قضايا وآراء

التغيير على المذهب اللاكوستي .. هل مازال العسكر في الجزائر بحاجة الى غطاء رئاسي؟ / إيناس نجلاوي

فقال: خمسون سنة. فقالوا متعجبين: منذ عشر سنين سألناك فقلت خمسون سنة، والآن تقول كذلك؟!

فأجابهم: الرجل الحر لا يحيد عن كلامه، فالله واحد والقول واحد. ولو سألتموني بعد عشرين سنة فهذا جوابي أيضا.

 

مجاهدون لم يرفعوا سلاحا في وجه العدو:

بعد خمسين سنة من الاستقلال عن فرنسا، مازالت الجزائر رهينة عسكر فرنسا، ففريق لاكوست واحد والظلم واحد. بعد خمسين سنة، مازال حال الجزائر لا يتغير حتى و ان أوشكت دفعة روبار لاكوست على الانقراض بأمر الله بسبب العلل وتقدم السن وليس لأن الشعب قد قرر الحساب. تلك الدفعة من "الجزائريين" التي تجندت -إبان الاحتلال الفرنسي للجزائر- تحت راية جيش الاستعمار في فرنسا وكانت تصطف كل صباح امام العلم الفرنسي لتأدية التحية الوطنية الفرنسية. لكن حين مالت كفة الحرب التحررية لصالح فرسان الجزائر، تسربت تلك الدفعة من ضباط الصف (الذين رقاهم الجيش الفرنسي فجأة الى ملازمين) وألقت بمظلياتها صوب تونس والمغرب في أواخر الخمسينات وأوائل السيتنات.

وهكذا تحول الضباط الذين كانوا يغنون "لامارسييز" في ثكنات العدو الى محاربين على الورق –في كتب التاريخ المغلوطة- ومجاهدين في جبهة التحرير لم يرفعوا يوما سلاحا في وجه العدو. كان مخططا لدفعة لاكوست ألاَ تقدم "شهداء!"، فهي لم تهرب من فرنسا لتحاربها على الحدود الجزائرية وانما لتحكم باسمها في مرحلة ما بعد الاستقلال؛ مرحلة ما بعد اضطرار واجبار فرنسا على الخروج العسكري من الجزائر وسحب معمريها، ليحل محلهم مُوالوها.

 

صقور المؤسسة العسكرية الجزائرية الفرانكوفيليون:

مكن انقلاب بومدين العسكري على الجمهورية الحديثة النشأة من بزوغ نجم صقور المؤسسة العسكرية الجزائرية المنتمين لدفعة لاكوست الفرنسوفيلية قلبا التغريبية قالبا، حيث تمت الاستعانة بهم على نطاق واسع باعتبارهم "أعلى شأنا" و "أكثر تميزا" لتكوينهم العسكري المتطور في فرنسا. وبحلول عام 1975، عُيّن أبرز صقورهم العربي بلخير قائدا للمدرسة العسكرية التقنية ببرج بوعريريج أين اجتمع مع زملاء دفعته وضباط الامن العسكري سنة 1978 و أجمعوا على تعيين البورجوازي الشاذلي بن جديد –قائد الناحية العسكرية الثانية آنذاك- خليفة للرئيس الراحل هواري بومدين بصفته أقدم عقيد في جيش التحرير الوطني.

و رغم أن بلخير كان ذراع الشاذلي الأيمن، إلاّ أن الصقور الجارحة كان ينازعها على ربوبية المؤسسة العسكرية أصدقاء الشاذلي (بلوصيف، مرباح، بن يلس، بلهوشات وغيرهم). فكان لابد من خطة شاملة للاطاحة بالمقربين من الشاذلي والوصول الى حكم الجزائر بلا منازع؛ تلك الغاية القديمة التي شاء لها أن تدخل حيز التنفيذ المباشر تزامنا مع مظاهرات أكتوبر 1988. وبذلك كانت الجزائر اول بلد عربي يخضع لمخطط الفوضى الخلاقة؛ فوضى الرعب و الموت لتخليق بارونات عسكرو-سياسيو-مالية.

 

مظاهرات 1988 وتجربة الموت الأولى:

بعد عقود من الاستقلال، لم يتحقق حلم جزائر العزة والكرامة و رغد العيش. فقد فشلت الثورة الزراعية وكانت الاشتراكية تعني تقاسم رجالات الجيش والسياسة ريع البترول وبهذا يتم شراء ولائهم. و كان السكوت على التجاوزات وسرقات المال العام ضمانا لاستقرار أركان الحكم وحائلا دون حصول انقلاب آخر مماثل لانقلاب جوان. وهكذا صار أقصى أماني الشباب الجزائري عبور المتوسط لبلوغ فرنسا، التي أخرجها أبائهم عنوة، بحثا عن حياة كريمة مرفهة.

