قضايا وآراء

من أعلام المسلمين في روسيا .. شهاب الدين المرجاني (1818 – 1889) / ميثم الجنابي

للتتر المسلمين في روسيا بعد غياب طويل. واخذ الاعتراف بشخصيته وأثره التاريخيين يشق لنفسه الطريق عبر إطلاق اسمه على بعض الشوارع والمساجد والمدارس، وفي تحوله إلى موضع اهتمام في الأعياد الوطنية. وللحقيقة والتاريخ ينبغي القول، بأنه لم يتعرض إلى تجاهل تام في المرحلة السوفيتية، على الأقل بين المتخصصين بالتاريخ الإسلامي بشكل عام وتاريخ الشعوب التركية بشكل خاص (مفهوم التركي). ذلك يعني انه اخذ يتغلغل في الوعي الوطني والثقافي للمسلمين التتر رغم انه لم يحتل بعد المكانة التي ينبغي أن يحتلها ضمن التقاليد الإسلامية العريقة، بوصفه ممثلها العقلاني والإنساني الرفيع في المنطقة. ولعل بقاء اغلب مؤلفاته المخطوطة في الخزائن، بينما لم يعاد طبع ما طبع منها، هو مؤشر على الاهتمام الجزئي والضيق به. ومع ذلك يمكننا القول، بان هذه "الإنجازات" نفسها تكشف عن تغير له مغزاه بالنسبة لشخصية لعبت على مدار النصف الثاني من القرن التاسع عشر دورا متميزا في تاريخ المسلمين التتر، بحيث جعلت منه "الأب الروحي" للنهضة الوطنية التترية. إذ لم يعد المرجاني موضوعا للتقييم "التقدمي" أو "الرجعي"، بل اصبح رمزا ومصدرا للوعي الثقافي الوطني والإسلامي. من هنا تصبح أهمية الاطلاع عليه بالنسبة للقارئ العربي جزءا من الاطلاع على التراث الإسلامي.

 

موجز عن حياته ونشاطه

ولد شهاب الدين بن بهاء الدين المرجاني عام 1818 في قرية يابانجي في تتارستان (روسيا الاتحادية) المعاصرة. وتتلمذ على يد أبيه حتى السنة الحادية عشر من عمره. وعندما بلغ العشرين من العمر(1838) سافر إلى بخارى لاستكمال تعليمه.حيث تأثر هناك ببعض أساتذة المدرسة الدينية وبالأخص بحسين الكرماني الذي وجه اهتمامه صوب الدراسات التاريخية. وقد يكون تخطيطه (لوفيات الأسلاف) بإرشاد منه. وتأثر هناك أيضا بنظام الدين الإلهامي، الذي حول اهتمامه صوب العلوم الطبيعية. وفي بخارى وسمرقند اطلع على كتابات كورساوي، التي غيرت الكثير في مجرى حياته وشخصيته العلمية.

وبعد قضاء خمس سنوات في بخارى انتقل للدراسة إلى سمرقند، حيث درس في مدرسة (شير دار). وتأثر هناك بالمتكلم والعالم القاضي أبو سعيد السمرقندي. وقضى هناك سنتان، رجع بعدها إلى بخارى للدراسة في مدرسة (مير عرب) الشهيرة. وبقي فيها حتى عام 1849. بعدها رجع إلى قازان حيث عين إماما للمسجد الجامع فيها، وتولى التدريس في المسجد الجامع نفسه.

لقد أعطت له فرصة الدراسة في بخارى وسمرقند إمكانية اختبار النفس واختيار الطريق الفردي في التعامل مع الواقع والتوجهات الشخصية والعلمية. ففي الميدان الحياتي بلورت عنده صفات الاعتماد على النفس والبحث المستقل، وفي الميدان العلمي وجهته شطر الاهتمام ببعث التقاليد الإسلامية الحية ومحاربة الميت منها.

