قضايا وآراء

هل الكون والعقل مجرد كومبيوتر؟ / حسن عجمي

والفلسفة اللامادية التي تقول إن الكون والعقل مختلفان عن أي آلة. في هذه المقالة نرصد الموقف المادي المتمثل بنظريتي عالِم الهندسة الكمية سيث لويد  والسيكولوجي دانيال دينت كما نطرح الموقف المنافس لهما المتمثل بنظريتي عالِم الرياضيات روجر بنروز والفيلسوف روبرتو أنغر. أما غياب الحكم النهائي حول أي مذهب من هذه المذاهب المتنافسة هو المذهب الصادق فيدفعنا نحو القول بلا محدّدية الكون والعقل.

يُقدِّم عالِم الهندسة الكمية سيث لويد تصوراً فريداً عن الكون فيعتبر أن الكون كله مجرد كومبيوتر يقوم بحسابات رياضية. بالنسبة إلى لويد، كل نظام فيزيائي عبارة عن عملية حساب للمعلومات. فأي نظام فيزيائي يحتوي على معلومات ويتكوّن منها ومن عملية حسابها. أما تغير أي نظام فيزيائي فهو مجرد تحوّل في عملية حساب المعلومات. من هنا من الممكن تصوّر الأنظمة الفيزيائية كافة على أنها حسابية كالكومبيوتر تماماً، ولذا يصف لويد الكون على أنه كومبيوتر ويفسّره على ضوء أنه يتشكل من حسابات للمعلومات كالتي يتضمنها الكومبيوتر ويتشكل منها. بالنسبة إلى لويد، كل الأشياء ومن بينها الذرات والجسيمات كالألكترونات تحتوي على معلومات، وأي تفاعل بينها ليس سوى عملية تحويل للمعلومات. فالكون كومبيوتر كمي. لكن ماذا يحسب الكون؟ يجيب لويد بأن الكون يحسب ذاته أي تصرفه بالذات.

(Seth Lloyd : Programming the Universe. 2007. Vintage  Books)

يشرح لنا لويد اختلاف الكومبيوتر الكمي عن كومبيوتراتنا العادية. فالكومبيوتر الكمي يُبنى على ضوء ميكانيكا الكم، وبذلك يتخذ صفات النظام الكمي. بالنسبة إلى ميكانيكا الكم، الموجات تتصرف كالجسيمات، والجسيمات تتصرف كالموجات، والشيء نفسه قد يوجد في مكانين مختلفين في الوقت ذاته. على هذا الأساس، الكومبيوتر الكمي ينجح في القيام بملايين من الحسابات معاً. ففي هذا الكومبيوتر كل ذرة والكترون وفوتون تشارك في تسجيل المعلومات وحسابها. من هنا يكتسب الكومبيوتر الكمي قدرة هائلة على القيام بحساباته بدقة وسرعة لا نعهدها في كومبيوتراتنا التقليدية رغم أننا اليوم لم نتمكن من بناء هذا الكومبيوتر الكمي المتطور إلى هذا الحد. وبما أن الكون بكل أجزائه وطاقاته ومواده يمتلك تلك القدرة الهائلة (على تحقيق حساباته) التي يمتلكها الكومبيوتر الكمي المتطور، إذن يستنتج لويد أنه لا يوجد فرق بين الكومبيوتر الكمي والكون. وبذلك الكون ليس سوى كومبيوتر كمي (المرجع السابق).

لكن مما يتكوّن هذا الكومبيوتر الكوني؟ يجيب لويد بأن قوانين ميكانيكا الكم والتقلبات الكمية تشكّل الكومبيوتر الكوني، فقوانين ميكانيكا الكم هي برامج الكومبيوتر الكوني، والتقلبات الكمية هي التي تجعل الكومبيوتر الكمي يعمل. بالنسبة إلى ميكانيكا الكم، مبدأ اللايقين يحكم عالم ما دون الذرة، فمن غير المُحدَّد مكان الجسيم وسرعته في آن. فالكون عرضة لتقلبات كمية تجعله غير مُحدَّد في ماهيته وصفاته. وهذه التقلبات الكمية تزوِّد الكون بمعلومات جديدة باستمرار وكأنها الأفراد والعلماء الذين يتحكمون بعمل الكومبيوتر. من هذا المنطلق، يفسّر لويد التعقيد في الكون على النحو التالي : في النظام الكومبيوتري ثمة برامج بسيطة مع معلومات كثيرة تؤدي إلى نشوء نتائج معقدة. وبما أن الكون كومبيوتر كمي حيث برامجه هي قوانين ميكانيكا الكم ومعلوماته متدفقة من التقلبات الكمية، إذن من الطبيعي أن ينتج الكون بوصفه كومبيوتراً كمياً التعقيدات الموجودة فيه. هكذا يفسّر لويد وجود التعقيد الكوني على ضوء نموذجه العلمي القائل بأن الكون مجرد كومبيوتر. وبذلك يكتسب نموذجه قدرته التفسيرية. وهذا ما يطلبه أي نموذج علمي. من هنا تملك النظرية القائلة بأن الكون كومبيوتر فضائل معرفية منها تفسير نشوء التعقيدات في الكون ما يدعم مقبوليتها (المرجع السابق).