تراكم الظلم والإقصاء وسوء التسيير و استشرت البطالة، قاد كل ذلك إلى مظاهرات أكتوبر 1988 ضد الفساد الإداري والمالي والسياسي واللاعدل في توزيع الدخل الوطني ولا تكافؤ الفرص وضنك العيش. لكن بالنظر إلى ما رافق المظاهرات، يمكن الجزم بأنها لم تكن وليدة الصدفة. فرغم توفر أسبابها ودوافعها، إلا أن شرارة الانطلاق يبدو انه كان مخططا لها بدقة من الخارج والداخل بغية نشر الفوضى والخوف للتمكن من الاستحواذ على مقاليد الحكم.

روجوا لنا أن زمام الأمور انفلت من الدولة، خاصة بعد أن احتل المخربون الطرقات وانتشرت مجموعات إجرامية تنهب المحلات والمؤسسات و تعثوا خرابا في ممتلكات الوطن ومنشآت الأفراد. وبما أن الداخلية وجهاز الشرطة أصابهما الشلل، فقد تمت الاستعانة بالجيش للتعامل مع المتظاهرين، ونزلت القوات الخاصة الشوارع و ما أدراك مالقوات الخاصة وبطشها!

يدّعي الجنرال خالد نزار –الناطق الرسمي باسم دفعة لاكوست- أن الجيش لم يكن مؤهلا للتعامل مع المدنيين وفض الاعتصامات والاشتباكات، ولذلك لجأ لاستخدام الرصاص الحي!! ذاك السلاح الذي أهدى للجزائر استقلالها، تم تصويبه عام 1988 نحو صدور شباب الاستقلال، فسقط 500 قتيل.

تروع الشعب الجزائري، ثم دفن ضحاياه و أخرسه هول الصدمة عن المطالبة بحق من سقطوا.

و تأكد للصقور –من خلال تلك التجربة الدموية- أن القتل وسيلة فعالة لحكم وإخضاع الشعب الجزائري وبسط اليد على ثرواته. ولكن ليكون القتل على نطاق أوسع وأشمل، لا بد من اختلاق عدو وافتعال حرب طاحنة وقودها المواطن الجزائري وطرفاها عسكر فرنسا من جهة والجبهة الإسلامية من الجهة الأخرى. وهكذا جيء بالتعددية السياسية كمخرج لأحداث 1988 ومدخل لوقائع أشد مأسوية وأكثر عنفا وأوسع نطاقا من تجربة الموت الأولى؛ إنها عشرية الموت والدم والدموع والدمار.

 

1992؛ دفعة لاكوست وهولوكوست الجزائر:

كان من انعكاسات الاحتلال أن خضعت جزائر ما بعد الاستقلال إلى عسكرة السياسة فتهمش حيز السياسة في دواليب الحكم وكانت الممارسة السياسية –وما زالت- عبارة عن دائرة مغلقة –غير قابلة للاختراق- عمادها المال والبترول المتركزان في يد السلطة التي ترزخ تحت قبضة العسكر الذي يدار من قِبل مجموعة لاكوست، أي ارث الاستعمار الفرنسي. وقد أدى هذا الإقصاء المتعمد للأداء السياسي إلى فراغ ملأه دخول الدين معترك الحياة السياسو-اجتماعية منذ سبعينات القرن الماضي...

تقتضي الإستراتيجية العسكرية التوسعية الأمريكية توليد بؤر توتر باستمرار كي يتمدد جيشها ويتدخل لحل الصراعات التي اختلقتها بالأساس. فاشتعلت الحرب بين إيران والعراق لزعزعة أمن الخليج، ولم يكن تشجيع صدام على ضم الكويت سوى مبررا لدخول القوات الأمريكية الخليج العربي وما نتج عنه من إقامة قواعد عسكرية أمريكية ثم احتلال مباشر للعراق. ومازالت أمريكا تصدر للعالم خرافة الخطر الإيراني على السلام العالمي و ذلك لتمديد إقامتها في الخليج النفطي لأطول وقت ممكن. وبالمثل، اتبع عساكر فرنسا في الجزائر نفس الأسلوب المتمثل في تخليق بعبع إسلامي و تسويق اسطوانة الخطر الأصولي بغية إطالة زمن احتلالهم للجزائر إلى إن يستفيق الشعب أو يقضي الله أمرا كان مفعولا (وأخشى أن الشعب الجزائري هو المفعول به).

