قضايا وآراء

وقفات مع الشاعرة وئام ملا سلمان (1) / خالد جواد شبيل

سلامٌ مطلقها بالثلاث         لدنياه سعيا الى السرمدِ

تغرّ بها واهنات النفوس     ويعرض عنها ( ألا فابعدي)

شدّني ذات ليلة من إحدى الفضائيات، صوت سيدة تُلقي قصيدة ساخنة، لم يتح لي أن أسمع اسمها عند التقديم، كانت القصيدة عمودية، وزادها حُسنُ الإلقاء وسلامة الوزن، والتركيب البلاغي وجزالة اللفظ روعة، فيها أنفاس جواهرية واضحة، فهمست لضيفي أن هذه الشاعرة نجفية ولا بد! وما خاب ظني، ولم يَطُل انتظاري ولهفتي.. فأطرت لجنةُ التحكيم في برنامج المسابقات الشعرية على هذه الشاعرة وئام ملا سلمان بما يليق بقصيدتها...

لم أكن أسمع بهذه الشاعرة قبل هذا، ولم يخرج من مدينة الشعر شواعر، إنما الشعر يكاد يكون وقفا على الرجال بل هو كذلك، رغم أن المرأة النجفية على تحصيل ثقافي جيد، بفعل انتشار الكتب والمكتبات، وطالما كانت رفوف الكتب جزءا مهما من أثاث البُيوت النجفية! ولعل السبب يرجِع الى كون المدينة محافِظة، والمجتمع مجتمع ذكوري، ولا أدلَّ على ذلك من تلك المعارضة التي ارتفع صوتها الى عنان السماء، وانقسم المجتمع النجفي الى قسمين بين مؤيد ومعارض، وقامت قائمة غلاة الرجعيين المتلفعين برداء الدين، من أجل ألا تُفتح مدرسة للبنات في المدينة المقدسة! انتصر المؤيدون التقدميون، وتأسست مدرسة الزهراء أول مدرسة للإناث في النجف. وفي خضم هذا الصراع نشر الشاعر الجواهري قصيدتين ينتصر فيهما لتعليم البنات، أولاهما "علِّموها" ثم لم يلبث أن يردفها بقصيدة "الرجعيون" التي نشرها باسمه الصريح في جريدة "العراق" في 26 8 1929، ومنها:

ستبقى طويلا هذه الأزماتُ    إذا لم تقصّر عمرها الصدماتُ

الى أن يقول:

وما الدين إلا آلة يشهرونها      إلى غرض يقضونه وأداةُ

ولا يختلف العراق كله وقتئذ عن النجف باستثناء العاصمة بغداد، وهذا ما يفسر قلة الشاعرات بالنسبة للشعراء، بل الحال نفسه لعموم البلاد العربية فلم يتعدَ عدد الشواعر البارزات أصابع اليد الواحدة، ولم تختزن ذاكرة الخمسينات غير أسماء: فدوى طوقان، ونازك الملائكة، وعاتكة الخزرجي، ولميعة عباس عمارة... ومع انتشار التعليم سجلت المرأة العربية والعراقية خصوصا حضورا بارزا، وما أن حلت ثورة الإتصالات أو ما يسمى الثورة اللاورقية، حتى نجد أن العنصر النسائي قد تضاعف عدده خاصة في شعر الحداثة الذي بدا سهلا للكثيرات وأصبح الكم يطغى على النوع، بكلام "حلو" مكرر ينأى عن الشعر ويقترب من الخواطر باستثناء عدد قليل من الشاعرات ومنهن الشاعرة وئام ملا سلمان.

