قضايا وآراء

العوالم الممكنة ومرجعية التلقي التأويلية .. وقفة مع مشروع (أمبرتو إيكو) / حيدر عبد الرضا

منزلة تأريخية عريقة شهد له بها معاصروه ومن تبعهم من أعلام الفكر الغربي، بالتالي هي منزلة معرفية ونقدية كبيرة، إذ ما فتئت كتبه النقدية والأدبية السيميائية تمد الدارسين المعاصرين بمعين من الأستقراءات والتحليلات والأستنباطات قد يعسر علينا اليوم أدراجها ضمن متصوراتنا الذهنية الراهنة والمعاصرة، ففي مؤلفات (أمبرتو إيكو) النقدية ثمة مقاربات شمولية، ترجع الى الرؤية النووية أو المقاربة التجزيئية التي أولاها الكثير من النظار لمناهجهم المعرفية، وبالتركيز على حيثية واحدة فقط من حيثيات التجربة الجمالية في المجال الأبداعي الأدبي . من جهة أخرى وجدنا (أمبرتو إيكو) وفي أغلب أعماله، لايفهم النص الأدبي على أنه مرتع للاسقاطات الذاتية أو كورشة للمقاربات الموضوعية الساذجة، بل أنه على العكس من ذلك، يفهم النص على أنه أنتاج تلاقح (هيرمينوطيقي) مركب بين ذات القارىء وموضوع النص، وأن كانت هذه المقولة تعد بمثابة بديهية متعالية، فأنه لا يتوانى اليه من تكريس النص وفي مسار نقدي مشروط وأنفتاحية النسق الثقافي لذاته . وعند أقتراب القارىء من عوالم هذا الكاتب النقدية لربما سوف يتضح له بأن كل بحث نقدي هناك، لربما هو قادم من جذور نظرية تعضيدية تأويلية ترسى قواعدها من المنظور السيميائي الى إجرائية الولوج نحو كثافة التجربة الجمالية في النص ودون ألغاء قطب أو بعد واحد من أقطاب النص . ويتضح من جهة أخرى من أن الدراسات والمقالات التي كتبها (أمبرتو إيكو) لها باعا كبيرا في سيميائيات الثقافية المنظورية، لهذا نجده في الحقيقة يشتغل على عدة أنساق دالة مثل النصوص الجمالية واللسانيات اللغوية والأشهار في الصورة السينمائية والموضة في الأزياء الفلكلورية، كما نجده في مرات أخرى له تجارب في الكتابة التأريخية التوثيقية، خصوصا ما يشوب القرون الوسطى في أوربا، ومرات في الفلسفة، خصوصا معالجة بعض الأزمات (الأيبيستيمولوجيا) التي مست ميدان الفلسفة واللغة الفلسفية، كما لا ننسى بأن إيكو له خاصية أخرى، تكاد تقل عند النقاد الآخرين، تتمثل في كتابة الرواية وكتابة الرحلات . من هنا وبعد أستعراضنا الميادين الكتابية لهذا الكاتب، لابد لنا الأن من دخول لأهم الطروحات التي كتبها إيكو في كتبه . حيث نبدأ أولا بنظريات كتابه الأول (الأثر المفتوح) ثم بعد ذلك سوف نقوم بتناول كتابه الثاني والأهم (حدود التأويل) ثم بعد ذلك سوف نتناول بشكل سريع روايته المعنونة (أسم الوردة).