إلا أن المأثرة الكبرى لسفرته هذه تقوم في توفيرها فرصة الاحتكاك والاطلاع المباشرين على أمهات الكتب العربية الإسلامية في مختلف العلوم. وعلى أثرها استطاع إتقان العربية والفارسية. وليس مصادفة أن يكتب اغلب مؤلفاته (التي تربو على الثلاثين) باللغة العربية.

ولم يكتف بالعمل في المدرسة الدينية في مدينة قازان، بل اخذ يدرّس أيضا في المدرسة القازانية للمعلمين الروس، مما دعا البعض من المتزمتين إلى اتهامه بالزندقة والخروج عن الدين وغيرها من الاتهامات. وعلى أثرها جرى تسريحه من العمل في المدرسة الدينية مرتين على التوالي في أعوام 1854 وفي عام 1874.

 

شخصية المرجاني وأثرها التاريخي

إن شخصية المرجاني هي تجسيد حي للروح الإصلاحي العقلاني والتنويري النقدي. فهو الشخصية التاريخية الكبرى الأولى بين التتر المسلمين في روسيا، التي استطاعت إرساء التقاليد الإصلاحية العقلية في مختلف الميادين العلمية والعملية.

كان المرجاني رجلا حرا في شخصيته وفكره، حارب التعصب وضيق الأفق الديني والثقافي والقومي. وتجلى ذلك بوضوح في موقفه من الاجتهاد والدعوة الدائمة إليه. وانطلق بذلك من يقينه بأنه لا إنسان معصوم من الخطأ، وان الاجتهاد فضيلة، وبابه مفتوح على الدوام. لان التقليد يحجر عقل الإنسان ويقلل من قدره وقيمته، بما في ذلك من وجهة نظر الإيمان. وذلك لان محاربة الاجتهاد هو منافاة لحقيقة الدين الإسلامي. فالتقليد يجعل الإنسان عبدا للماضي ويقيد عقله الذي وهبه الله إياه للتفكر والإدراك. لاسيما وان الإسلام لا يقر بعبودية لغير الله، ومن ثم فان العبودية لغيره أيا كان هو منافاة لحقيقته. 

لم تكن هذه الأفكار معزولة عما هو مميز لشخصية المرجاني من ذهن متنور وعقل تنويري. فقد شغف منذ وقت مبكر بالاطلاع على مختلف العلوم والمعارف، وليس سفره المبكر إلى بخارى وسمرقند لتحصيل العلم سوى الصيغة الأولية لذلك. وتجلى هذا الشغف في دراساته وكتاباته اللاحقة في مختلف العلوم.  حيث كتب في ميادين عديدة مثل التاريخ والاجتماع والأدب والفلسفة والطب والفلك والموسيقى وعلم الآثار.

وشأن كل ثقافة موسوعية عقلانية كان لابد لها من أن تتصف بالنزوع النقدي. وهي رؤية متراكمة في مجرى اقتناعه العميق بضرورة تحرير العقل الإنساني من مخلفات الماضي البالية، والدعوة للاجتهاد باعتباره حقيقة دائمة من حقائق الإسلام. وتجلت مواقفه النقدية بوضوح في دراساته التاريخية والانتروبولوجية، ذات الصلة بتاريخ المسلمين في منطقة حوض الفولغا وتركستان. ولعل كتابه (مستفاد الأخبار) نموذج لهذه الرؤية النقدية في موقفها من تاريخ التتر كشعب وقومية وثقافة. حيث حاول البرهنة فيه على خطل التصورات التي حاولت أن تربط تاريخيا بين تتر قازان وبين تتر المغول الذين دمروا الحضارة الإسلامية. واثبت بان تتر قازان هم السكان الأصليين للمنطقة. ولهم دورهم التاريخي فيها بوصفهم قوة ثقافية إسلامية. ومن هذه الحصيلة رد على الأحكام والتصورات الروسية الزائفة بهذا الصدد. ومن خلال ذلك أيضا إبراز الدور المشرق للثقافة الإسلامية والروح الوطنية التترية الأصيلة عبر الاعتزاز بالنفس وتاريخها الثقافي، كما وضعها في انتقاده اللاذع لأولئك الذين كانوا يختبئون وراء "أنا مسلم" لكي لا يتظاهروا بقوميتهم وجلا من الروس. وكتب بهذا الصدد بان البعد بين التتري والمسلم هو كالبعد بين الفرات والنيل. أي أن لكل منهما معياره الخاص. وان الأصالة فيهما هو تكميل أحدهما للآخر. لذا جعل من انتقاده وإدانته لجنكيزخان وهولاكو وتيمورلنك، أسلوبا لتعميق الرؤية النقدية والمزاج التحرري للإصلاحية الإسلامية آنذاك.