ومع أن أفق الشاعرة وئام ملا سلمان الشعري واسع رحيب، من القصيدة التقليدية العمودية الى شعر التفعيلة الى شعر الحداثة ويتعداه الى النثر فهي أيضا مقاليّة متمرسة. وفي جميع هذه الميادين التي طرقتها نجد تيمزا واضحا في شعريتها وتمردا على القيم الذكورية خصوصا وعلى القيم الإجتماعية البالية عموما،،، بيد أنها تنأى بنفسها عن الأضواء فهي قليلة النشر، رغم حضورها في عديد من النشاطات الشعرية التي تجري هنا وهناك، فلم تنشر أو تطبع لها مجموعة شعرية رغم غزارة شعرها، بل لا تحتفظ بما تنشر على بعض المواقع، وإنما تعتمد على خزين (أرشيف) المواقع الألكترونية، التي انقرض بعضها وانقرض خزينها معها، وبذلك ضاع بعض من شعرها. وحين شرعت شاعرتنا تنشر مقالاتها في أحد المواقع المعتبرة وجدتني متلهفا لمعرفة رأي القراء بشعرها، وسرعان ما خاب ظني وتلاشى حماسي إذ وجدت مقالها خلوا من نافذة التعليق، خمنت أنها رغبت عن ذلك!!

في قصيدة قوامها أربعون بيتا، كتبتها بمناسبة ذكرى رحيل الجواهري(ت 1997) العاشرة، القتها الشاعرة في مهرجان "المربد" في 2010ومطلعها:

سليلُ القباب الزُرق والشرفِ الأعلى     أيا نازلا في غير موطنه سهلا

والقباب الزرق إشارة من الشاعرة الى زقاق في حي العمارة من النجف يسمى درب القباب الزرق نسبة الى مقبرة آل الجواهري حيث يندهش المار لدارة جميلة العمارة تعلوها قباب زرق. وتشير الشاعرة في عجز البيت الى مفارقة: أن الشاعر الذي خاض غمار النضال، وأهدى بلاده أروع قصائده، لم يلق ما يستحقه من تكريم في حين كرمته البلدان الأخرى، وخاصة سوريا التي نزل فيها سهلا حيا وميتا!

هاكم هذا النضد الذي تصف فيه شاعرتنا معاناة الشعب، وقد استوحته من قصيدة الجواهري "تنويمة الجياع" حيث تقول:

أقول: جياع الشعب لليوم نوَّمٌ      وآلهة الأرزاق قد أطرقت خجلى

فلا الحرث مأمون وتكفي غلالُه     ولا تركت نارُ الحروب لنا حقلا

وهذا وريدُ الشعب ماانفك نازفا    وتلك جراح الأرض ما فتئت حبلى

وقد شاق أم الرافدين مخاضها      وكلّ ينا توّاق أن تضع الحِملا

ومن بعد إعياء وطول توجُّع       ذهابُ أمانينا لقد خنقوا الطفلا

وجاءوا بأم من بلاد غريبة       وقد أنجبت غيلانها بيننا السُّعلا

في هذ الأبيات الستة غِنىً في الوصف وثراءٌ في المفردات وحسن انسجام في تسلسل العبارة الشعرية وسبك في السرد الحكائي الشعري وصدق في تصوير هذا الواقع المتردي( ستلازم هذه الخصائص جلّ نتاجها الشعري). بعد نحو من ستة عقود على ما قاله الجواهري في "تنويمة الجياع"، وكأني بالشاعر السياب لا زال يردد بصوته الحزين : مامرَّ عام والعراق ليس فيه جوع، أو: سلام أيها النخل الذي لم يُشبعِ الأبناء!! بل انضاف الى الجوع جرح لا يني ينزف دما! بحر الطويل من البحور الصعبة الذي يبدو عصيّا على كثير من الشعراء المتمرسين، وظفته وئام توظيفا خلاّقا، وسالت شعريتها فيه بانسيابية مدهشة لا تكلف فيها!