لكن السؤال الذي لم يطرح لحد الآن هو: هل كانت انتخابات 1991 أوسع من المقاس اللاكوستي؟ أو بصيغة أخرى؛ ألم يكن ظهور ونجاح واكتساح الجبهة الإسلامية للإنقاذ (الفيس) ضمن سياق المخطط الذهني لدفعة لاكوست؟

لم ينكر نزار في أحاديثه التلفزية توقع المؤسسة العسكرية المسبق لنتائج أول انتخابات تشريعية عقب فتح باب الحريات والخروج من بوتقة الحزب الواحد، لكنه لم يجرأ يوما على الإعلان بأن جماعته كانت تقف وراء إقرار التعددية السياسية التي لم يكن الهدف منها سوى إدخال التيار الإسلامي بشكل قانوني في اللعبة السياسية لغرض امتصاصه وتشويهه وشن الحرب على الجزائر بحجة محاربته...

بعد توقف إطلاق الرصاص وتوقف الشغب واستتباب الأمن، جرت الإطاحة بحكومة قاصدي مرباح وانبرى كبارات الجيش ليديروا العجلة السياسية خلف الكواليس لكن الأكيد أنهم تركوا على مكتب رئيس الوزراء الجديد قرار إنشاء الأحزاب تماما كما جهزوا و وضعوا قانون الوئام المدني في إحدى أدراج المكتب الرئاسي قبيل إحضار بوتفليقة إلى قصر المرادية...

استلزمت التعددية والوعود بإصلاحات سياسية واقتصادية تعيين رئيس وزراء من الإصلاحيين، فوقع الاختيار على مولود حمروش الذي تقلد منصب رئيس الحكومة الجزائرية من 5سبتمبر1989 إلى 5جوان1991، وسكت العسكر عن تقويض سلطاتهم في دستور 1989 في مقابل إعلان حالة الطوارئ.

بدا خلال سنوات حكومة حمروش وكأن البساط سحب من تحت رجال لاكوست وأنهم انتقلوا من الفعل المنفرد إلى التفرج السلبي على انجازات حمروش، ليعلقوا فيما بعد كل أخطاء المرحلة وتوابعها على حكومته. وبالفعل، فقد رمى نزار المنشفة (المخضبة بدماء الجزائر) في وجه حمروش و اتهمه بالوقوف حائلا دون تنبيه الرئيس إلى "ظاهرة تنامي خطر الفيس" بالقول: "إن حمروش كان يمحو كل شيء أقوله للرئيس"!! وكيف لعاقل أن يصدق تمكن الإصلاحيين من التحكم في الشاذلي وعزله عن اللاكوستيين الذين جعلوه رئيسا على الجزائر ولم يكن باستطاعته الخروج عن طوعهم وحيز نفوذهم وأوامرهم؟؟

فتِح المجال السمعي البصري، طفا 60حزبا على السطح، كما سُمِح بحرية التعبير وبذلك تهيأت كل الظروف لفوز التيار الإسلامي في ظل الملل واليأس من ثالوث العسكر وحزب جبهة التحرير والطبقة المتفرنسة التغريبية، أضف إلى ذلك شعبية الشيخين احمد سحنون وعباسي مدني وقدرتهما على الحشد.

بدا الأمر وكأن ديمقراطية حقيقية بوادرها تلوح في الجزائر، وتراءى أن الحياة السياسية في الجزائر اتخذت منحى تصاعدي و تخلصت من شباك الهيمنة العنكبوتية اللاكوستية وتحولت إلى خلية نحل مزدحمة تتحضر فيها كل الأطياف استعداد للانتخابات البلدية والولائية ثم التشريعية. لكن هذا المناخ الحر الصحي لن يستمر طويلا...

كان العالم بأجمعه يرقب التجربة الجزائرية الوليدة وتم استغلال وسائل الإعلام للترويج للخطاب الأكثر تطرفا للفيس وسطع نجم علي بن حاج الرجل الثاني في جبهة الإنقاذ بخطابه الراديكالي الإغراقي المثير للرعب (لكن المفيد لمخطط لاكوست) من دعوة إلى تسليح الشعب لمواجهة الحكومة والمطالبة بتسليم الثكنات بذريعة مساندة العراق في حرب الخليج، ويفتخر أمام الكاميرات بأنه خارج عن القانون، وقوله أن من أراد أن يرتد فهو حر أما من ارتضى الإسلام دينا فيفرض عليه تطبيقه بحذافيره والالتزام بكل تعاليمه وإلا طبق عليه الحد. وميدانيا، كان شباب الجبهة يعنفون غير المحجبات ويتوعدون الأزواج في الشوارع. وفي البلديات والدوائر التي حصلت عليها الجبهة (عقب الانتخابات المحلية في جوان 1990)، شُرِع في غلق دور السينما وبيوت الثقافة وتغيير اللافتات...