 

أهم كتاباته وأعماله

تبلورت شخصية المرجاني الفكرية أثناء وجوده ودراسته الطويلة في بخارى(ما بين أعوام 1838 حتى عام 1850). وكتب اغلب أعماله الأساسية باللغة العربية إضافة إلى التترية. ويعود إليه ما يقارب الثلاثين كتابا، أكبرها وأهمها (وفيات الأسلاف). وباشر بكتابة أول أعماله الفكرية في بخارى. حينذاك أنجز (إعلام الأعلام وإنباء الدهر بأحوال ما وراء النهر) الذي انتقد فيه ضيق الأفق العلمي والمعرفي لمميز لتدريس العلوم الإسلامية آنذاك في بخارى وسمرقند. وأوصلته تجربته العلمية الأولى حينذاك إلى ضرورة الرجوع إلى المصادر والمراجع الأساسية للثقافة الإسلامية، ومن ثم التخلي عن مرجعية كتب الحواشي والتعليقات أو التقليل منها إلى أقصى حد، باعتبارها كتبا لا ينبغي أن تحل محل أمهات الكتب الإسلامية. وكذلك كتاب (تنبيه أبناء العصر على تنزيه أنباء أبو نصر"، الذي دافع فيه عن كورساوي.

وكتب أيضا في ميدان التاريخ الثقافي للإسلام والفلسفة والكلام والفقه. فقد أنجز على سبيل المثال عام 1878 كتاب (الفوائد المهمة)، وتناول فيه إلى جانب قضايا عديدة مسألة تاريخ الخط الكوفي، وذلك لأهميتها العلمية والروحية حينذاك بالارتباط مع استيلاء القيصرية على "مصحف عثمان بن عفان". وحاول البرهنة فيه على عدم صحة هذا الادعاء. لم يكن إبداع المرجاني محصورا في علم التاريخ. فقد كتب في مختلف الميادين، وبالأخص الفقه والتفسير. ومن بين كتاباته الفقهية تجدر الإشارة إلى كتاب (حق المعرفة وحسن الإدراك). وكان اهتمامه بالفقه نابعا من التقاليد الإسلامية العريقة التي تجعل من الفقه بابا ضروريا للتعامل مع الحياة الدينية والدنيوية. فقد اعجب في بداية أمره بالتفتازاني، إلا انه ابتعد عن تأثيره في وقت لاحق وبالأخص ما يتعلق منه بتفسير القران. ومن بين أعماله الفقهية المهمة تجدر الإشارة إلى كتاب (حق المعرفة) الذي طبع عام 1880. في حين احتوت كتبه مثل (الحكمة البليغة) الذي طبع عام 1888، و(البراق الوامض) و(العذب الفرات) وغيرها من الاعمال على أبحاث نعثر فيها إلى جانب المادة المتخصصة، على انتقاد عقلاني رزين لمختلف أشكال ونماذج الجمود الفكري ومماطلات ومغالطات وتقليدية الأبحاث الكلامية.

