قضايا وآراء

اشكاليات في الدين والسلطة: ثانيا :السلطة (3-4) / قاسم حسين صالح

موقف السلطة من الحقيقة، وميكافيللي الديمقراطي!..

 

6.الحقيقة .. دائما عدوّة السلطة

لا أعرف من قائل هذه الحكمة البليغة (الحقيقة دائما عدّوة السلطة) .. وكنت أشك في أنها تنطبق على الحكومات العراقية التي جاءت بعد التغيير لسببين، الأول: ان من استلم السلطة هم قيادات في أحزاب دينية ولا يمكن للدين أن يعادي الحقيقة، والثاني:ان من استلم السلطة كانوا مناضلين توثّق خطاباتهم أنهم يضحّون من أجل الشعب.

لكن ما حصل تنطبق عليه مقولة المرحوم جعفر السعدي: (عجيب أمور غريب قضية!).فما أن استلموا السلطة، او بالواقع:سلمتّهم أمريكا السلطة، نسوا ما كانوا يقولون، ونسوا أخلاق الدين وقيمه التي تدعو للمساواة والعدالة الاجتماعية، وأنكم كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، وأن المسلم لا يبات شبعانا وجاره جائع. فرواتب القادة في السلطة هي أضعاف ما يتقاضاه أرفع حاكم عربي في المنطقة.

ليس هذا فقط، بل أنهم منحوا موظفي المنطقة الخضراء بدل خطورة قدره (300) بالمئة، وخمسون ألف دولارا سنويا لتجديد أثاث بيوتهم وشققهم، فضلا عن مخصصات الايفادات والحمايات..فعملوا من أنفسهم فئة ثرية مترفة مرفهة ووضعوا انفسهم فوق المساءلة والقانون والناس ..ومن يكون حاله هكذا لم يعد من الشعب.

ومع أن الحكومة السابقة صار العراق في زمنها ثالث أفسد دولة في العالم، وتم في عهدها عقد صفقات وابرام عقود لم يشهدها تاريخ العراق..سكتت عن محاسبة الفاسدين فيها، وأن ما نهب من أموال العراق وما تقاضاه رجالات الحكومة السابقة من رواتب ومخصصات وامتيازات وصرف رواتب تقاعدية لأكثر من ألف خدموا بين ثلاثة أشهر وسنة ويتقاضون راتب وزير أو مدير عام..لو أن كل هذا استثمر في اعمار العراق لتحولت بغداد من مدينة خربة الى أجمل عاصمة في الشرق الأوسط ولصارت مدنه تليق بأهلها لا أن تكون هي الأردأ في العالم وتزداد سوءا مع تصاعد الميزانية مليارات الدولارات!.

ومع كل هذا فأن الحكومة عزت السبب فيما حصل الى عاملي الزمن والمال، ولم تشر الى الفساد الذي هو سرطان المشكلة. ياآلهي!..ما الذي يحصل،  حتى الحكومة الديمقراطية هي ايضا عدوّة الحقيقة!.

قد يقول أحدكم:أخي ..ان الذي تأتي به امريكا لا يمكن أن يكون مخلصا لشعبه.وقد يقول آخر: لا تلمهم..فلو جئت بعمر المختار وأجلسته على كرسي السلطة لأفسد ضميره مسمارها الصدء!.وقد يقول ثالث:لم تعد السماء تبعث بمسيح جديد أو محمد جديد..ولم يعد بين المسلمين من هو سلطة حق كالأمام علي ..ولم يعد بين الثائرين على الظلم لينين جديد يحدد حصته في البطاقة التموينية (وهو رئيس دولة) بنفس حصة العامل والفلاّح!.وقد يقول رابع:ان كل من في الحكومة السابقة يجب ان يقدّم الى المحاكمة لمقاضاته بثلاث تهم كبيرة:شرعنة اغتصاب مال عام واثراء فاحش وافقار شعب.وقد يرى خامس: آية المنافق ثلاث..اذا حدّث كذب واذا وعد أخلف واذا أؤتمن خان ..وانها تنطبق بالتمام والكمال على الحكومة الحالية.

أنا في شك من ذلك،  فما زلت ارى أنه يوجد في الحكومة من هو مخلص ووطني وصادق، ومن لا يريد أن يغتني ويكون سببا في افقار شعبه..ولكنني أصبحت على يقين تام أن (الحقيقة دائما عدوّة السلطة) حتى لو كانت ديمقراطية!.