تصور رجلا الفيس الأول والثاني أن تعاطف الشارع والإرادة الشعبية اللتان استحوذا عليها بسحر الخطاب الديني تعادل، بل تتغلب على قوة السلاح الذي يشرف عليه نزار. وهنا نتساءل: أين كان حكماء وعلماء الفيس لينزعوا عن بلحاج غشاوة الانبهار بقوة زائفة؟ لماذا لم ينصح فيزيائيو ومهندسو وأطباء الفيس بلحاج بتخفيف اللهجة التهديدية وخفض سقف المطالب وعدم افتعال مواجهات مع أصحاب القرار والحل والربط في الجزائر للمضي بهدوء وسلامة للدور الأول للانتخابات البرلمانية؟ ولماذا تصدير الشاب بلحاج عديم الخبرة السياسية إلى واجهة الفيس واجتماعه بنزار للحديث باسم الفيس؟؟!!!

انقضى أمد الصمت اللاكوستي وعاد صقور الخراب إلى ساحة الأحداث ليفصلوا بشكل حاسم ونهائي في مصير الجزائر، فانتقل بلخير ملك الديوان إلى وزارة الداخلية ليعلن في 26ديسمبر1991 بحسرة أن الجبهة الإسلامية للإنقاذ فازت في الجولة الأولى للتشريعات بـ 188 مقعدا، تليها جبهة القوى الاشتراكية بـ25مقعدا، أما حزب السلطة فأتى في ذيل القائمة بنصيب 16مقعدا.

لم تكن أيام جانفي 1992 ككل أيام السنة، فخلالها تم حل البرلمان وإقالة الشاذلي وإلغاء نتائج الجولة الأولى من الانتخابات التشريعية. أطل صاحب البدلة الكلاسيكية والسيجار (نزار) ليعلن عن نهاية "العبث" الديمقراطي وبداية الجد العسكري (الانقلاب). وسواء اتخذ هذا القرار في قصر الايليزي أو في مكاتب السفارة الفرنسية في الجزائر، فقد كان بمثابة احتلال رسمي ثان للجزائر تم فيه الاستعاضة عن الجيش الفرنسي بجند الجزائر وكان محمد العماري القائد الميداني للحرب القذرة بإدارته لقوات نخبة تبلغ 15 ألف فرد.

و أعطيت إشارة الانطلاق لهولوكوست الجزائر؛ عسكريون يطلقون الرصاص وإسلاميون يكفرون الشعب الذي تخلى عنهم وسكت عن إيقاف المسار الانتخابي. و الاعتقاد بأن الجبهة الإسلامية كانت هي المستهدفة يحمل الكثير من الخطأ، فدفعة لاكوست خططت للاستيلاء على الجزائر والفيس أزم الأمور وعجل بالنهاية، والشعب الجزائري بمفرده تحمل العواقب الكارثية. وعلى مدار عقد كامل، كان العسكريون والإسلاميون يقتلون ويذبحون الشعب الجزائري ويبيدون قرى بأكملها، فغرقت الجزائر في قيعان الدماء والرعب والدمار والعذاب...

صدق المثل القائل مصائب قوم عند قوم فوائد، فقد مثلت عشرية الموت في الجزائر العصر الذهبي لدفعة لاكوست ولمن سار على دربها وتمكن صقورها من تحقيق كل أهدافهم و إسقاط خصومهم دفعة واحدة. فأخذ نزار مكان بلهوشات كوزير للدفاع في 1990 وحاكم بلوصيف في 1993، وبهذا انتهى حلف الشاذلي الذي طُرِد بدوره من المرادية.

