قضايا وآراء

السلطة على الشعر .. اللغة

فان دخول الأعاجم بقوة أدى إلى ظهور لغة شعبية وأدب شعبي.

والعربية الجاهلية لغة صعبة أخذت الكثير من مظاهر الحياة العربية الخشنة آنذاك كما إنها ليست لغة موحدة بل لهجات مختلفة بعكس العربية العباسية التي استقرت على صورة واحدة. وكانت لغة الجاهليين لغة بدائية تفتقر إلى التأمل العميق مما جعلها وصفية، كما إنها افتقرت إلى الشمول.

وكان عليها أيضا أن تقطع أشواطا حضارية لتتشبع بعمق المعنى وتكون مطاوعة ومرنة للاشتمال على العلمية، وكذلك قدرتها على الإيحاء وهي خطوة جبارة في رقي اللغة وتحضرها. وقد مهّد القرآن الكريم لكل ذلك فـ(الحاقة) للقيامة، و(تنفس) للصباح كلمات تحمل طاقات إيحائية تعبيرية هائلة. ونجد أمثلة لا حصر لها في الشعر العباسي كـ(تعتع) لديك الجن،و(تفاوح)  للمتنبي. وهو ما افتقر إليه الشعر الجاهلي المدقع بالواقع.

إن جهود القرآن الكريم هيأت للغة العباسية المتحضرة، التي اتسعت ووسعت من الشعرية على يد الشعراء المجددين إلا أنهم لم يتركوا سدى فقد ترصد لهم المحافظون الذين عمل أسلافهم الأمويون على العودة بقوة إلى لغة الصحراء المفترض أنها استبدلت، لذا لا نستغرب إذا قال ذو الرمة:

(وفراءَ غرفيةٍ أثأى خوارزها)

مشلشل ضيعته بيننا الكتبُ(1)

فقد سلك شعراء العصر الأموي دون مبالاة مسالك أسلافهم الجاهليين(2). بل إن حياة الجاهليين ظاهرة في شعر جرير والفرزدق أكثر من ظهورها في شعر طرفة وعنترة(3).      

وساعد اللغويون العباسيون بما ألـَّفوه في إعادة اللغة الجاهلية البعيدة؛ فابن قتيبة وهو غير عربي كان مدفوعاً بمؤسسة العباسيين المحافظة إلى تجاهل التطور الدلالي للغة فنسب الكثير من ألفاظ العباسيين إلى الغلط وردَّها إلى صوابها الجاهلي(4) فما بالك بالعلماء العرب ومؤلفاتهم.

وكان علماء اللغة العباسيون احرص من الأمويين على إعادة لغة الجاهلية إلى الحياة فاحيوا ألفاظها ومسمياتها فجمعوا للسيف ألف اسم، وللأسد خمسمائة، وللداهية أكثر من أربعمائة، وعشرات الأسماء للمطر والناقة وكذلك للصفات المختلفة مثل طويل، قصير، كريم، بخيل، ووصلت المفردات المتصلة بالجمل وشؤونه إلى أكثر من خمسة آلاف اسم.

ولكن ما يدعو إلى العجب حقاً هو إن هؤلاء العلماء الذين قصروا جهودهم على إحياء كلمات ميتة، لم يكلفوا أنفسهم عناء وضع أسماء عربية بديلة من مسميات أعجمية ظلت بأسمائها وتركت على حالها لأنها لا يوجد ما يقابلها في حياة العرب الجاهليين كأسماء العطور والزهور والأكلات والآلات وسواها التي نقلتها الأمم المتحضرة إلى العرب.