إلا أن اهتمامه الأكبر والأصيل كان موجها صوب الأبحاث التاريخية، الذي لم يكن معزولا عن تأثره العميق بابن خلدون. لذا نراه يقلده في كتابة "مقدمة" تناول فيها اغلب القضايا التي استفاض فيها فيلسوف التاريخ الأول ابن خلدون. ونشرت هذه "المقدمة" عام 1881، بوصفها مقدمة لكتابه الرئيسي (وفيات الأسلاف وتحيات الأسلاف)، الذي حاكى به كتب الطبقات الإسلامية. إلا انه اختلف عنها من خلال المزاوجة بين التقديم النظري على نموذج ابن خلدون، وتاريخ الأعلام الإسلاميين من مفكرين مؤرخين وعلماء وفقهاء وصوفية وفلاسفة ومفسرين وغيرهم من أعلام الثقافة الإسلامية على نموذج (وفات الاعيان) لابن خلكان وأمثاله. ويعتبر هذا العمل بحق أهم أعماله الفكرية. فهو لم يحتو فقط على تجميع وتقديم لأهم الأعلام الإسلاميين في مختلف ميادين العلوم، بل وادرج فيه أيضا أعلام المناطق الإسلامية من تركستان وحوض الفولغا. مما يعني احتواءه على معلومات مهمة لدراسة الإسلام وأعلامه في تلك المنطقة وعلى امتداد مرحلة شبه مغيبة عن تناول الدراسات التاريخية والفكرية والثقافية الإسلامية المعاصرة. إذ تناول في كتابه هذا اكثر من ستة آلاف علم إسلامي ابتداء من صدر الإسلام وانتهاء بمرحلة المرجاني نفسه. إلا أن من المؤسف له هو بقاء هذا الكتاب لحد الآن مخطوطا(بأجزائه الستة). وكتب أيضا عن تاريخ تركستان(آسيا الوسطى) والبلغار والتتر كما في كتابه (غلالة الزمان في تاريخ بلغار وقازان) الذي طبع بعد ترجمته إلى الروسية عام 1884، وكذلك كتاب (مستفاد الأخبار) الذي طبع عام 1897، حيث تناول فيه تاريخ التتر في منطقة البلغار وكذلك تاريخ الارطة الذهبية وخانات قازان. واستطاع أن يفند في هذا الكتاب الكثير من التصورات المزيفة عن تاريخ التتر في هذه المنطقة، وكذلك البرهنة فيه على التمازج الحضاري بين تتر قازان ودولة وثقافة البلغار، الذين أسسوا لدولة قوية ومزدهرة استمرت قرونا عديدة في المنطقة. واعتمد في أدلته على المعطيات التاريخية التي جمعها من كتابات المؤرخين المسلمين الكبار مثل ابن فضلان والمسعودي والادريسي ومن دراسة مختلف جوانب الحياة المادية والروحية للمنطقة(من لغة وعادات وتقاليد وأعراف ونقود وبناء وملابس وما شابه ذلك). وشكلت كتاباته التاريخية هذه الأولى من نوعها من حيث اهتمامها بتاريخ القبائل وحياتها الخاصة قبل ضمها إلى الدول الروسية. فهي تحتوي ،بهذا المعنى، على مادة تاريخية موضوعية هائلة يمكنها أن تسلط الأضواء على حالة الشعوب الإسلامية حينذاك. وبنفس الإطار تندرج كتبه مثل (مصطفيات الأخبار في أحوال قازان والبلغار) الذي طبع بعد وفاته (في عام 1897، وأعيد طباعته عام 1900).

 