من جهة أخرى، كما من الممكن دراسة الكون على أنه كومبيوتر من الممكن دراسة العقل على أنه كومبيوتر أيضاً. من هنا يدعونا الفلاسفة إلى تصوّر عالمة تدعى ماري. يقولون : تخيلوا معنا أن ماري عاشت معظم عمرها في مختبر علمي حيث كل شيء من حولها أسود وأبيض فقط  فلم تتعرض إلى أي لون ولم ترَ لوناً. رغم ذلك ماري عالمة فيزيائية بعلم الألوان، فهي قد درست مما تتكوّن الألوان وكيف تتكوّن. لكن تنتهي قصة ماري في أنها تخرج أخيراً من مختبرها لتواجه العالم الواقعي بكل ألوانه، فترى الألوان المختلفة التي نراها. هنا يبدأ الصراع بين الفلاسفة. فأصحاب المذهب المادي أو الوظائفي يقولون إن ماري هذه لن تندهش برؤية الألوان ولن تكتسب تجارب جديدة تعلمها ما هي الألوان وكيف من الممكن الاحساس أو الشعور بها. أما الفلاسفة الذين يرفضون اختزال العقل إلى مجموعة حالات دماغية أو مجموعة وظائف وميول سلوكية فيقولون إن ماري هذه سوف تندهش برؤية الألوان وستكتسب تجارب جديدة تعلمها المزيد عن الألوان وكيف نحس أو نشعر بها.

(Daniel Dennett : Consciousness Explained.1991. Penguin Books).

مثل ذلك أن الفيلسوف والسيكولوجي دانيال دينت يعتبر أن ماري لن تكتسب معرفة إضافية عندما ترى الألوان لأنها تعرف كل ما يجب معرفته عن فيزياء وكيمياء الألوان. وبذلك يعبّر دينت عن مذهبه المادي الوظائفي في العقل. بالنسبة إليه، بما أن العقل مجرد دماغ ووظائف وميول سلوكية، إذن بمجرد أن تملك ماري المعرفة العلمية بالألوان فهي حينها تعلم أيضاً كيفية الشعور والاحساس بالألوان. من هنا يؤكد دينت على أن ماري لا تكتسب معرفة إضافية بعد خروجها من مختبرها الخالي من الألوان، بل لقد تمكنت من استنتاج كيف نشعر نحن بالألوان ونحس بها من خلال معارفها العلمية بعلم الألوان. ويتهم دينت المعارضين بأنهم يقعون في المصادرة على المطلوب حين يقولون إن ماري ستكتسب معرفة إضافية بعد خروجها من مختبرها. فبما أنه قدّم برهاناً على أن ماري لا تكتسب معرفة جديدة بسبب علمها الحق بالألوان، إذن الاصرار على أن ماري ستكتسب معرفة إضافية برؤيتها الألوان هو مجرد مصادرة على المطلوب لأن المطلوب هو البرهنة على أنها ستكتسب معرفة جديدة بينما المعارضون يسلّمون بذلك بدلاً من أن يبرهنوا عليه (المرجع السابق). هنا يظهر العقل على أنه مجرد كمبيوتر يقوم بحساب المعلومات، فعلى ضوء قوانين ومعلومات معينة في الدماغ تنشأ بشكل آلي كل وظائف العقل وصفاته من أحاسيس ومشاعر. فإذا كان العقل مجموعة وظائف، وبما أن الكومبيوتر مجرد وظائف معينة، إذن العقل ليس سوى كومبيوتر. هذه هي النتيجة الأساسية للمذهب المادي الوظائفي في العقل.

