قضايا وآراء

تنقيح سيرة الامام الكاظم .. هل تعرَّض الإمام للتعذيب؟ / غالب حسن الشابندر

لقد حُبِس في البداية في سجن البصرة لدى أميرها عيسى بن جعفر بن أبي جعفر لمدة سنة، ثم انتقل إلى سجن الفضل بن الربيع، وكان ذلك لمدة طويلة، ثم أُطلق صراحه، ثم أعتقل لدى الفضل بن يحي البرمكي لايام، ثم سلِّم الى السندي بن شاهك، فهل تعرَّض للتعذيب في سجنه، وفي أي سجن، وما هي آليات واساليب التعذيب هذه، ومن هم المعذِّبون؟

 

في سجن البصرة:

لقد أُرسل الامام الى البصرة مخفورا، وبشكل سري، ولكن لا نعلم هل كان مقيَّدا بالحديد ام كان حرا، ورواية الاصبهاني تفيدنا بانه سلام الله عليه اعتقل هناك وحسب، فيما رواية النوفلي تمدُّنا ببعض المعلومات البسيطة، فقد جاء في الرواية: (... فحبسه عيسى في بيت من بيوت المجلس الذي كان يجلس فيه، وأقفل عليه، وشغله العيد عنه، فكان لا  يُفتَح الباب إلاّ في حاليتين، حالة يخرج فيها إلى الطهور، وحالة يدخل فيها إلى الطعام ...) 28 / عيون ص 82 ح 2، ولقد فهم بعضهم من الرواية أن الحرس ابقى الامام في السجن على هذه الحالة لمدة سنة كاملة، فيما الرواية واضحة إن ذلك في العيد، نظرا لانشغال الامير العباسي في (العيد)، وتفيد الراوية إن الا مير العباسي سجن الامام عنده، في أحد غرف مجلسه الذي يجلس فيه، اي لم يسجن الإمام في سجن رسمي، يودع فيه بقية المطلوبين أو المحكومين أو الذين سجنتهم السلطة لسبب من الاسباب، ولكن الرواية نفسها في البحار تقول: (فحبسه عيسى في بيت من بيوت الحبس الذي كان يحبس فيه) 29 / البحار ص 221 / ومن الوضح بمكان أن هناك نسخا غير صحيح للرواية، والصيغة في نسخة اخبار عيون الرضا اوثق، بدليل ان اللاحقة المباشرة في الرواية والتي هي ما اخبر به أحد زبانية أو رجال حفيد المنصور والذي كان ملازما له عمّا كان يسمعه  الامام في (هذه الدار التي هو فيها ـ أي سجنه الذي كان فيه ـ  من ضروب الفواحش والمناكير ما أعلم ولا أشط  أنَّه لم يخطر بباله) 30 / فهذه اللاحقة تثبت صحة صيغة عيون الاخبار وإن ما نقله صاحب البحار كان نسخا محرَّفا أو منحرفا، ونقرأ في رواية أخرى حول مراحل سجن الامام كما في الاصبهاني: (فحبسه عنده ـ اي عند عيسى بن جعفر ـ سنة، ثم كتب إلى  الرشيد: أن خذه مني، وسلِّمه إلى من شئت، وإلاّ خليت سبيله، فقد اجتهدت أن آخذ عليه حجَّة فما أقدر على ذلك، حتى إنَّي لأتسمّع عليه إذا دعا لعلَّه يدعو  عليَّ أو  عليك، فما اسمعه يدعو إلا  لنفسه، يسال الله الرحمة والمغفرة) 31 / مقاتل ص 335 / وهذه لغة مراقبة وليست لغة تعذيب، وفيما تحدثنا عمّا كان يسمع الامام وهو في الدار التي هو فيها من ضروب المنكر والفحش وما شابه ذلك، لان دار عيسى بن جعفر كذلك، وليس لغاية تعذيب نفسية بحق الامام الكريم.