أهم آراؤه ومواقفه العلمية والعملية

كان المرجاني من أول المهتمين بتاريخ المناطق الإسلامية الخاضعة للدولة الروسية. وشكلت كتاباته التاريخية هذه نقلة نوعية في علم التاريخ الإسلامي آنذاك سواء من حيث أسلوبها وغايتها. فهي لم تحتو على مواد هائلة يمكنها آن تكون مادة للتحليل المعاصر، بل وبأصالتها الفكرية أيضا. فالمرجاني هو الأول من بين العلماء المسلمين في هذه المنطقة الذين أسسوا لضرورة التعامل إسلاميا مع التاريخي الذاتي للأمم الإسلامية. ولم يكن موقفه هذا معزولا عن تأثره الشديد بكتابات ابن خلدون. وتجلى ذلك بوضوح في مقدمته لكتابه الرئيسي (وفيات الأسلاف وتحية الاخلاف). فالاسم نفسه يحتوي على توليف من الوفاء للماضي والتقدير الكبير لإبداعهم الثقافي الهائل. وفي نفس الوقت كانت مقدمة الكتاب استعادة حية للفكرة الفلسفية التاريخية التي أبدعها قبل قرون ابن خلدون في نظرته إلى التاريخ باعتباره فعلا حيا للصراع وقانونا لصيرورة العمران (المدنية والحضارة). ومن ثم فان نظرته للتاريخ هي استمرارية "للعبرة" التي أراد ابن خلدون استخلاصها من تجارب الحكم والمحكومين في تاريخ الدول الإسلامية. إلا أن ما يميز المرجاني بهذا الصدد هو كونه الأول من بين أوائل المفكرين المسلمين لتلك المرحلة الذي أعار اهتماما جديا بان خلدون. إذ لا نعثر على مثيل له إلا عند خير الدين التونسي. غير أن الفرق بينهما يقوم في أن المرجاني سعى لرؤية التاريخ بمنظور "المتطلبات الثقافية" لا السياسية.أي انه حاول أن يؤسس لنظرة تاريخية عن التطور الثقافي للأمم من خلال دراسة تاريخ الخلافة العربية والإسلامية ككل.

وتجلت العبرة التاريخية في إبداعه من خلال نظراته النقدية للتخلف والجمود الحضاري الذي أصاب عالم الإسلام آنذاك. فقد اعتقد المرجاني أن سبب ذلك يقوم في غلبة التقليد ومحاربة الاجتهاد. لذا نراه لم يخض جدلا مع من اتهمه بالزندقة والخروج، مؤكدا على أن حقيقة الإسلام تقوم في علو مبادئه وتسامحه الكبير، وان الدين الحق هو الإسلام لله. ووضع هذه الفكرة في صلب تأكيده على أن الإسلام هو ليس دين العادات، وليس دين العبادات، بل الدين الجامع المتسامح، الداعي للحرية والاجتهاد باسم الحق. من هنا معارضته الشديدة لممارسة التكفير، معتبرا إياها أمرا منافيا لحقيقة الإسلام المتسامح الداعي للحق واليسر والأمر بالمعروف والإقناع بالموعظة الحسنة والعقل السليم. لذا وجد في ممارسة التكفير "خروجا" على حقيقة الإسلام، لأنها تتناقض مع العقل السليم وسنة الله في الوجود. واعتبر محاربة العلماء والفلاسفة وأهل المعرفة من الجهل وخصال الجهلة. ووضع فكرة التوحيد والعقائد الإسلامية الكبرى في أساس نظراته الأخلاقية ودعوته للتنوير المعرفي والروحي للمسلمين. فقد نظر المرجاني إلى الإسلام نظرته إلى نظام توحيدي لسلوك الإنسان، مؤكدا ومشددا على أن الإسلام هو دين العقل. ومن ثم فهو دين يحث على الحركة والفعل والتغيير والتطور المستمر.

ووضع هذه الحصيلة في موقفه من القضايا الدنيوية.  حيث اعتبر الإسلام دين الصلاح. لذا دعا إلى الإصلاح بما يخدم مصالح المسلمين. وشكل الموقف من العلم  والمعرفة محك مواقفه هذه. فقد انطلق من موقفه العام القائل بأنه لا تعارض بين الإيمان والعلم. ولا تعارض بين الإسلام والعلم. ومن ثم فلا تعارض بين العلم والشريعة. ولا ينبغي أن تتعارض الشريعة مع العلم. وليس مصادفة أن يعير في "المقدمة" اهتماما كبيرا لقضية العلم والعلوم(العقلية والنظرية). وان يتتبع تاريخ وتطور العلوم الإسلامية العقلية والنقلية والطبيعية منذ نشأتها حتى الوقت المعاصر له. ويقارن ذلك بحصيلة النتاجات العلمية الطبيعية في أوربا. لكي يتوصل في نهاية المطاف إلى أن العلم الأوربي هو استمرار لإنجازات العلماء المسلمين. وعلى استنتاجه هذا بنى حكمه القائل، بأنه لا ضير على المسلمين التعلم من الأوربيين حاليا، انطلاقا من أن العلم والمعارف العلمية أمور دنيوية. وتحصيلها ضروري بغض النظر عن منشئها ومنتجها. ذلك يعني انه حاول توجيه أنظار المسلمين إلى إنجازات الحضارة الغربية، ولكنه دعا في نفس الوقت إلى ضرورة النهوض الذاتي، وطالب بإنهاض الإسلام من الداخل. وهو إنهاض يصعب بلوغه دون مجاراة الأوربيين بشكل عام والروس بشكل خاص(بالنسبة لمسلمي روسيا) في ميدان وأساليب إتقان العلوم المعاصرة. فقد اعتبر العلم والتعلم فضيلة. وطالب لهذا السبب بالتعلم من الأوربيين مختلف أصناف العلوم والتربية العلمية. ووجد في ذلك وسيلة لتحرير المسلمين.