 

7.ميكافيللي ..الديمقراطي!
    كنت اتصور أن شيخ النفسانيين (فرويد) هو أول من اكتشف أن الانسان تتحكم بسلوكه غريزة العدوان وأنه شرير بطبعه،  الى أن أعدت قراءة (الأمير) فوجدت أن ميكافيللي أحق من فرويد بهذا الاكتشاف،  وأنه أبرع من فهم سيكولوجية السلطة. والمدهش أن ما قاله عن (الأمير: الملك،  رئيس الجمهورية، رئيس الوزراء..) قبل خمسمائة عام ما يزال ينطبق على معظم حكّام العالم،  بل أن اغلب من بيده السلطة بالدول

النامية يتعاملون مع (الأمير) معاملة هتلر وموسوليني وستالين وفرانكو..أعني أنهم يضعونه في مكاتبهم ويعدّونه مستشارهم في ادارة شؤون الدولة.
والمفارقة،  أن ميكافيللي وصف بالشيطان،  ووصفه موسوليني- الذي أعدّ اطروحة دكتوراه عنه- بأنه منافق كبير،  وقال عنه برتراند رسل:"بالرغم من ان عصر النهضة لم ينتج فيلسوفا نظريا هاما، الا انه انتج رجلا هاما في مجال الفلسفة السياسية هو ميكافيللي".ومع ان الحكّام الأحياء منهم والأموات  انتقدوه فأن معظمهم طبّقوا ويطّبقون ما اوصى به في تعاملهم مع الرعية. وان كنت في شك بما اقول،  أقرا (الأمير) فستجد أنه يوصي الحاكم أن يكون غدّارا اذا وجد أن محافظته على العهد لا تعود عليه بالفائدة،  وأن يكون دعيّا كبيرا ومرائيا عظيما،  فالاستيلاء على السلطة والاحتفاظ بها خدمة لمصالح فئة او جماعة سياسية على حساب جموع الناس ورغما عنهم ..يقتضي استعمال ما يلزم من قهر واستبداد لفرض نظام سياسي يروج له على أنه الخير العام. ويضيف (ميكافيللي) أن على الحاكم أن يجمع بين خداع الثعلب ومكر الذئب وضراوة الأسد،  وأن لا يخجل في اختيار أي أسلوب مهما تدّنى لتحقيق أهدافه وطموحاته السياسية،  وأن لا يتقيد بالمحاذير الأخلاقية التقليدية لتحقيق مبتغاه،  فالهدف الرئيس لم يعد، وفقا له،  تحقيق رفاهية شعبه وسعادته بقدر البقاء في الحكم الى ما شاء الله. وأن يتقن الكذب والمراوغة ليحقق مآربه بأية وسيلة ملتوية،  ويعطي شعبه في الوقت نفسه الانطباع بأنه رحيم،  نزيه،  انساني،  مستقيم،  ومتدين. وينبّه الحاكم الى أن الناس ناكرون للجميل،  متقلبون،  مراؤون،  شديدو الطمع،  وهم الى جانبك طالما أنك تفيدهم ..وسيمجدونك حين تكون مرهوب الجانب شديد العقاب.ويحلل الناس بشكل ذكي بانهم بسطاء ويرضخون بسهولة من اجل احتياجاتهم الضرورية، وان على الحاكم ان يظهر بمظهر المحافظ على الدين وتعاليمه واحكامه وشرائعه، فبه سيضمن سكوت الشعب المتدين بطبعه الذي تنطوي عليه هذه الحيل.
ياسلام! كم كان هذا ينطبق علينا،  حاكما وناسا،  قبل تسع  سنوات. وكم فيه من عبرة وتحذير: ان الشيطان ميكافيللي ما يزال حيا في زعاماتنا التي أصابها الاحتراب الطائفي بالبارانويا! وايصال زعامات محتقنة بشرور جاءت بها ديمقراطية ناقصة عقل ومسؤولية.والمفارقة أن مقولته:"في عالم السياسة كل شيء مباح..المكر، الخداع، الكذب، الوحشية، التستر برداء القيم والأخلاق والدين"  متجسدة في نظامنا الديمقراطي،  وزاد عليها اشاعة الفساد ونهب ثروات الوطن من قبل مسؤولين كبار بينهم من لبس العمامة او اطال لحيته!.

هذا يعني ان بين قادة البلد (ميكافيللين ديموقراطيين) اثبتت السنوات التسع انهم في تعاملهم مع السلطة لن يتخلوا عن تطبيق مبدأ الغاية تبرر الوسيلة حتى لو كانت تجلب الكوارث والفواجع للناس..وانه  لا سبيل للعراقيين غير أن يعطّلوا عقلهم الانفعالي الذي جاءهم ببرلمانيين خذلوهم وأخجلوهم، ويحكمّوا عقلهم المنطقي في الانتخابات المقبلة بانتقاء من يمتلك القدرة على انقاذ العراق من محنته، ويمنعوا مجيء ميكافيللي ديمقراطي جديد،  والا سينطبق عليهم قول تشرشل :" كل شعب في العالم ينال الحكومة التي يستحقها !".

 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2247 الاربعاء 17 / 10 / 2012)


في المثقف اليوم