أقيل الشاذلي وأجبر على الصمت والانزواء بعيدا عن الأضواء وإلا قدموا ملف فساده إلى العدالة (كما حدث مع رجله المقرب بلوصيف). كما منع أيضا من نشر مذكراته. وتشاء الأقدار أن يواري التراب في الـ5من أكتوبر2012 أي تزامنا مع الذكرى 24 لأحداث أكتوبر 1988 وقبل شهر من ظهور مذكراته في الأسواق. وسواء كان موته قضاءا وقدرا أو (بفعل فاعل!)، فالأرجح أن كتابه لن يرى النور أبدا وسيتم إعدامه وتدفن الحقيقة التي عاصرها وكان أحد أبطالها. ويظل نزار لوحده يصدر الكتب ويؤلف الأقاصيص عن ماضينا الأليم: "... وفي كتبه [أي نزار] يخترق الحقيقة لأنه ليس مثقفا من النخبة أو ديكتاتورا مستنيرا أو رمزا وطنيا وهي المعطيات التي تسمح عمليا بظهور طغمة (Junte) منسجمة و واضحة تقود الحكم وليس مجرد مراكز قوى تكتب لنفسها وعن نفسها..." (نور الصباح عكنوش: رسالة الأطلس عدد 416 سنة 2002 ص 9).

وبالنسبة لنزار، كانت المعركة صراع وجود بين "النورانية" التقدمية العسكرية اللائكية و "الظلامية" الرجعية الأصولية التكفيرية، وكان إعلام الاستئصاليين يروج أن دفعة لاكوست في مهمة مقدسة لمحاربة الإرهاب وإنقاذ الجزائر.

وباسم إنقاذ-إغراق الجمهورية، سُخِر كل ماتحتويه الجزائر من فوق وتحت ترابها لخدمة المأمورية اللاكوستية "الربانية"، حيث تحول الاقتصاد الوطني إلى حصص احتكارية تتوزع بين الجنرالات وأحبابهم وتمركز الجيش في العاصمة وضواحيها لحماية تجارة كبار الضباط وتأمين منشئاتهم ومصانعهم و أرسلت وحدات عسكرية إلى جنوب البلاد للحرص على سلامة الحقول البترولية، كما استولوا على الأراضي الزراعية الخصبة واشتروها بالدينار الرمزي بعد تهجير أهاليها الذين اضطروا إلى النزوح هربا من غارات الإرهاب المتكررة. كانت الاعتقالات التعسفية والاختفاءات القسرية والإعدامات الميدانية تحدث لأتفه الأسباب لمجرد الاشتباه أو تصفية الحسابات أو الوشايات الخاطئة أو لنشر الذعر وتبرير السرقات والسطو على أملاك وأعراض المواطنين التي أصبحت مشاعا لأبسط دركي أو شرطي وكذلك للجماعات الإسلامية المسلحة.

بعد ما يقرب عن عشرية من التقتيل والإذلال والإرهاب، كان طبيعيا أن يتوقف القتل بعد أن تحققت أهدافه وخاصة تحييد الشعب وإبعاده عن السياسة. اغتنى أمراء الحرب حد الثمالة والجنون و تقلد الأمن العسكري (المخابرات أو هيئة الاستعمالات والأمن) الحكم بعد أن تجمعت في يده كل خيوط العملية السياسية، أما الشعب فصار جسدا هزيلا تعصف بذاكرته الجماعية صور الرؤوس المقطوعة والجثث المتفجرة و المحترقة. كان الوضع في الجزائر كالتالي: سلطة عسكرية استبدادية لا تعرف الرحمة وطبقة سياسية تعيش في عالم خيالي وأرض محروقة و "لامجتمع" أو بالأحرى أنقاض شعب وأطلال وطن و حواجز نفسية لا تزول.

بمجرد أن حط الهولوكوست أوزاره، اهتدى حلف وحلفاء لاكوست إلى خطة تضمن الخروج الآمن (اللاعقاب) وتنهي الخلافات الاصطناعية بين الأصدقاء الأعداء، فكانت سلسلة قوانين واستفتاءات خاطها من اعتادوا القفز على القانون والانقلاب على الشرعية الدستورية، وانتهت حزمة المشاريع إلى قانون العفو الشامل والمصالحة الوطنية أو بعبارة أصح "التبرئة الشاملة وغسيل الأيدي الجماعي".