وقد فرضت هذه اللغة على الشعر والشعراء العباسيين مما اضطرهم إلى أن يجمعوا إلى لغتهم الرشيقة العميقة لغة سطحية مرقوعة، فما خلت منها ألفاظ شاعر مجدد أو مصرّ على القديم لان السهولة معيبة؛ فأبو نواس الذي حرص على أن يكتب بلغة حضارية كان يضطر أحيانا إلى استعمال ألفاظ موغلة في الصعوبة والتعقيد وهي الحال مع أبي تمام والبحتري وهما مجدد ومحافظ، وفي شعر المتنبي الكثير من ذلك فقد استعمل (جفخت) ولم يستعمل (فخرت) التي تقابلها معنى ووزنا، ويعد ابن الرومي والمعري أكثر الشعراء استعمالا للغريب. وظلت هذه الثقافة تفرض سلطتها ليس طيلة العصر بل حتى فيما بعده كما أسلفنا. ويرى الدكتور علي الوردي أن الشاعر الجاهلي كان حراً يتصرف بلغته كما يشاء، فجاء العباسيون فاستنبطوا من تلك الحرية قيوداً التزموها في أشعارهم، فهم يفعلون ما فعله الأسلاف ولا يزيدون من عندهم شيئاً(5).

 

بناء القصيدة:

على القصيدة العباسية أن تبدأ بالطلل أو النسيب كحال القصيدة الجاهلية، لذا كان لزاماً على الشاعر العباسي أن يتأمل بشغف أطلال صاحبته ويبكي رفيقيه... وإلا فانه لا يتأمل حسناً وذلك " لان مقصد القصيد الجاهلي ابتدأ بذكر الديار والدمن والآثار فبكى وشكا وخاطب الربع واستوقف الرفيق"(6).

وقد حاول أبو نواس أن يجدد بناء مطلع قصائده بما موجود في واقعه فاختار الخمر مادة لها مذكراً بان وصفها يتماشى مع الحضارة في حين الأطلال بلاغة الثقلاء :

صفة الطلول بلاغة الفدمِ      فاجعل صفاتك لابنة الكرمِ(7)

بل انه استهزأ بالأطلال في أبيات كثيرة مشهورة، ولكنه حدَّ في هذا فقد طلب إليه الخليفة العباسي هارون الرشيد أن يذكر الأطلال بخير في شعره وإلا عاقبه. وليس هذا الطلب بغريب من شخص يفترض انه لا يعنى بآلية الفن ومذاهبه، ولكنه راعي المؤسسة المحافظة التي عملت على محاربة التجديد والخروج على مبادئ الشعر الجاهلي. وفي ذلك يقول أبو نواس:

دعاني إلى نعت الطلول مسلطٌ    تضيق ذراعي أن أرد له أمرا

فسمعاً أمير المؤمنين وطاعة   وان كنت قد جشمتني مركباً وعرا(8)

 

ورفض الطلل لم يقتصر على أبي نواس بوصفه مشكلة شخصية بل انها قضية همَّت كل العصريين وكلهم رفضوها وأذعنوا مجبرين. قال الصنوبري:

سؤالك الربع شططْ             دنا العزاء أو شحطْ(9)

ومثل الطلل التشبيب، الذي عرف في القصيدة الجاهلية فكان الشاعر يبدأ به إذا لم يبدأ بالطلل وليس حتما على الشاعر أن يكون عاشقاً ولكنه أصبح سمتاً متعارفا عليه من أهل الفن والسياسة فالممدوح يرتاح إليه "لان التشبيب قريب من النفوس لائط بالقلوب لما قد جعل الله في تركيب العباد من محبته الغزل، وإلف النساء، فإذا علم انه استوثق من الإصغاء إليه والاستماع لهعقب بإيجاب الحقوق"(10).

وقد أصبح الغزل لازمة للشعر العباسي يجبر عليه الشعراء ليكون مقدمة أماديحهم ولما كان الشعراء متباينين في القدرة أو الانسجام مع الغزل، وكان فحولهم محرجين فيه، فان صغارهم ومتأخريهم جاؤوا بالغث والبارد والسخيف، وشاع مصطلح (غزل تقليدي) لا يخطئه القارئ أو المتلقي، ولم يكن من بدٍّ فقد عدّ النقد العباسي القصيدة التي تخلو من النسيب بتراء كالخطبة البتراء التي لا تبتدئ بحمد الله عز وجلَّ(11).