 

لقد رأينا نجاح تفسير الكون والعقل على أنهما مجرد كومبيوتر، فهما كومبيوتر لأنهما يتشكلان من عمليات حسابية. لكن عالِم الرياضيات روجر بنروز يقدّم حجة قوية ضد هذا الموقف. يعتمد بنروز في حجته على نظرية عالِم المنطق كارت غودل التي تقول إن أي نظرية رياضية تحتوي على عبارات من غير الممكن البرهنة على صدقها رغم أنها صادقة. وبذلك تلك العبارات الرياضية غير حسابية، أي من غير الممكن أن تكون جزءاً من عملية حسابية. من هنا يستنتج بنروز أن الادراك الرياضي ليس آلياً ولا حسابياً، ولذلك من الخطأ تصوّر العقل على أنه مجرد كومبيوتر يقوم بعمليات حسابية.

( Roger Penrose : The Emperor's New Mind.1999.

Oxford University Press (

 

من المنطلق ذاته، من الخطأ اعتبار الكون مجرد كومبيوتر أو مجموعات من عمليات حسابية آلية لأن ثمة عبارات صادقة تشير إلى حقائق رياضية من غير الممكن أن تكون جزءاً من عمليات حسابية كومبيوترية. أما الفيلسوف روبرتو أنغر فيعتبر أنه من الخطأ تحليل العقل على أنه كومبيوتر لأسباب عدة هي : أولاً، التفكير لا يعمل فقط على أساس التسليم بمسلّمات أو معلومات معينة والقيام بالاستنتاج منها كما يفعل الكومبيوتر، بل العقل حر في الانتقال من مسلّمات إلى أخرى ومن استنتاجات إلى أخرى.  ثانيا ً، التفكير لا يعتمد على القواعد المتشابهة لتحديد المعاني المتشابهة، بل يستخدم القواعد اللغوية نفسها ليُظهر معاني مختلفة ويُظهر معاني متشابهة من خلال قواعد لغوية مختلفة على نقيض مما يفعل الكومبيوتر. ثالثاً، العقل ليس قياسياً. لا يُحصر عمل العقل في جزء من الدماغ دون جزء آخر منه، وعمل العقل غير مُغلق في سجون مجموعة معينة من القوانين أو مجموعة معينة من مبادىء التفكير. فمثلاً، يستنتج العقل نتائج جديدة تعارض نتائجه القديمة، ولذا العقل غير قياسي على نقيض الكومبيوتر. بالنسبة إلى أنغر، يفكر العقل ويكتشف ما قد لا نستطيع البرهنة عليه وما قد لا نفهمه أصلاً. وهذا ما لا يفعله الكومبيوتر. لذا العقل مختلف عن الكومبيوتر. باختصار، العقل يفاجئنا ويدهشنا بأفكاره ونتائجه، وهذا ما يفتقر إليه الكومبيوتر لأن الكومبيوتر محكوم بمبادىء وقوانين مُحدَّدة.

Roberto Unger : The Self Awakened : Pragmatism)

(Unbound . 2007.  Harvard   University  Press

قد يصدق الموقف السابق على الكون ككل لأن الكون أيضاً يدهشنا بما يملك ويُنتج. الآن، يبدو أن لدينا أدلة قوية على أن الكون والعقل مجرد كومبيوتر، كما لدينا أدلة قوية على أن الكون والعقل ليسا مجرد كومبيوتر. من هنا، من غير المُحدَّد ما إذا كان الكون والعقل مجرد كومبيوتر أم لا. هذا هو موقف السوبر حداثة التي بالنسبة إليها اللامُحدَّد يحكم العالم. تعتبر السوبر حداثة أنه من غير المُحدَّد ما هو الكون وما هو العقل، ولذا تنجح النظريات المختلفة في وصف وتفسير الكون والعقل رغم التعارض فيما بينها. فمثلاً, بما أنه من غير المُحدَّد ما إذا كان الكون والعقل مجرد كومبيوتر أم لا، إذن من الطبيعي أن ينجح إلى حد معين تفسيرنا لهما على أنهما كومبيوتر كما أوضح لويد ودينت، وأن يفشل إلى حد آخر هذا التفسير ذاته كما أوضح بنروز وأنغر وتنجح نظرات أخرى في الكون والعقل. هكذا تتمكن السوبر حداثة من تفسير نجاح المواقف والنظريات المتعارضة في وصف الكون والعقل، وبذلك تكتسب السوبر حداثة قدرتها التفسيرية فمقبوليتها.

 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2247 الاربعاء 17 / 10 / 2012)

في المثقف اليوم