 

المصالحة لترقيع غشاء عساكر فرنسا:

"فاضت مدامعنا من هول المأساة، قلنا: ما جديدك يا مسيلمة؟ قال: أتيتكم بسلم المأساة، نكافئ فيه    الجناة ونبيع فيه الضحايا بدراهم معدودات. نلبس فيه الحقيقة ثوب الحداد ونحاسب بغلظة من يشكك في صلح المأساة."                      -المحامي محمد بن علي مزغيش-

 

حين يكون النظام غير قابل للإصلاح والتعديل، لابد من إحداث توازن بين مراكز القوى المكونة له لتجنب انهياره. و في الجزائر انقسم الجيش إلى قطبين؛ قطب الاستئصاليين المتكون في غالبيته من ضباط جيش التحرير في الخارج، وابرز وجوهه محمد العماري، توفيق مدين، خالد نزار، محمد تواتي، سماعين العماري و العربي بلخير، وتدعمهم فرنسا. ولا يرى هذا القطب بديلا عن استخدام آلة الحرب العسكرية إلى غاية استئصال آخر إسلامي ملتح وآخر متعاطف مع الفيس وآخر إرهابي اتخذ الجبال مأوى. أما القطب الثاني فهو يتشكل أساسا من ضباط جيش التحرير في الداخل، يتزعمه ليامين زروال و محمد بتشين ويتلقى التأييد من أمريكا، ويسمى قطب الحواريين أي أولئك الذين يجدون في الحوار والهدنة سبيلا لإنهاء المأساة.

وبالنظر إلى استحالة الانقلاب على زروال لوقوف السفارة الأمريكية في الجزائر في صفه ولتجنب التصدع داخل بنية الجيش، اقتضت المصلحة الظرفية الاتفاق و التحالف بين القطبين المتضادين، فكان الوئام المدني المغناطيس الجامع للطرفين، المبطل لتعاكسهما و المحافظ على توازن القوى وثبات الوضع الراهن (statu quo). وعن حالة الجمود (أي المهادنة السياسية) يقول المحامي علي يحي عبد النور: "الركود السياسي في الجزائر هو مرآة توازن الأقطاب، يبطل البعض تأثير البعض."

وكما نجحوا في إيجاد صيغة توافقية لتصالح أركان النظام مع بعض ومصالحتهم مع الجبهة الإسلامية، كان ضروريا البحث عن رئيس توافقي لتحقيق هذا الصلح الأحادي –البعيد عن تطلعات الشعب-. فأتوا بعبد العزيز بوتفليقة ولفوه بعباءة بومدينية لمنحه الشرعية والقبول الشعبين وجعلوا منه المنقذ القادر على خلاص الجزائر وانتشالها من المحرقة.

كان قانون الوئام الوطني محور عهدته الأولى، وتطور في العهدة الثانية إلى ما سموه العفو الشامل و المصالحة وصيغته النهائية "السلم والمصالحة الوطنية". وكلما استفتوا الشعب صوت بـ"نعم"، فأصبح ميثاق السلم والمصالحة أداة قانونية لتبرئة الجميع و تجريم من يجرأ على النبش في دفاتر الماضي. لم تكن تلك المصالحة سوى نصر مزيف قبله شعب مهزوم أقنعوه أن الصلح مع الذابح هو الوسيلة الوحيدة لضمان حياته.

من فرض الكل الأمني في التسعينات على انه إستراتيجية دفاعية وضرورة حيوية كي لا تتحول الجزائر إلى إيران أو أفغانستان شمال افريقية، هو نفسه الذي طرح "الكل الوئامي السلمي" في مطلع القرن21 وجعله خيارا استراتيجيا لاغنى عنه. لكن الحرص اللاكوستي على الهروب من مسببات المأساة والتغطية على آثار الكارثة، لم يكن أبدا يعني غض البصر عن مقدرات وخيرات الجزائر التي لم تنضب بعد. ولذلك تخلل عهدتا بوتفليقة الأولى والثانية ظهور طفيلي متسلق يسمى عبد المؤمن خليفة أو كما يلقبه الجزائريون "نصاب القرن".

أحدثوا تغييرا شاملا حتى في أساليب سرقة الشعب! ولى زمن الإغارة على البيوت وسلب الممتلكات عنوة، و بدأ عهد الاحتيال بوضع كافة مصالح وتسهيلات الدولة تحت إمرة محتال ليبني إمبراطورية مالية عمادها أموال مديريات التسيير العقاري ومكتسبات المواطنين الذين حولوا مدخراتهم من البنوك الوطنية إلى بنوك الخليفة طمعا في نسب فائدة اكبر.

توزعت الغلة التي تم جمعها بين المسئولين السياسيين وكبار العسكر وأنجالهم، ثم طار الخليفة خارج الحدود الجزائرية وأغلق ملف فضيحة القرن...

استغلوا رغبة الشعب في الحصول على فوائد بنكية أعلى للاحتيال عليه و سرقته. وبالمثل استغلوا حاجته إلى وقف شلالات الدماء لتمرير مشروع يخمد الصراع بين أجنحة النظام المتناحرة و لايستفيد منه سوى المتورطون في دماء الجزائر.