وقد ثار الشعراء على هذا الإلزام حتى المقتدر منهم وقيل إن أول من فتح هذا الباب أبو نواس بقوله:

لا تبكِ ليلى ولا تطربْ إلى هندِ واشربْ على الوردِ من حمراءَ كالوردِ(12)

كما ثار المتنبي على الشعراء الذين صاروا يجهدون قرائحهم على الإتيان بغزل مقبول، ورأى لو ترك الغزل للعشاق الحقيقيين فان في القول متسعا لأمور أخرى أهم من الغزل تملأ به القصائد حتى تستوفي ما عليها إزاء قضايا معاصرة مصيرية:

إذا كان مدحٌ فالنسيبُ المقدَّمُ أكلُّ فصيحٍٍ قال شعراً متيمَُّ(13)

ولكن المتنبي نفسه عاد فبكى الطلل، بل انه طوّر عملية البكاء فجعل الطلل يشاركه فيه:

اثلثْ فانا أيها الطللُ نبكي وترزم تحتنا الإبلُ(14)

وقد استحدثت مطالع أخرى في العصر العباسي منها:

الخمريات: كقول أبي نواس:

دع عنك لومي فان اللوم إغراءُ   وداوني بالتي كانت هي الداءُ(15)

الروضيات: كقول الصنوبري:

  كم ثنايا وكم عيون مراضِ   من أقاح ونرجسٍ في الرياضِ(16)

الشكوى: كقول البحتري:

صنتُ نفسي عمَّا يدنِّسُ نفسي وترفعتُ عن جَدا كل جبسِ(17)

الوصف : كقول أبي تمام:

ديمة سمحة القياد سكوبُ مستغيث بها الثرى المكروبُ(18)

الحماسة: كقول المتنبي:

أطاعنُ خيلا من فوارسها الدهرُ وحيدا وما قولي كذا ومعي الصبرُ(19)

الحكمة والفلسفة: كقول المعري:

غيرُ مجدٍ في ملَّتي واعتقادي  نوحُ باكٍ ولا ترنّمُ شادِ(20)

تجاوز المقدمة إلى الغرض مباشرة: كقول المتنبي:

أحلماً نرى أم زماناً جديدا أم الخلقُ في شخصِ حيٍّ أعيدا(21)

ولكن برغم تنوع المقدمة العباسية التي تعكس الرغبة الشخصية والواقعية للعصر المختلف عن العصر الجاهلي إلا أن الشاعر العباسي كما قدمنا ومثلنا كان يضطر غير باغ إلى ذكر الطلل والتلوين فيه لكسر الرتابة أو محاولة إضفاء طابع حضاري عليه. ولكنه طلل! وما ابعد الطلل عن حياة المدينة والحضارة.

 

آلية القصيدة:

قام الشعر الجاهلي على مبدأ مناقض للوحدة العضوية تماماً وهو (وحدة البيت) أو البيت المقلد أو بيت القصيد، وجعلوا من العيب أن يكمل الشاعر المعنى في بيت آخر وانسحب هذا على علم العروض فقد جعلوا (التضمين) من عيوب القافية وهو تعلق ما فيه قافية بأخرى. فقد عيب على شعراء أنهم ضمنوا في أشعارهم كقول النابغة:

وهم وردوا الجفار على تميم   وهم أصحاب يوم عكاظ إني

شهدتُ لهم مواطن صادقات   أتينهم بود الصدر مني(22)

وكانوا يفتخرون بأنهم حشدوا في البيت الواحد تشبيهات كثيرة لا يقوم بها بيت شعري واحد وجعلوا عدد التشبيهات دليلا على قدرة الشاعر فامرؤ القيس شبه شيئين بشيئين في قوله:

كأن قلوب الطير رطباً ويابساً  لدى وكرها العناب والحشف البالي(23)

وقد فرضت هذه الوصايا على الشعر العباسي فحملوا الشعراء على متابعة الجاهليين برغم محاولاتهم المحمومة تحقيق الوحدة العضوية في القصيدة فلا تتحول إلى حبات رمل غير مشدودة إلى بعضها البعض فنظم أبو العتاهية ستة أبيات تجريبية متلاحمة غير مستقل فيها بيت عن بيت:

