قضايا وآراء

عبد الحميد بن باديس: الفقيه الذي انتصر على الساسة

يضن أن مطلع تلك المنظومة التعليمية البسيطة، والتي يقول أهل البلاغة أنها لا تمت للشعرية بصلة، سوف يكون دستورا غير مصرّح به لدولة الجزائر المستقلة، وهو الشعار الذي يوصف بالشعبوية، والتسطيح والتلفيق، لكنه انتصر في النهاية على كل الشعارات ومشاريع المجتمع الأخرى.

 

أصبح صاحب نشيد "شعب الجزائر" بمثابة الرمز رقم واحد للمقاومة الثقافية الجزائرية، التي قيل بأنها مهدت الطريق للمقاومة المسلحة والتي جاءت بعد سنين من وافته المبكرة نسبيا يوم السادس عشر من أبريل 1940 ذلك التاريخ الذي تحوّل إلى ما يعرف بـ"يوم العلم". ففي مثل هذا الوقت من كل سنة لا تجد في أفواه أطفال المدارس الابتدائية والإعدادية والثانوية، إلا سؤالا واحدا ومطلبا واحدا، وهو المساعدة في أنجاز بحث يتناول حياة عبد الحميد بن باديس، وفيه يتكرر الكلام إلى درجة الروتين القاتل، دون أن يمّل الأطفال من إعادة نفس المطلب بالطريقة نفسها، وتكتب "البحوث" نفسها في المناسبة نفسها، وينشد الجميع ذلك الشعار الكبير: "شعب الجزائر مسلم وإلى العروبة ينتسب".

ولئن اتهم عبد الحميد بن باديس في حياته وبعد وفاته، بعدم الدعوة إلى الاستقلال بشكل مباشر، فإن أنصاره، وحتى المقررات المدرسية تجيب على الفور بقوله: "من رام إدماجا له (يعني الشعب الجزائري)، رام المحال من الطلب"، وأن الشيخ كان يمهّد للثورة المسلحة بطريقته الخاصة، ونقل عنه إجابة عن سؤال: "لماذا لم تؤلف كتابا واحدا طيلة مسيرتك؟"، فقال ما مفاده أنه مهتم بتأليف العقول لا تأليف الكتب.

 

وعلى عكس أعلام الجزائر القدماء والمحدثين، فقد حظي الشيخ عبد الحميد بن باديس بالكثير من الكتابات التي تناولته. فالمعلومات الخاصة بحياته متوفرة ولا تحتاج إلا كتابة الاسم والنقر على أي محرك بحث حتى تتوالي الصفحات، لكن الباحث المدقق الذي يريد تجنب العبارات المعلبة الجاهزة، يجد ذلك الامر مكررا ويفتقر إلى الجدة، وإن أراد الواحد الكتابة عنه فهو مضطر لتكرار تلك المعلومات البسيطة التي يعرفها الجميع وأعاد كتابتها الجميع، فالمعلومات المتوفرة بشأن ابن باديس تقول بأن اسم الكامل عبد الحميد بن محمد المصطفى بن المكي بن محمد كحول بن الحاج علي النوري بن محمد بن محمد بن عبد الرحمان بن بركات بن عبد الرحمان بن باديس الصنهاجي، من قبيلة صنهاجة الأمازيغية، وهو من مواليد مدينة قسنطينة التي توصف بمدينة "العلم والعلماء" نسبة إلى ابن باديس ويوم العلم الموافق ليوم وفاته سنة 1940، وكان ميلاده يوم الأربعاء 11 ربيع الثاني 1307 هـ الموافق لـ 4 ديسمبر 1889 على الساعة الرابعة بعد الظهر في السنة التي يقولون بأنها سنة العباقرة، من شارلي شابلن غربا إلى طه حسين شرقا مرورا بالإبراهيمي وابن باديس في الجزائر، وقيل بأن تسجيله في الحالة المدنية يوم الخميس 12 ربيع الثاني 1307 هـ الموافق لـ 5 ديسمبر 1889 ، بعد أن أتم الفرنسيون ضبط الحالة المدنية سنة 1986 للميلاد، وواضح من دقة المعلومات المتعلقة بميلاده أنه من كان من عائلة ميسورة وأقرب إلى الأرستقراطية، وتضيف المعلومات المتوفرة بأن الفتى عبد الحميد كان قد نِشأ في "بيئة علمية" فحفظ القرآن وعمره ثلاث عشرة سنة، وتتلمذ على يد الشيخ حمدان لونيسي الذي كان له الفضل الأاول في اتجاهه الديني الإصلاحي، وقيل [اه كان من أشد المدافعين عن سكان قسنطينة، وفي سنة 1908 سافر إلى جامع الزيتونة التونسي لطلب العلم، الذي تخرج منه سنة 1912 وعندها عاد إلى موطنه لإلقاء الدروس، وعندما منعه خصومه من ذلك اضطر للهجرة إلى المشرق العربي، وفي المدينة المنورة التقى الشيخ البشير الإبراهيمي لتلد فكرة جمعية العلماء المسلمين، والتي تحتاج إلى سنين أخرى للتجسيد يوم الخامس من مايو سنة 1931.

 

ولئن كانت جمعية العلماء التي ضمت نخبة من المثقفين التقليديين، من أمثال العربي التبسي والطيب العقبي ومبارك الميلي، وغيرهم، عنوانا سياسيا "إصلاحيا"، برز بقوة إلى جانب التيار الذي تزعمه فرحات عباس والدكتور بن جلول الذي كان حينها يدعو إلى حقوق الجزائريين في إطار الاندماج والمواطنة تحت العلم الفرنسي، والتيار الراديكالي الذي تزعمه مصالي الحاج مؤسس وزعيم حزب الشعب الجزائري، الذي دعا إلى الاستقلال التام، فقد كان التيار الإصلاحي الذي تزعمه ابن باديس في "منزلة بين المنزلتين". ولئن انتصرت رؤية مصالي الراديكالية في انتزاع الاستقلال بالمقاومة المسلحة، فقد انتصر ابن باديس بعد وفاته بسنين طويلة عندما فرض مطلع نشيده عنوانا لدولة الاستقلال: "شعب الجزائر مسلم وإلى العروبة ينتسب" في وقت عاش فيه فرحات عباس العزلة التام، وكان مصالي الحاج اسمه ممنوعا من التداول رسميا إلى غاية عهد قريب، وهي المفارقة التي تدعو إلى التأمل، في هذا الشهر الذي يصادف ذكرى تأسيس جمعية العلماء المسلمين، قبل 78 سنة من الآن.

الخير شوار

 

صحيفة المثقفwww.almothaqaf.com     العدد: 1054  الخميس 21/05/2009    (ارشيف الاعداد)

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي الصحيفة بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها.

في المثقف اليوم