قضايا وآراء

المسلسلات التلفزيونية وإعادة كتابة التأريخ .. "عمر" أنموذجا (3-3) / يوسف ابو الفوز

وبدا لنا الممثل، وهو المخرج نفسه، حريصا على ان يقدم الشخصية مجرد ظهور بدون اي جهد تمثيلي ـ تساوى هنا مع الممثل الذي جسد شخصية عمر ـ وكأنه يخشى افساد الماكياج بتمثيله، وبدا لنا الامام علي، وهو المعروف عنه تواضعه في مأكله ولباسه، حتى لقب " أبي تراب "، ميسورا، ارستقراطيا، مثل بقية اغنياء قريش، بحيث بدا لباس الصحابي عثمان بن عفان، وهو من اغنياء قريش متواضعا الى جانب مظهر الامام علي . في المعارك والمبارزات التي خاضها الامام علي بن أبي طالب، كانت حركته مفتعلة ومبالغ فيها كثيرا، صحيح تماما انه عرف عنه كونه فارس مغوار، لكن لا يمكن لأي فارس شجاع ان يتحرك بهذه الصورة المتكلفة التي بدا فيها وكأنه ليس في معركة، وكأن الذي أمامه ليس عدوا مقاتلا ويحمل مثله سلاحا قاتلا ! من جانب اخر الحّ المسلسل على ظهور الامام علي بن ابي طالب الى جانب الخليفة عمر بن الخطاب، حتى وان كان بدون حوار او مشاركة، مجرد صورة جميلة ملازمة لعمر بن الخطاب، فبدا ظهوره مجرد ديكور، في محاولة لتقديم رسالة، تشير الى علاقة عمر الطيبة مع علي بن ابي طالب، وكأن الخلافات الطائفية المترسخة تأريخيا يتم حلها بمشهد تلفزيوني ساذج، اضافة الى كون قامة المخرج حاتم علي كممثل لم تكن مناسبة بأي شكل لتجسيد شخصية الامام علي، الذي تذكر كتب التاريخ انه كان قصيرا مربوعا . وبسبب من غياب الحبكة الدرامية في المسلسل، وبحكم كونه يغطي فترة زمنية قاربت 35 عاما، فاننا نجد حلقات المسلسل الاخيرة تجري الاحداث فيها، مع ايقاع حركة عمر السريعة في الاسواق، فلكي يعرض لنا مواقف في شخصية عمر، توضح لنا تسامحه وعدالته وعطفه على الفقراء واليتامي وتفقده الرعية، راحت الكاميرا تجري خلف الخليفة عمر وهو يدور مسرعا غاضبا ومتشددا في الاسواق ليقدم لنا العديد من الحكايات المتوالية في اقل من نصف ساعة لاحداث كان الفارق الزمني بينها في الواقع شهورا وربما سنينا ! ومعركة اليرموك التي استمرت ستة ايام، ابتسرها المسلسل في واقعة واحدة، بدون توقف وعرض لنا فيها خالد بن الوليد، وهو قائد عسكري عبقري وشجاع بقفزاته وصولاته وكأنه "أرنولد شوارزنيجر " يمثل لنا "ترميناتور الاسلام"(الحلقة الثالثة والعشرون)، واجزم أنه بهذا الاسلوب يمكن لحاتم علي تقديم فيلم تجاري عن خالد بن الوليد، الذي منحه المسلسل مساحة جيدة، يحصد به شباك التذاكر حتى في الدول الاوربية ! وارتباطا بالمساحة التي منحها المسلسل للعديد من الاحداث، نجد انه قدم قراءة ناقصة للتأريخ في مواقع عديدة، مثلا تجاوزه لمعركة النبي محمد مع يهود بني قريضة، ومن حق المشاهد ان يتسائل هنا : هل كان هذا تجاوزا للاشارة لدور الامام علي بن ابي طالب في معركة اقتحام حصن اليهود في خيبر؟ ام انه تجاوز لذكر"صفية بنت حيي بن اخطب " التي تذكر لنا الصادر ان النبي محمد تزوجها بعد ان اعتقها حيث كانت مع الاسرى واصطفاها لنفسه ناويا اكرامها وايجاد المصاهرة بينه وبين اليهود لاغراض سياسية وعله يخفف عدائهم، لكن العديد من الروايات تذكر انها سبب وفاة النبي بكونها دست له السم انتقاما لمقتل زوجها وأبيها مع من قتل يوم خيبر من اليهود وهم عدد تجاوز أربعمائة رجل وفي رواية سبعمائة، بعد ان تم أسرهم وسبي نسائهم؟ ام ان الجهات الممولة للمسلسل لا تريد اغاضة جهات سياسية يهودية او عربية باثارة صراع اليهود مع المسلمين؟ ان ضياع الحبكة الدرامية الواضحة في المسلسل، جعلته يقع في مطب كثرة الشخصيات التي تظهر ثم تختفي، وبعضها يختفي بسبب مقنع (وفاة ابو طالب، مقتل الحمزة بن عبد المطلب)، لكن العديد من الشخصيات التي ظهرت وما ان يتعرف عليها المشاهد، حتى سرعان ما تختفي، حيث يتم تجاهلها بحكم غياب الحبكة الدرامية، اضافة الى كون المسلسل اقصى عن الاحداث شخصيات لها ثقل في الدعوة الى الاسلام، ووقوفها الى جانب النبي والخلفاء الراشدين، مثل ابو ذر الغفاري ومالك بن الحارث الأشتر واخرين، فهل اختفائهم كان لاسباب فنية او طائفية؟ يضاف لذلك التناول السطحي لبعض الشخصيات المعادية للاسلام، فلا يعقل ان يكون "مسلمة بن حبيب" أو كما يسمى "مسيلمة الكذاب" الذي حكم مساحة واسعة من شرق الجزيرة العربية في منطقة اليمامة، وسجاح بنت الحارث، بهذه السطحية وحتى الكاريكاتيرية، وهما اللذين ارتدا عن الاسلام ونجحا في جمع العديد من القبائل العربية حولهما لمواجهة الدعوة الاسلامية واقلقا مركز الخلافة، فلم يكن مقنعا الشكل الذي ظهرا به اذا اردنا ان نقدم قراءة صحيحة وموضوعية للتأريخ ! رغم ان المسلسل حوى العديد من الشخصيات النسائية وبشكل ثانوي، واغلبها تظهر وتختفي بدون مبررات درامية، وذكرت اسماء العديد من النساء اللواتي لم نر أي ظل لهن في احداث المسلسل، الا انه ظل جافا روحيا وخاليا من العواطف فلم نر ولو ابتسامة لامراة، دعك من كلام الحب، وكأن المسلمين لم يعرفوا النساء والحب والمودة، بينما التأريخ يذكر لنا بأن غالبية الصحابة كانوا متعددي الزوجات، وان الخليفة عمر بن الخطاب وحده تزوج وطلق ما مجموعه سبع نساء في الجاهلية والإسلام، ونحن هنا لا نريد من كاميرا المسلسل ان تأخذنا الى اسرة النوم، ولكن المسلسل كان يمكن ان يقدم لنا زوجات المسلمين بمشاهد تتجاوز اطار تقديم أكواب اللبن والوقوف كحاجب لفتح الابواب، الا اذا كان القائمين على المسلسل يرون ان هذا هو فقط واجب المرأة ! وما دمنا في اطار الحديث عن الادوار النسائية، فمن الطريف ان الممثلة السورية مي أسكاف (مواليد 1969) أدت دور هند بنت عتبة زوجة أبي سفيان بن حرب، (الحلقة الثانية والثالثة والسابعة والثالثة عشر) وفي فمها يظهر جسر أسنان مصنوع بتكنولوجيا القرن الواحد والعشرين (من يدري ربما صنع في عيادات ابي جهل !!)، واذا توقفنا عند اعادة كتابة التاريخ في المسلسل فهناك العديد من الاخطاء التأريخية التي حواها المسلسل والتي تقود لتسجيل العديد من الملاحظات، منها مواعيد نزول بعض سور القرآن ففي حوار بين عمار بن ياسر وأبويه، في وقت سرية الدعوة الى الاسلام، قرأ عليهما سورة الضحى التي تشير المصادر الا انها لم تكن قد أنزلت فى ذلك الوقت (الحلقة الثانية)، وايضا ان أبي سفيان بن حرب شهد معركة اليرموك (636 م) ضد الروم، ولكنه لم يفقد عينه بسهم فيها كما بين لنا المسلسل خلال تلك المعركة (الحلقة الثالثة والعشرون)، وانما فقدها قبل خمس سنوات بسهم اصابه في حصار الطائف (631 م) وعلى يد سعيد بن عبيد الثقفي وكان مشركا يومها، ويروي المؤرخون لنا ان ابي سفيان ساعتها قصد النبي محمد بن عبد الله قائلا : "هذه عيني أُصيبت في سبيل الله "، فقال له النبي : "إن شئت دعوت فردت عليك، وإن شئت فالجنة" فقال : "الجنة"، فهل سعيد بن عبيد الثقفي يمت بصلة القرابة لاحد طاقم العمل في المسلسل لتنقل فعلته مع ابي سفيان الى الروم في اعادة كتابة التأريخ تلفزيونيا ؟! واذ كان لابد والاشادة بالعديد من الممثلين، الذي اعتمد عليهم المسلسل، وكانوا من مختلف البلدان العربية، سواء بأدوار اساسية او ثانوية، وكان بينهم اسماء لامعة في عالم الفن، فلا يمكن الا التوقف بأعجاب كبير عند الفنان العراقي جواد الشكرجي وحضوره الطاغي، وهو يسرق الاضواء من حوله، من كبار الممثلين العرب، وذلك بتمثيله الفذ لشخصية ابي جهل عمرو بن هشام المخزومي، وتقديمها بشكل مقنع، وصل به حدود التفرد في أداء شخصية لها ثقلها التاريخي اذ كان ابي جهل من الد اعداء النبي محمد والاسلام، مما يدعونا لتأكيد كل ما قيل عن امكانيات الفنان العراقي، وعدم تمكن المخرج العراقي من استغلالها . يبقى اود ان اشير الى كون المسلسل حوى الكثير من العنف، ومشاهد القتل والدماء، ففي كل حلقة تقريبا كان هناك ثمة معارك، وأجد بهذا انه لم يقم بدوره التربوي للاجيال القادمة على وجه حسن، فعرضه كان خلال شهر رمضان، ورغم ان المسلسل يسجل له سابقة في وضع اشارة " هذه الحلقة تحوي مشاهدا غير مناسبة للأطفال الصغار "، الا ان الواقع يبين انها لم تكن نافعة كثيرا، خصوصا وان اوقات عرض المسلسل كانت في اوقات اجتماع العائلة، فأي عائلة عربية او شرقية تبعد اطفالها عن التلفزيون في هذا الوقت؟

 

 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2241 الخميس 11 / 10 / 2012)

 

في المثقف اليوم