يا ذا الذي في الحب يلحى أما          والله لو كلفت منه كما

كلفتُ من حب رخيم لما لمت   على الحب فذرني وما

ألقى فاني لست ادري بما      بليت إلا إنني بينما

أنا بباب القصر في بعض  ما          أطوف في قصرهم إذ رمى

قلبي غزال بسهام فما          أخطا بها قلبي ولكنما

سهماه عينانِ له، كلما                   أراه قتلي بهما سلَّما(24)

وهذه الأبيات لابد أن تكمل إذ يبين عوارها إذا قطعت وهو عكس ما سموه (المضمن) وهو "عيب شديد في الشعر، وخير الشعر ما قام بنفسه وخير الأبيات ما كفى بعضه دون بعض"(25). وإذا كانت المحاولات التجريبية عند رواد هذا العصر، ففي أخرة منه ظهر شعر رصين مبني على الوحدة العضوية مثله خير تمثيل ابن الرومي فقد " جعل القصيدة كلا واحداً لا يتم إلا بتمام المعنى الذي أراده على النحو الذي نحاه فقصائده (موضوعات) كاملة تقبل العناوين، وتنحصر فيها الأغراض ولا تنتهي حتى ينتهي مؤداها وتفرغ جميع جوانبها وأطرافها، ولو خسر في سبيل ذلك اللفظ والفصاحة"(26).

وقد انتبه الحاتمي إلى طريقة المحدثين في تحقيق الوحدة العضوية " مثلُ القصيدة مثل الإنسان في اتصال بعض أعضائه ببعض، فمتى انفصل واحد عن الآخر وباينه في صحة التركيب غادر الجسم ذا عاهة تتخون محاسنه.. وهذا مذهب اختص به المحدثون لتوقد خواطرهم ولطف أفكارهم واعتمادهم البديع وافانينه في أشعارهم"(27).

إن مذهب العباسيين المجددين القائم على (المعاني) لا يتطلب هذا الجمود الشكلي أو هذه القوالب المتحجرة. فأبو تمام كان دائب التنقل بين الغزل والمديح يترك هذا إلى ذاك، ثم يعود إلى الأول.. "والعرب لا تذهب هذا المذهب"(28). وكان المتنبي أكثر منه تحقيقاً للوحدة العضوية فكان يتنقل " من معنى إلى معنى غير عابئ بحسن التخلص ومقتضى الحال"(29) فان وحدة القصيدة الفنية جعلته يتخلى عن وحدة المنطق والترتيب المتبع: حسن الاستهلال، التخلص، والخاتمة. على ان تحقيق الوحدة العضوية كان بصورة اكبر في الموضوعات الجديدة التي كتبوا بها بلا سابق كالخمريات والزهديات والروضيات.

إلا أن هؤلاء الشعراء كانوا ملزمين بالكتابة على طريقة الأوائل فبشار يقول ما زلت أحاول مجاراة امرئ القيس حين شبه شيئين بشيئين في قوله (كأن قلوب الطير...) حتى قلت:

كأن مثار النقع فوق رؤوسنا وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه(30)

وجمع المتنبي أربعة تشبيهات في بيت واحد:

بدت قمرا وماست خوط بان            وفاحت عنبراً ورنت غزالا(31)

وما زال يتمرن حتى حقق خمس مطابقات في البيت:

أزورهم وسواد الليل يشفع لي          وانثني وبياض الصبح يغري بي(32)

 