النتيجة التي أخلص إليها من قراءتي لهذه الروايات أو هذه الاخبار إ ن الامام لم يتلق تعذيبا في سجن البصرة، وفيما يقولون عكس ذلك، فإن هؤلاء بالذات يدعون إن الامام التقاه وهو في طريقه الى البصرة عبد الله من مرحوم الازدي، حيث تقول الرواية: (حدَّثنا ابي رضي الله عنه قال: حدَّثني سعد بن عبد الله، عن أحمد بن  محمد بن عيسى، عن الحسن بن محبوب، عن عبد الله بن مرحوم قال: خرجتُ من البصرة أُريدُ المدينة، فلما صرتُ في بعض الطريق لقيتُ أبا إبراهيم عليه السلام وهو يُذهَبُ به إلى البصرة، فأرسل عليَّ،  فدخلتُ عليه، فدفع إليَّ كتبا، وامرني أن اوصلها بالمدينة،  فقلتُ: إلى من أدفعها جعلتُ فداك؟ قال: إلى ابني علي، فإنَّه وصييِّ والقيم بامري وخير بني)32 / عيون 2ص 36 ح 13 / الرواية اساسا ضعيفة، والخوئي يوردها في المعجم من دون توثيق لصاحب الخبر، إنها تطنوي  على مدح شخصي، ولم  يرد الرجل في كتب الرجال، وبالتالي، كيف نطمئن إليها، ولكن انا أوردها هنا للرد على من يقولون إن الامام كان مصفدا بالحديد  في  أخفاره من المدينة الى البصرة، تُرى كيف وهذه الحال يلتقي بهذا الرجل ويسلِّمه الكتب؟ ولم يذكر الراوي شيئا من هذا القبيل، هناك أكثر من هذا، فإن: (ياسين الضرير الزيات البصري لقي أبا الحسن موسى عليه السلام لما كان في البصرة، وروى عنه وصنَّف هذا الكتاب المنسوب إليه، أخبرنا محمد بن علي قال: حدَّثنا احمد بن محمَّد بن يحي قال: حدَّثنا سعد  قال: حدَّثنا محمد بن عيسى بن عبيد،عن ياسين به) 33 / المعجم 20 ص 11رقم 13415 / نقلا عن النجاشي، والطوسي طريق أيضا للموما إليه، اي ياسين الزيات، وكلا  الطريقين صحيح، وبالتالي، يكون حسب معايير علم الرجال الشيعي أن ياسين هذا اتصل حقا بالامام بالبصرة، وروى عنه، وصنف عنه كتابا، فهل يعقل مع ذلك إن الامام كان يتعرض للتعذيب وإن احيانا؟ وهل لمثل ياسين الزيات أن يخفي هذا الامر في روايته؟ الاقرب للمعقول أن الامام كان يعامل بطريقة عادية في سجنه، وكان تحت المراقبة حتما، ولكن لا يعني ذلك تعرضه لتعذيب واضطهاد، بل هناك من يدعي أن حوالي ثلاثين من اصحاب الامام البصريين كانوا يتلقون به، وياخذون منه العلم، من هؤلاء: محمد بن سليمان، ولقد وصف بفساد العقيدة كما جاء في تنقيح المقال 34 / نقلا عن حياة الامام الكاظم للقرشي 2ص 307 / ومن هؤلاء: محمد بن صدقة البصري، أبو جعفر، روى عن أبي الحسن موسى، وعن الرضا عليه السلام، له كتاب عن موسى بن جعفر عليه السلام 35 / النجاشي رقم / ومن هؤلاء: محمد بن عبد الجلاب البصري، وهو واقفي 36 / خلاصة العلامة نقلا عن القرشي ص 310 / فهؤلاء وغيرهم كانوا يتصلون بالامام في البصرة، يروون عنه ويصنفون على يديه الكتب، وهم كانوا يتصلون به وهو في البصرة كما يرى بعضهم،

ويعلق احد الكتاب على ذلك، بان مثل هذه الاتصالات بالامام  كانت تجري بصورة سريَّة، ولست مستعدا الدخول في مناقشة مثل هذه التاويلات البعيدة، كما أني استبعد أن ذلك كان يحدث عن طريق الاعجاز .

 

chalib alshbandar3

في سجن الفضلين الربيع والبرمكي: ـ

لقد مضى أن الإمام امضى بقية ايامه بعد سجن البصرة في سجون الرشيد في بغداد، وكان السجن الاول الذي تلقى الامام لدى الوزير العباسي المعروف الفضل بن الربيع، وكان الرشيد قد طلب إليه أن يقتله كما تقول رواية الاصبهاني / النوفلي العمدة، ولكن الفضل بن الربيع لم يفعل ما أمره به الرشيد، ويبدو أن القول بان الرشيد سجنه لدى الفضل يعني في بيته أو في أحد مرافقه السكنية بشكل وآخر، والروايات تفيد عن احترام الفضل بن الربيع لمقام  الكاظم  عليه السلام وهو في سجنه، هكذا نفهم من مجموع ما روي في هذا المجال، وأكثرها على لسان الفضل بن الربيع نفسه، بل كان في حديثه إليه ما يُشعر بالنبز بهارون، ففي رواية حيث طلب الرشيد من الفضل ان يطلق صراح  الكاظم يسأل الفضل الامام: (يا ابن رسول الله أخبرني السبب الذي نلتَ به هذه الكرامة من هذا الرجل ؟ فقد وجب حقِّي عليك لبشارتي إياك،ولما أجراه على يدي من هذا الامر ...) 37 / البحار 48 ص 214 ح 14، وفي رواية  نقرا عن الفضل بن الربيع أيضا إنه كان يطلع أحد مريدي  الإمام على ما يفعله الامام في السجن حيث الصلاة والدعاء وقراءة القرآن، وفيما يحذره هذا الموالي من أن يُحدِث به أمرا يجيبه الربيع: (قد أرسلوا إليَّ في  غير مرّة يامروني بقتله، فلم أجبهم إلى ذلك، واعلمتهم إني لا افعل ذلك، ولو قتلوني ما اجبتهم إلى ما سالوني)، وعندما يامر الرشيد بنقل الامام الى سجن الفضل بن يحي البرمكي، كان الفضل بن الربيع (يبعث إليه في كلِّ ليلة مائدة، ومنع أن يُدخَل من إليه  من عند غيره، فكان لا ياكل ولا يفطر إلاّ  على المائدة التي يؤتى بها،حتى مضى على تلك الحالة ثلاثة أيام ولياليها ...)  38 / عوالم العلوم 21 ص 436 / .