جاء في خطاب بوتفليقة سنة 2004 بمناسبة الذكرى الخمسين لاندلاع الثورة، أن المصالحة ليست مجرد نزوة تذهب بذهاب مبرراتها. لكن في واقع الحال، لم تكن المصالحة "الوطنية!" سوى خدعة لاكوستية أخرى-وليست آخرة- لاستغفال الشعب بغشاء بكارة اصطناعي حتى يوقع على عقد زواج عرفي دام لحد الساعة 13 سنة –مرشحة للتمديد- و أثمر طفل أنابيب أطلق عليه "قانون السلم والمصالحة الوطنية" والذي حرص على الاستقرار الأمني واغفل الشق السياسي والبعد الإنساني للأزمة.

فتوقف الاعتداءات بالقنابل والاغتيالات العشوائية والمدبرة والمجازر الجماعية لا يعني بالضرورة زوال الخوف وحل الأزمة. توقف الهجمات الإرهابية لا يعني أن الإرهاب قضي عليه، لان أركان النظام التي خلقته ثم استوجبت مصلحتها إيقافه قادرة على بعثه من جديد إذا ما تهددت مصالحها أو ذهبت مبررات الركون إلى حالة السلم، فهو كالبركان النائم قد يثور دون إنذار ويصهر كل ما يمر في طريقه.

المصالحة إذا ليست منهجية سياسية وطنية، بل مجرد تكتيك ومناورة لطي صفحة الأمس وتحصين الجناة وحمايتهم من المحاسبة والمحاكمة. ولم يكن السلم الموعود سلم شجعان بل تحقيقا لرغبة أقوياء يتحكمون في سلاح و ثكنات وبترول الوطن. أما النعاج المذبوحة المعدومة القوى فلم يكن بوسعها سوى الرضوخ لإرادة الأقوى واستغلال الهدنة الممنوحة لتضميد جراحها الأعمق من أن تندمل بمرور الوقت.

انطلاقة المصالحة كانت خاطئة لأن القانون تم صياغته في دهاليز صنع القرار الموصدة الأبواب، ولم تجر استشارة الشعب إلا بعد اكتمال صيغته النهائية، فقد ألقي للشعب فقط ليباركه وليس ليناقش بنوده الجائرة. النظام قرر العفو عمن صعدوا الجبال، لكن الشعب لم يقل بعد انه عفا عن النظام العسكري ولا عن الجبهة الإسلامية للإنقاذ.

كما كان قرار نزار بإيقاف المسار الانتخابي والانقلاب على الجمهورية منفردا و أحاديا (على مستوى دفعته)، كان قرار المصالحة خيارا نخبويا لا شعبويا للتصالح بين من أشعلوا النار في الوطن و أراقوا على أطرافه دم الجزائريين المطحونين بين رحى العسكر وسندان الإسلاميين. ما حصل في الجزائر لم يكن اقتتالا داخليا بين أبناء الوطن الواحد، بل كان ترويعا لشعب مسكين اعزل من قبل عصابات عسكرية –تحركها شهوة السلطة المطلقة وهوس الاغتناء السريع- من جهة وعصابات إسلامية من جهة أخرى يدفعها الحقد و الرغبة في الانتقام ممن عرقلوا مسيرتها نحو حكم الجزائر. لكن عوض أن تصوب رشاشاتها في رؤوس الجنرالات وتزرع ألغامها في مقرات اجتماعاتهم، أخطأت الهدف وأصابت الشعب المغلوب على أمره المرمي في بئر الجنون السحيقة بسبب جشع الأغبياء...

وحدها دفعة لاكوست تشعل آتون هولوكوست، وبعد أعوام تستصدر صكوك الغفران وتدعو للهدنة وتجلس على طاولة السلم والحوار لتصطلح مع بقية أطراف السلطة الحاكمة ومع خصومها أو من صوروا على أنهم خصوم لضمان استقرار النظام واستمراريته على حساب شعب ذاق كل الويلات.

 

آخر صرعات التغيير المخابراتية؛ ثنائية سلال غول:

لم تعد دفعة لاكوست تعني حصريا أولئك الضباط الذين غادروا الجيش الفرنسي غداة سنين الثورة الأخيرة ليتجسسوا على وينصبوا الكمائن لجيش التحرير الجزائري. أصبحت دفعة لاكوست النظام والنظام ليس سوى دفعة لاكوست. وحتى بعد انسحاب أغلب جنرالات لاكوست من الحياة السياسية، مازالت السياسة اللاكوستية قائمة لا تزول بزوال رجالها، وكأن كل مفاصل الدولة بُرمِجت عليها. فقد تجذرت في عمق النسيج السياسي العسكري الوطني وهيمنت دولة الظل اللاكوستية المرصوصة البنيان (المسوس) على الدولة الجزائرية، بل أصبحت أكثر عمقا وصلابة من الأخيرة. و تحولت إلى قوة معرقلة توقف الحراك الطبيعي للمجتمع أو تدفعه في فلكها، فهي كالخلايا السرطانية في الجسد الجزائري استشرت و قضت على المناعة مستغلة أن الوطن لم يحصن ثورته...