ومن قصيدة "الحنين الى بغداد"، تنطلق العواطف من عقالها بلغة رشيقة وموسيقى هامسة بروي السين المطلق الضم، وعلى الطويل أيضا، يجعل أبيات القصيدة زفيرا متتابعا، وصورا مركبة، الحنين يختلط بالغزل ببغداد، مما جعلها سمفونية حزينة، القصيدة غنية بالتعابير البلاغية، مثل الإستفهام الإنكاري"هل أمه تقسو؟"  والمجانسة اللفظية بين "انتعش وارتعش" مما أغنى الجانب الموسيقي في المطلع، والتكرار البلاغي"بهمس وعند الليل ما يفعلُ الهمسُ"،و "على أمسها هيهات لن يرجع الأمسُ"..فلنسمع بعضا منها:

سلام على بغدادَ ما اشرقت شمسُ          وما انتعش السُّمارُ وارتعش الكأسُ

وما رنَّ عودٌ أو تغنت مليحةٌ             بهمس وعند الليل ما يفعل الهمسُ!

تُغازلُ صبا هدّه الشوقُ موجعا          وتشفيه إذ أضنى أطباءه   اليأسُ

وقبّل عُصفورٌ بها ثغر زهرة            وضاع الهوى عِطرا ترقُّ له النفسُ

بعيدا أناجيها وشوقي مؤجج          يتيمٌ يرومُ الأمَ هل  أمُه   تقسو؟

أنا نخلة تروي العراجين حزنها      على أمسها هيهات لن يرجِعَ الأمسُ

أنا سندباد غاص في لجة النوى      وضاعت به الشطآن أنى له يرسو؟

للشاعرة وئام ملا سلمان أكثر من قصيدة في الحسين الشهيد، وهي قصائد طويلة، أعتبرها بلا مبالغة من أروع ما قيل في الحسين، ولو أدركها السيد جواد شبر لضمها لموسوعته الذائعة "شعر الطفوف"، قصيدة وئام هذه وغيرها تضع شاعرتنا في مكان سامق تستحقه لتمكنها من الدفق الشعري المطبوع بدون تكلف وطول نفسها، وقدرة عالية على التصوير، وسيلاحط القاريء قدرتها على المقابسة والتضمين البلاغي، وهو توظيف السيرة والحدث ضمن موضوع القصيدة بانسيابية وهو من االقضايا الفنية الصعبة في الشعر، والتي تدل على ثقافة عالية فلنسمع شيئا من قصيدة الحسين:

كلعاملنابيومكذكـــــــرى

ياقتيــــــلاسموتنبلاوفخرا

ماتخطالأقلامفيكوتروي

لـ(حسيناه) وحدهارمتُسفرا

كيفليوصفعشقكمبكلامٍ

ليسيجزيالكلامُنثراوشعرا

منلكلالثوارصارإمامــاً

ومناراًيبثهديـــــــــــــــاوفكرا

ياحفيدالرسولوابنعلــــي

ورضيعاًمنفاطمالطهرطهرا

ياربيباًفيمهبطالوحيأضحى

شاغلاًللنبـــــــيكتفاوحجرا

كانيدريبأنسيفاًلشمر

ينبـــريصوبهويحتز  نحرا

أيّقومنــــــادواعليك،ولياً

وإماما،وبيتوالكغـــــــدرا

خبأوا  تحتجنحهملعلــي

وبنيـــــهمـــنسالفالعهدثأرا

كيفتنسىأحفادعتبةبدرا

يومزُفتإلــــىالخلائقبشرى

ألّبـواحشدهمليشفواغليلاً

آلسفيان،مــــنكسفيانشرا !

مانسوا  بعلهمولاتاًوعزّى

حينأهوىالفتىعليهنكسرا

رفضوالعلينهجعدلوحق

يتساوىالمخلوقعبداوحـرا

كرهوامنطقالصوابلدين

وارداواللظـلـــــمأنيستمـــرا

جئتهممصلحالأمــــــــةطه

أبدامانويتأشراوبطـــــــرا

يالأرضالطفوفحيناستبـاحت

لبناتالنبيستراوخـــدرا

وثراهانهراغدتلدمـــــــاء

مـنجباهكانتمياميـــــنغرا

منكسبطالرسولاجزلروحا

ويقيناوأوهبالنفسمهـــــرا

وابنسعدبالريقدباعديننـا

طمعالنفس،خزيهاحينتـُشرى

ظامئاسيديوتمضيعزيزا

لاذليلاًومـــــنيوازيككبرا !