 

(الأثر المفتوح)

من خلال قراءتنا لكتاب (الأثر المفتوح) وجدنا في مفاصل مباحث هذا الكتاب، ثمة أبعاد معرفية تأويلية كانت بمنأى عن السياق والنسق الآخر من ثقافة النص ونظرية التلقي، التي تبدو عادة رسما في مضامين المجالات التنظيرية التصحيفية، ألا أن ما واجهناه في مفاصل كتاب (الأثر المفتوح) كان عبارة عن مسيجات أرسائية خاصة في مدار غايات أسئلة النص وأشتغالات المعرفة النصية الداخلية، والناجمة عن ضرورات ظرفية معينة، والكتاب كان ممتدا في مباحثه نحو خصوصيات الهيرمينو طيقي حيث تكمن هناك ثمة مقاربات معرفية خاصة وحدود أنساق محاور مغايرة في التشكيل المنهجي . ونلاحظ من جهة أخرى بأن فصول كتاب (الأثر المفتوح) قد جاءتنا منتشلة على أساس مفاهيم محورية شرطت ما يسمى (الحداثة الغربية) لكن من جهة أخرى يبق القارىء لهذا الكتاب متوجسا وهو يناظر بذات ملهمة لعناصر موضوعات فكرية متنوعة بصريا وسمعيا، لهذا تراها أكثر أهتماما بالموسيقى والرسم والنحت، أما الفصول الأخرى من هذا الكتاب، فقد جاءت مقولات معرفية ونقدية تتقفى الأثر القرائي وجماليات التلقي، وعند التدقيق في باقي فصول الكتاب، نلاحظ بأن إيكو راح يتعامل مع النص على أساس أختراقات شفروية سائدة في صميم الأنساق المرجعية الجاهزة في النص، حيث نرى بأن العناصر الأخبارية في النص ذات تموجات ضئيلة قياسا وأفق تعدديات نظرية التواصل الخطابي، كذلك هناك بعض من فصول الكتاب ما تولد لدى القارىء ثمة قراءة أنفتاحية وأرسالية في شفرات المخبوء من النص، لتتضح بالتالي للقارىء مثل هذه الترسيمة (منبع / باث / قناة / رسالة / شفرة / مستقبل) وهذه الخطاطة بدورها تكون أراء معروفة في نظرية التواصل النصية، لذا من الممكن أن نجدها في معظم الخطابات الثقافية التواصلية ومهما تعددت وتنوعت . ولكن يبقى هناك أمرا هاما في كتاب إيكو، حيث نلاحظ بأن إيكو نفسه لم يغفله، وهو موضوع النموذج التواصلي والذي كان إيكو قد أعتمدة في السابق كنموذج تراتيبيا في نسق أصناف النموذج المبحثي، فإيكو على علم تام بأن النموذج التواصلي كان لا يخلو من وظائف وشفرات تحفيزية لفعل الخطاب التواصلي، لذا فأن عليه تقديم قائمة أدلة أشتغالات أنظمة التواصل ليبرهن على أن هذه الخطاطة ما هي ألا وظيفة متباينة في أبعاد أستجابة المعاني المحتملة . ونفهم من هذا كله بأن كتاب (الأثر المفتوح) ما هو ألا جملة تشريطات في التواصلية الجمالية وكتكاثر وتعدد للدلالات في النصوص الأنفتاحية، وعلى الرغم من النجاح الذي حظي به كتاب (الأثر المفتوح) ألا أنه من جهة ما بقي قرائيا ونقديا يشكل مقولات في بنية المغلق المفهومي الكبير .

 

(القارىء في الحكاية)