هل يحق لنا كجزائريين أن نسأل: من يحكم من في الجزائر؟

بعد تواري عناصر لاكوست عن الأضواء، انتقلت العلبة السوداء وزمام البلاد إلى المدعو الجنرال توفيق –رئيس المخابرات- الذي لا نعرف عنه شيئا ويشكك البعض منا في وجوده، فعلى مدار 20سنة من رئاسته لدولة الكواليس لم نر له سوى 3صور تتداولها مواقع الانترنت وتنسبها لحاكم الجزائر الفعلي.

وحتى إن افترضنا وجود هذه الشخصية المتأرجحة بين الحقيقة والخيال، فهل يمثل الجنرال توفيق قمة الهرم السلطوي؟! هل هو فرعون الحكم في الجزائر أم أن هناك سلطة أو سلطات فوقية ترسم له سياساته المخابراتية وتدير البلاد عن بعد؟

تعتمد السياسة اللاكوستية والمخابراتية عموما لإطالة أمد استبدادها على إحداث تغيير بين الفينة والأخرى حولها دون أن يطال هذا التغيير العمود الفقري للنظام ويمس هياكله الحيوية. وآخر صرعات التغيير تمثلت في تبديل ديو بلخادم-أويحيى الشهير وطرح ثنائية عبد المالك سلال-عمار غول استعدادا لرئاسيات 2014...

بعد تشريعات ماي 2012 التي قاطعها الشعب، طال انتظار تشكيل الحكومة الجديدة التي لم تحمل في طياتها أي جديد؛ نفس الوجوه العجوزة تتبادل الحقائب الوزارية، ولم يتغير سوى الرأس. وقد طال التغيير حتى الأحزاب التي اعتادت الحكم، فالآفلان غارق حتى أخمصه في الانشقاقات والانقلابات وتحول إلى حلبة مصارعة يتراشق فيها المتبارزون بالسباب والضرب بالأيدي والركل بالأرجل. أما الآرندي فقد انضم –ربما مؤقتا-إلى حزمة الأحزاب الغير فعالة، في مقابل ظهور حزب غول "تاج" وما رافقه من حملة إعلامية ترويجية مبالغ فيها. وهو حزب ذو صفة اسلاموية –مواكبة للربيع "العربي"-، ولد من العدم بلا حمل (لم يكن نتاج نضال سياسي) على شاكلة الآرندي في التسعينات. تناسخ من الرداءة وخرج من رحم الزهد الشعبي في انتخابات النظام، ليكون عنوان مراوغة جديدة ولعبة تنطلق في 2014، يكون فيها بوتفليقة رئيسا لعهدة رابعة –إن سمح بذلك رصيده العمري- وسلال رئيسا للحكومة وغول وزير الدولة الممثل لرئيس الجمهورية وحزبه حزب الأغلبية النيابية.

في ظل ترويض الشعب، تهميش الشخصيات الوطنية الكاريزماتية والدفع بمراهقين سياسيين إلى واجهة الحكم، يبدو التغيير الذي يستحقه الشعب بعيد المنال. والتعويل على حملة تطهير داخل المؤسسة العسكرية تبدو كذلك من ضروب الخيال خاصة وان الضباط الذين نشطوا خلال العشرية السوداء وترقوا الآن إلى ضباط ساميين مازالوا يدينون بالولاء للفريق العماري والجنرال نزار...

أخشى أن يصيب الشلل وعينا بالزمن ونتفاخر –كجحا- بتصلبنا ورفضنا للسير نحو الأمام. وان كان التغيير حتمية لا مفر منها، فكل ما ارجوه ألا يكون هذه المرة أيضا على المذهب اللاكوستي وأن يمسك الشعب لمرة واحدة بزمام أموره دون الدخول في دوامة عنف ودم جديدة...

 

بقلم: إيناس نجلاوي- خنشلة

أستاذة بجامعة تبسة- الجزائر

 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2237 الأحد 07 / 10 / 2012)


في المثقف اليوم