ويتصل بموضوعة الوحدة العضوية (اللوحات المستقلة) للجاهليين فهم يقيمون لوحات مستقلة في القصيدة: فان مقصد القصيد يبدأ بذكر الديار والآثار ثم ينتقل إلى النسيب وبعد ذلك يذكر الرحلة والمعاناة من سرى الليل وحر الهجير ثم ينتهي إلى المديح.. (33). وهذه اللوحات تجعل القصيدة غير متجانسة لا تضمها وحدة عضوية بل ربما شعورية. وهذا الأمر ثار عليه العباسيون ما استطاعوا، ورغم انهم استبدلوا جزئيات هذه اللوحات بما اوجبه العصر فبشار وصف السفينة بدل الناقة او الحصان اداة للرحلة الى ممدوحه، واستبدل بهما المتنبي نعله لأنه ذهب إلى الممدوح مشياً على الأقدام، الا أنهم عموما كانوا يرضخون لتلك السلطة فيجارون الشعراء السابقين ويبدو التكلف واضحاً في لوحاتهم كقصيدة أبي نواس التي مطلعها:

يا دار ما فعلت بك الأيامُُ      ضامتك والأيام ليس تضامُ(34)

فقد حققت اللوحات الجاهلية كلها مما يوحي بتقليدها. غير انه كان يعدد اللوحات فقط بلا مهارة الجاهليين. وقد أخطأ الدكتور محمد مهدي البصير وموِّه عليه حين ظن أن الشعراء العباسيين تابعوا الجاهليين طوعاً لا قسراً، مما جعله يطلق حكماً خاطئاً وتعليلا غير ناضج: "إن الشعراء العباسيين من حيث مذاهبهم في النظم وبالإضافة إلى كثير من مقاصدهم وأغراضهم عيال على الشعر الجاهلي به يتأثرون وعلى منواله ينسجون. واثبات هذا غير عسير؛ فأنت تستطيع أن ترجع إلى ديوان أي شاعر عباسي لتتبين انه يقول القصيدة على روي واحد وفي عروض واحد ويتطرق إلى المواضيع المختلفة... وليس هذا كل شيء، بل انه كثيراً ما ينتحل أخيلة أولئك الشعراء"(35)!!

 

الموضوعات الشعرية:

كان من الممكن أن يعرف العرب في العصر العباسي فنوناً وموضوعاتٍ غير ما عرفوه وألفوه في السابق؛ كالمسرحية والملحمة، سيما وان الفرس الذي انضووا تحت ألويتهم كتبوا ملاحم ابتداءً من نهاية القرن الثالث إلى ما بعد التاسع الهجري، فشاهنامة الفردوسي أشهرها وليست أوحدها(36).

إلا أن الموضوعات الجاهلية ، كما تقدم، أعيدت منذ العصر الأموي، وجعلت الأرضية الثابتة للشعر العربي بكل مراحله، فتسيدت قصيدة المدح والفخر والهجاء والرثاء وغيرها مما عرف في جاهلية العرب. وقد عملت المؤسسة السياسية على تفعيل ذلك خاصة (المدح) الذي ظل سيد الأغراض جميعاً؛ فخلفاء بني العباس وأمراؤهم وبعدهم أمراء الدويلات التي انفصلت عنهم كانوا يجمعون الشعراء المداحين حولهم. وقد وصلت مبالغتهم في ذلك إلى إجبار الشعراء على مدحهم؛ فحين امتنع أبو العتاهية من قول الشعر أمر المهدي العباسي بحبسه في (سجن الجرائم)، وادخل عليه مع احد الثائرين العلويين فأمر بضرب عنق العلوي، ثم قال لأبي العتاهية: أتقول الشعر أو ألحقك به؟ فقال :بل أقول الشعر. قال: أطلقوه(37).

ولعل الأنَفَ كان وراء عدم ترجمة الأدب الإغريقي والروماني إلى العربية للتعرف على فنونهم الأدبية، وكانت حركة الترجمة مبكرة في العصر وترجم المنطق لأرسطو الذي كتب (فن الشعر) أيضا، ولابد أن تحقيق ترجمة كتاب دقيق ومعقد كالمنطق يعني إمكان تحقيق ترجمة الأدب وهو حتماً ابسط. ولكن من الذي أنف من ترجمة الأدب؟