يعد كتاب (القارىء في الحكاية) الذي كتبه إيكو في سنة (1969) من أهم الكتب التي تناولت الجانب التأويلي في النصوص والكيفية الديناميتية التي عن طريقها يمكن أعتبار المتلقي ركيزة أساسية في عملية أنتاج الدلالة . وعند مطالعة فصول ومحمولات هذا الكتاب، لربما يجدها القارىء بأنها دراسات تداولية في النص وعلى نحو معاينة مشفرات خطابية المقروء بشكل علاقات ممكنة في نواميس التوليد الدلالي والتأويلي وضمن مجسدات خطابية وإجرائية تكتظ بحدود قارىء إيكو الذي وجدناه في بعض فصول الكتاب، يمثل متفرجا أفتراضيا ذات دلالة قاموسية في سياق منطقة مقدماتية في النمط والأفتراض والنموذج . أن القارىء لكتاب إيكو (القارىء في الحكاية) من جهة ما يلاحظ بأن هذا القارىء النموذجي ما هو ألا ألة مفهومية ومثالية تعمل بجد ونشاط ليس له من مثيل في عالمنا البشري المحدود، حيث نرى هذا القارىء في عوالم أنظمة إيكو القرائية، يملأ فضاءات المسكوت عنه أو المصرح به كأنظمة دلالية، ثم بعد ذلك نراه يبرز كموضوع سيميائي داخل موجبات البنية الغائبة، ولا يبتعد هذا القارىء في كتاب إيكو عن حدود الأطروحات الأفتراضية التي تحتوي على مقولات تمطيط الكلمة والمثال والمؤول الشفروي في المعنى الجوهري .

 

(حدود التأويل)

عند مطالعة كتاب (حدود التأويل) يواجه القارىء ثمة سمات دلالية منتقاة من كلمة أو جملة نص تتم بها عملية التأويل وعن مجموعة من الشروط الناجحة راح يتخذ إيكو مجال التأويل داخل منطقة تعاضد نصي لتكون لذاتها ذوات مفهومات وتجريدات سيميائية في عملية الفهم والتداخل التوقيعي . عند الأمعان في فصول كتاب (حدود التأويل) نلاحظ من خلاله إضاءات المقروء النصي من خلال مفهوم (العوالم الممكنة) وهذا المفهوم النصي يكشف مجلى كيفي خاص في مسيرة القراءة السائدة في النقد، حيث نرى بأن إيكو راح ينتقي لعوالمه النصية أفعال وخاصيات العالم الممكن كمسار من الحقائق والتحكمات الممكنة، وينطلق أيكو من ميدان العوالم الممكنة على أساس من المشاكل المتعلقة بالقصدية القرائية وأنطلاقا من منظورات (ماصدقية) وبهذا تتجلى لدى القارىء لهذا الكتاب ثمة نزعة الخروج من الخاصيات التشخيصية على أساس من أن العوالم الممكنة ما هي ألا خاصيات بلوغية في تيبولوجيا متعالية من الأفراد النموذجيين . وفي كتاب (حدود التأويل) يلاحظ القارىء بأن إيكو راح يفرض نموذجا للعوالم النصية بموجب قواعد تحويلية كامنة على أساس من هذه الترسيمة

(عدد الأفراد يرتفع في عالم أقل / عدد الأفراد يتقلص في عالم يتكاثر / يمكن للخاصيات الأنقراض في عالم سائد وشمولي) وعلى نمطية هذه الترسيمة نرى بأن إيكو راح يضع شروطا شكلية جديدة داخل جداول منطقية من التجريب، حتى يثبت لنفسه والى القراء بأن (العوالم الممكنة) ما هي ألا مبادىء يتمركز من حولها (التعاضد التأويلي) ولهذا فأن القارىء لكتاب (حدود التأويل) صار يدرك بأن إيكو يؤسس لعملية أستخراج الأشكال العاملية في النصوص السردية، معتقدا بأن هذا الدور سوف يفضي الى قراءات عصية وعصيبة . وعلى هذا تبقى أفكار كتاب (حدود التأويل) بمثابة أنشاء الطاقة التأويلية على نصوص بنى العوالم الممكنة بالعلاقات اللامنتهية واللامحدودة من زمن خطاب التأويل الخاص .