سجن الامام بعد ذلك في سجن الفضل بن يحي البرمكي، وكان مرفها في هذا السجن على قلَّة الايام التي قضاها فيه، فقد جاء بصريح الكلام ما نصه: (... فكتب إليه ـ اي كتب الرشيد إلى الفضل بن الربيع ـ ليسلمه ـ أي الامام ـ إلى الفضل بن يحي، فتسلَّمه منه، وأراد ذلك منه ـ أي أراد منه قتل الإمام ـ فلم يفعله، بلغه أنه عنده في رفاهية وسعة ودعة،وهو حينئذ في الرقة، فانفذ مسرورا الخادم إلى بغداد على البريد،  وأمره أن يدخل  من فوره إلى موسى فيعرف خبره  ...) 39 / مقاتل ص 335 / وكانت النتيجة أن مسرورا تاكد من ان الامام في سعة ورفاهية في سجن الفضل بن يحي البرمكي، وكان على اثر ذلك أن نال عقابا موجعا من الرشيد، ولذا نقله إلى سجن السندي بن شاهك .

 

في سجن السندي بن شاهك:

هي المرحلة الاصعب في حياة الامام الكاظم عليه السلام، فإن نص رواية النوفلي تقول: (... ثُمَّ حُبِس، ثم سُلِّمَ إلى السندي بن شاهك فحبسه وضيَّق عليه) 39 / عيون اخبار ص 84 /، ولا نعرف ماهية هذا التضييق، وليس  هناك اخبار عمّا كان يجريه السندي بن شاهك أوجلاوزته من عمليات تعذيب على جسد الإمام، بل هناك تضييق، ولا نعرف ماهيته كما قلتُ، ولكن الروايات الشيعية تطفح بان السندي بن شاهك اشهد الكثير من أعيان بغداد ورجال الشيعة على جسد الامام الشهيد ليشهدوا بانّه موسَّع  عليه، وهوالامر الذي اعترف به هؤلاء الاعيان، نعم، الثابت أن هذا الرجل الجلواز هو الذي سمَّ الإمام وبامر الطاغية العباسي الرشيد، وإن هذا الجلواز كان شديدا على الامام الكاظم، ولكن لم نتبين وجه أو وجوه هذه الشدة .

لم ترد كلمة القيود أو الحديد في قضية سجن الامام إلاّ في رواية واحدة حسب استقرائي، وهي بسند منقطع ضعيف (محمد البرقي،عن محمَّد بن غياث البرقي المهلبي قال: لما حبس هارون الرشيد أبا ابراهيم موسى بن جعفر ...) والرواية تفيد أن الرشيد  كان يفكر بالخلاص من الإمام فاستدعى  يحي بن خاد (... وكان يحي يتولاّه، وهارون لا يعلم ذلك ...)، فكان اقتراح البرمكي أن يطلق الرشيد الامام فذلك اريح له واحسن، فقال له هارون: (إنطلق إليه واطلق عنه الحديد ...) 40 / البحار نقلا عن غيبة الطوسي ص 230 /، ورغم أن الرواية ضعيفة، فإنها تفيد أن الامام كان في رعاية محفوفة كما يبدو باللطف والمعاملة الحسنة من قبل يحي بن خالد البرمكي، وربما لم يكن الامام مقيداً بالحديد، وإنما هو ظن الرشيد بذلك، ولكن الرواية ضعيفة على كل حال.

لقد كان الامام كما تقول الروايات الشيعية منصرفا للعبادة بين صلاة دائمة وسجود طويل، بل ربما كان يلتقي تلاميذه ومريديه في السجن.

هذا لا يعني أن الامام الكاظم لم يكن يعاني  من السجن، لا بطبيعة الحال، كان يعاني، وكان يدعو  الله بالفرج، وكان يشكو ربه  الطغاة لما كان يعانيه، ولكن كون الامام تعرَّض للتعذيب وصفد الحديد فهو ممَّا لم يثبت تاريخيا .

يتبع

 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2248 الخميس 18 / 10 / 2012)


في المثقف اليوم