لابد من وجود محاولات في ذلك فرفضتها المؤسسة المحافظة لأنها ترى العلوم مشاعة بين الناس، أما الأدب فيعني هوية الأمة. ولعل ابن رشد حين ترجم كتاب فن الشعر كان يعلم أنه إزاء فن ولون جديد يختلف عن ما ألفه وعرفه. وبرغم انفلات الأندلس من سلطة الموروث غير أن ابن رشد حوّل المسرحية إلى قصيدة فترجم التراجيديا إلى (المديح)، والكوميديا إلى (الهجاء). ولا أظن انه اخطأ جهلا بالترجمة، ولكنه أراد اختيار اقرب ما للعرب من هذين المصطلحين، فخطؤه ليس من جهل باللغة المترجم منها، بل بضغط المصطلحين الأجنبيين في قناة مصطلحين أراد الحفاظ عليهما بالترجمة وهما مختلفان حتماً.

إن دراسة الأجواء العباسية دراسة دقيقة تقنعنا بان الساحة قد أحكمت ولا سبيل إلى السماح باختراق شامل يعني استبدال أدب بأدب. وقد وجدنا أنهم قاتلوا على الجزئيات واحكموها أن تخترق. فالآمدي في مقارنته بين البحتري الملتزم بالقديم وأبي تمام الثائر على جزئياته، استغرق نهاية الجزء الأول وعامة الجزء الثاني من (موازنته)، في تناول الموضوعات التقليدية التي كتبا بها؛ فاثبت أنهما لم يخرجا عن المألوف الموضوعي للشعر العربي.

غير أن الشعراء العباسيين استحدثوا موضوعات جديدة قبلتها المؤسسة المحافظة ورضيها الخلفاء لأنها أصبحت صدى لواقع لا ينكر. ومن ذلك الغزل المكشوف (الماجن)، كقول أبي نواس:

نضت عنها القميص لصب ماءِ        فورّد وجهها فرطُ الحياءِ

وقابلت النسيم وقد تعرّت      بمعتدلٍ ارقّ من الهواءِ

ومدّت راحة للماء منها        الى ماءٍ معدٍّ في إناءِ

فلما أن قضت وطراً وهمّت            على عجلٍ الى أخذ الرداءِ

رأت شخص الرقيب على التداني فاسبلت الظلام على الضياء(38)

والغزل بالمذكر كقوله:

حمدان مالك تغضبْ عليّ في غير مغضبْ

إن كنتُ تبت إلى الله  جئتني تتجنبْ

وقد حلفتُ يميناً    مبرورة لا تكذّبْ

بربِّ زمزم والحوض  والصفا والمحصّبْ

أن لا أنال غلاماً      رخص البنان مخضّبْ(39)

 

ووصف الرياض كقول الصنوبري المبرز في هذا الموضوع:

أذهب كؤوسك يا غلام فان ذا يوم مفضضْ

والجو يجلى في البياض وفي حليّ الدر يعرضْ

أظنت ذا ثلجا وذا     ورداً من الأغصان ينفضْ

ورد الربيع ملوَّنٌ               والورد في كانون ابيضْ(40)

ووصف القصور وما يتعلق بها من برك وبساتين وغيرها كوصف علي بن الجهم النافورة، والبحتري لـ(قصر الجعفري)، و (إيوان كسرى) وبركة المتوكل والصحن الممتد في أسفلها والبهو الممتد في أعاليها وتمثال الدلفين والبساتين والرياض ومنها:

تنصبّ فيها وفود الماء معجلة         كالخيل خارجة من حبل مجريها

كأنما الفضة البيضاء سائلة             من السبائك تجري في مجاريها

إذا علتها الصبا أبدت لها حبكاً         مثل الجواشن مصقولا حواشيها

فحاجب الشمس أحياناً يضاحكها       وريّق الغيث أحياءً يباكيها

إذا النجوم تراءت في جوانبها                    ليلا، حسبت سماءً ركّبت فيها(41)

 تابع القسم الثاني من الدراسة

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1206 الجمعة 23/10/2009)

 

 

في المثقف اليوم