5، ص43.

(19) الموشح، ص100.

(20) الأغاني، ج21، ص56.

(21) العمدة، ج1، ص26.

(22) ينظر الصبح المنبي، ص71.

(23) بغية الطلب في تاريخ حلب،ج2،ص 658.

(24) ينظر الصبح المنبي،330،

(25) ينظر بغية الطلب، ج2، ص659.

(26) ينظر المصدر نفسه، ص71.

(27) الموشح، ص63.

(28) طبقات فحول الشعراء، ج1، ص52.

(29) الموشح،ص90.

(30) المصدر نفسه ، ص100.

(31) المصدر نفسه، ص104.

(32) المصدر نفسه ، ص90.

(33) المصدر نفسه، ص274.

(34) ينظر الشعر والشعراء، ج، ص525.

(35) الموشح، ص434.

(36) الشعر والشعراء،ج2، ص599.

(37) الموشح، ص333.

(38) الموشح، ص311.

(39) تاريخ النقد الأدبي عند العرب، ص82.

(40) ينظر الموشح، ص270.

(41) الموشح ، ص390.

(42) ديوان أبي نواس، ص166، 167.

(43) نفسه، ص 666، 667.

(44) ينظر دلائل الإعجاز، ص211.

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1205 الخميس 22/10/2009)

 

 

في المثقف اليوم