أيموتالحسينمندونماء

وعلــــيالنـــدىبكفيـــهنهرا

ياوحيدافيساحةالموتماضٍ

يتلقىالحتوفبيضــاوسمرا

قالهاياسيوفهياخذينـــي

هادرالصوتمقبـــــــلالامِفرا

فتوالتعليهمنكلصوب

بئسقــومحلّوابكوفـــاندَخْرا

يالرأسفوقالقناحملوه

لابنبنتالرسولللشـــــامجهرا

ويحقلبيوزينبويتامـــى

وعيــــونتدورخوفـــــــاوحذرا

جنليلعلىبناتعلــــي

أينحاميالحمــــىليحميظهرا !

ياسليبالثيابأفديكنفسي

وعيالـــــيوالقلبيلتـــــــاعقهرا

وستطوىالدهورفيناوتجري

لحسيندموعنــــــــــاهيحرّى

أنتبــــاقنأممنكمــــــزارا

مــــنرياضالجنــــانيزدانتبرا

وسفينالنجاةيبقىالحسين

لميخبجاعلوكحصناًوذخرا

حبكــــممرضبهاتهمونا

ورجوناالرحمنأنليسيبرا

أحسناللهياعليــــاًإليكم

بمصابوعوّضالحزنأجـــرا

 

لقد ابدعت الشاعرة وئام ملا سلمان حقا بتوظيف التاريخ ضمن إطار السرد الشعري، مستفيدة من خزينها المعرفي بالتاريخ مع أختيار اللغة الشعرية الملائمة على بحر الخفيف الذي حلقت به فاحسنت التحليق، مما جعل القصيدة على تماس تام مع الشعر الملحمي الغائب عن ديوان العرب!

أختتمُ هذه الوقفة بقصيدة "قبة العسجد".  في صباح نجفي باكر كانت تسير في المدينة العتيقة فلاحت لها قبة الضريح الحيدري فملأتها رهبة وخشوعا، جاشت عواطفها بهذه الخريدة الرائعة عل بحر المتقارب، وهو من الأبحر الخلية غير الشائعة، للجواهري فيه أكثر من قصيدة" أتعلم"، ولعلي محمود طه المهندس" اخي جاوز الظالمون المدى" وهو بحر فيه سرعة بسبب قصر التفعيلات"فعولن" وحزنأيضا، فلنسمع:

سلامٌعلىقبةالعسجدِ

وبوركتمنطاهرالمرقدِ

عليهوالحقفي أرضه

ليومالقيامــــةوالمشهدِ

سلامٌعلىقاصدللضريح

يصلــيويهنأبالأخلـــدِ

سلامعليكوليدالخباء

تفردتفيشرفالمولــد

سلامعلىواهبٍخاتما

زهاوتباهــىبأتقـــىيــــد

تـُمدالىسائلفيالصلاة

لنيلالكرامةوالمقصـــــد

سلاممطلقهابالثلاث

لدنياهسعياًالــــىالسرمــد

تـُغربهاواهناتالنفوس

ويعرضعنها(ألافابعدي)

ويدنومنعالياتالحصون

ولمتعصبابعلىالأرمد

سلامعلىمطعمزاده

ثلاثـاًتباعـــا.. فأينــــــــــــدي

سلامعليكبيومالغدير

يبلـّغجبريــــــــلبالمـــــعقد

سلامعلىقاصدللصلاة

يشـــدّ  الحيازيــــــمللمحتـــد

ويعلمانالمناياتحوم

وانالتلاقــــيعلىموعــــد

هوالفوزقالوربالعتيق

ووعدالمليكبذيالمقعــد

فحسبمحبيكيومالحساب

تتوقللقياكفــيالمورد

 

ـ للموضوع صلة-

 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2234الخميس 04 / 10 / 2012)


في المثقف اليوم