ودعا للاحتكاك الحضاري بالأوربيين والروس بشكل خاص. ووجد فيه وسيلة للرقي الذاتي وللتحرر من سيطرتهم أيضا. فقد اعتقد على سبيل المثال بان العلاقة الجيدة مع روسيا هي ضمانة تطوير المسلمين في روسيا والمناطق المجاورة لها. أي أن دعوته للتعاون مع روسيا كانت تخدم أساسا مهمة نهوض المسلمين وتطورهم علميا وثقافيا. في حين كان موقفه، على سبيل المثال، من تعلم اللغات يهدف إلى الانفتاح الحضاري والبقاء ضمن حيز الانتماء الثقافي للنفس.  وكتب بهذا الصدد يقول، بان الإسلام لا يقف ضد تعلم لغات الآخرين، ولا بأس من تعلم لغات الأمم جميعا، إلا أن مما لا يغتفر له هو الجهل باللغة الأم. أي انه طالب في آن واحد بالانفتاح الثقافي والتمسك بالتقاليد الذاتية الحية(الأصالة).

 

تقييم عام للمرجاني

إن المرجاني هو أحد أعمدة الصرح الفكري والروحي لمسلمي حوض الفولغا بشكل عام والتتر منهم بشكل خاص. فقد كان وما يزال إبداعه الفكري إلى جانب كورساوي وناصري الرصيد المعنوي الهائل لوعي الذات الثقافي والقومي للتتر المسلمين في روسيا. رغم أن مأثرته الحقيقية تتجاوز حدود موطنه الجغرافي لتتعداه إلى المدى الإسلامي العام. لاسيما وان مصادره الفكرية وتربيته العقلية وانتمائه الثقافي وهمومه الأولى كانت وثيقة الارتباط بعالم الإسلام والمسلمين. وليس مصادفة أن يتأثر به رجال الإصلاح والفكر المسلمين في تركستان عموما ومناطق حوض الفولغا. فقد تأثر به كبار رجال الفكر التحرري المسلمين للنصف الثاني من القرن التسع عشر وبدية القرن العشرين مثل أباي كونينبايف وآخان سيريه وآوئيزوف وصدر الدين عيني وغيرهم.

فقد أثرت شخصيته وكتاباته على إرساء التقاليد الإصلاحية والتحررية عند الشعوب الإسلامية الخاضعة آنذاك للسيطرة الروسية. ومن ثم ساهمت في استثارة الهم الاجتماعي والوطني والقومي والإسلامي العقلاني والتحرري عندهم. وبهذا المعنى يمكن الإقرار بمأثرته في تعميق النزعة القومية والثقافية التحررية من نير السيطرة الروسية. إضافة إلى ما في إبداعه من قيمة واثر في ترسيخ الرؤية التجديدية بين المسلمين ومن ثم المساهمة المباشرة وغير المباشرة في استقطاب القوى الشابة الحية صوب "الحركة الجديدية" اللاحقة.

 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2232 الثلاثاء 02 / 10 / 2012)


في المثقف اليوم