 

(أسم الوردة)

أن الوضع الذي صاغ به إيكو روايته (أسم الوردة) يظهر للقارىء على أنه منفصل تماما عن ما قد تحدث عنه إيكو في دراساته النقدية . أن رواية (أسم الوردة) ما هي ألا مشفرات أعتقادية في كيفيات سردية وفنية خاصة وأسباب ومسببات أختلافية من بنية النصية الشرطية، غير أن القارىء لرواية إيكو هذه، لربما يجدها ليست درامية مثلما هي تصويرية وبشكل مفرط، حتى أن الشخوص فيها لا تبدو على ذلك القدر من الخصوصية البؤروية، أنها رواية ذات مهيمنات أعتقادية في لحظة تكوين البياضات الشخوصية المعمقة، بالتالي فأن القارىء لها يجد بأن الأحداث النصية تبدو مضمرة وفق لعبة سردية وتعضيد نصي موثق بضرورات مخاتلة من بنائية النص نفسه . أن إيكو في روايته هذه لربما كان يسعى نحو مصير يبقى سرا الى غاية غير معلومة على مستوى الخطاب السردي ودون المرور حتى بمعطى علامات النص المركزي . أن القارىء لهذه الرحلة القرائية مع عوالم (أمبرتو إيكو) لربما لاحظ بأن هذا الكاتب دائما يسعى نحو أهمية الطابع الأنفتاحي في النصوص السردية والنقدية بشكل خاص، على حين غرة يرى القارىء بأن أغلب أعمال هذا الأديب العظيم ما هي ألا صروح كبيرة من الولوجات نحو عوالم الممكن وعوالم أنتاج الدلالات على نحو أختلافي من قيمة التأويل والمفاهيم الموضوعية . أن عوالم إيكو ما هي ألا نماذج معقدة تكون متداخلة ووظيفة النص التعاضدية والتفاعلية نحو مراكز مفهومية من أنظمة التواصل القرائي نحو منطقة العوالم الممكنة ومرجعية التلقي التأويلية .

 

(السيميائية وأزمة هوية النقد الأدبي)

كلما قرأت دراسة أو مقال أو أطروحة تخص عوالم نظرية السيميائية، كلما تبادر الى ذهني الشخصي البسيط بأن هذا نوع من التنصيص المعرفي والأبداعي والنقدي، ما هو ألا تابع بموضوعه الأبداعي وشكله المعرفي، حيث ظل أسير تواردات غير دقيقة في موضوعه وشكله التقويمي . فعلى سبيل المثال نرى بأن أغلب أعمال إيكو النقدية تتعذر عن أضمامها داخل حلقة سياق محاججة برهانية  أو مطارحة نسقية سليمة، بل أن أغلب من راح يكتب في نظرية النقد السيميائي، وجدناه يعوم المفردات والأفكار داخل سياق خصوصيات أنزياحية بعيدة عن مجال التداول الفكري والمعرفي المعروف، لذا فأننا وعند قراءة أعمال عميد السيميائية في العالم الأدبي المفكر العظيم (أمبرتو إيكو) صرنا نقلب المفاهيم السيميائية على نحو خاطىء وملتبس وبعيد عن إطار الأستثمار الحقيقي في هوية الفكر النقدي السيميائي، وإزاء هذا نقول بأن مناهج الأدب السيميائي في النقد الأدبي لربما هي الأن داخل أزمة تعريفية بهوية علاقات النص ومجالات تعاملاتها العديدة، وهذا بدوره ما قد برهنت عليه الكتابات والأعمال النقدية السيميائية في الوقت الحاضر وما تلاقيه من تخبط وتعثر في تفاسير النص الأدبي . وزيادة على هذا الكلام أقول شخصيا وليس نقديا بأن جميع نقاد السيميائية في الوقت الحاضر، ما هم ألا مكونات غير متكاملةفي أتمام معارف ومعالم النظرية السيميائية، ويعني هذا بأن السيميائية تبقى لصيقة بأسم وهوية ومعارف وأسئلة المفكر (أمبرتو إيكو) وحده لكونه هو من أجاد رسم خطوط الأبعاد الدلالية الكاشفة عن الأنتماء الحقيقي للنقد الأدبي والى هوية عوالم علاقات المدلولات الأدبية والفكرية الكبيرة .

 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2238 الأثنين 08 / 10 / 2012)


في المثقف اليوم