قضايا وآراء

وقفات مع الشاعرة وئام ملا سلمان (3) / خالد جواد شبيل


وتحايــايَ للنخيــل وللشــطِّ
                            
وللصيــف لاهبــــاً، والتــــــرابِ
لا تهابوا وأَضربوا واستمدّوا
                               
قـوّةَ العـــزمِ مـن يــد الإِضــرابِ
لا تخافوا واستنفروا وتحدّوا

                           لن يُخيف البُزاةَ نعقُ الغُرابِ

يحمل مفهوم القصيدة العمودية أو عمود الشعر دلالتين متفاوتتين بين التأصيل والتجديد مما قد يُحدث التباسا في الدلالة ويتسبب بإرباك لدى المتلقين. فتأريخيا كان أول من استعمل المصطلح هو الآمدي مقتبسا إياه من مصطلح أتى به الجاحظ في بيانه وتبيينه وهو عمود الخطابة في النثر "رأس الخطابة الطبع، وعمودها الدربة، وجناحاها رواية الكلام، وحليلها الإعراب" الجاحظ (البيان والتبيين1/44 تحقيق عبد السلام هارون القاهرة1961 )، فحوَّله الآمدي الى الشعر بالمفهوم ذاته والذي يتعلق بالنهج الذي سارت عليه الطبقة الأولى من الشعراء ضمن قوانين القصيدة التي اكتشفها الخليل بن أحمد الفراهيدي بحورا وقوافيا (راجع مقالة الأستاذ إبراهيم المصاروة: نظرية عمود الشعر في موقع الألوكةalukah.net ... ثم جاء المرزوقي ليبلور مفهوم عمود الشعر ويتعدى هيكل القصيدة الى مضمونها ويقعدها بسبعة قواعد تبدأء بسمو وسداد المعنى الى جزالة اللفظ، الى الرقة في الوصف...حتى ينتهي بمشاكلة اللفظ للمعنىوملائمتها للقافية، أذكر هذا لأهميته القصوى في تحديد مقاييس لأسس النقد العربي. ولا أود الإطالة لكي لاأخرج عن الموضوع ودون من ينشد المزيد عن قواعد المرزوقي، المرجع: المعجم المفصل في علم العروض والقافية وفنون الشعر د. إميل بديع يعقوب.

أما مفهوم القصيدة العمودية بالمعنى المتداول فيه اليوم والذي تولد في بداية الخمسينات منذ ثورة "الشعر الحر" فهو للتمييز بين القصيدة الخليلية في وحدة الوزن ووحدة القافية ذات المصراعين في الشطر هما الصدر والعجز، وهو مصطلح خاطىء لا بد من إلغائه – وفق التوضيح الآنف الذكر- وتعويضه بمصطلح القصيدة الكلاسيكية أو المحافِظة (لا التقليدية لأن التقليد ينطوي على معنى سلبي يتنافى وروح الإبداع)، وكذلك مصطلح الشعر الحر الذي قضى نحبة وصحيحة شعر التفعيلة، لأنه لم يكن حرا من الوزن ولا من القافية في الغالب! (أرجو أن أكون قد أجبت عن سؤال السائل أما عن قصيدة النثر سيكون لنا معها شأن لاحقا).

وعودة لقصيدة شاعرتنا وئام ملا سلمان وهي: "قصيدة لمن وقف تحت شمس العراق مطالبا بالحياة الكريمة..." ويرى القارىء أنها قصيدة تحريضية بامتياز، وهي موجهة الى الشباب، وللجواهري أكثر من قصيدة الى الشباب:

بِكُمُ أبتدي وإليكم أعودُ     ومن سيب أفضالكم أستزيدُ  ،  صحابي وأنتم لنعم الصحاب    إذا نُكِثت من صُحيبٍ عُهودُ

ديباجة قصيدة  وئام كما في المقدمة إعلاه، سهلة اللغة صافية المفردات واضحة العبارة هادئة المطلع على بحر الخفيف، وهو خفيف حقا لكثرة الأسباب الخفيفة ( متحرك فساكن مثل: فا، لا ،تن، مس، تف، لن...) ثم تبدأ النبرة بالإرتفاع مع الأسلوب الخطابي الضروري جدا للتحريض، النهي بلا ثم أفعال الأمر في الصدر، ثم تأتي النتيجة في العجز، وتستمر.

لا تهابوا وأضربوا واستمدوا      قوة العزم من يد الإضراب

وتخطوا كل العراقيب مجدا    ذللوها فجّوا طريق الصعابِ

كونوا منكم الظهير لبعض      رب ترس تخشاه كلُّ الحرابِ

ثم يتحول الخطاب الى جمل أسمية تبدأ بالجمع المخاطب "أنتم" عل خمسة أبيات وبنبرة هادئة تعرف بالرومانسية الثورية في التراث الأدبي الثوري منها:

أنتمُ الزهر فيه عطرٌ ولونٌ      ورحيقا يجود أعلى الثوابِ

أنتمُ الفجرُ قد تجلى بهاءً     وهم الوهم في ثياب الضبابِ

لأول وهلة استغربت من وجود مفردة دينية "الثواب" ضمن سياق حمم ثورية! لكن المعنى متماسك ولا ضير من استخدامها، وثياب الضباب استعارة بلاغية زادت البيت جمالا،،، والقصيدة نحاول  اكتشاف ختامها، فالختام لا يقل أهمية من الإستهلال، إذ ينبغي أن يكون متأنيا كما النسر حين يحطُّ بعد طول تحليق، والقانون نفسه في الموسيقى وفي الغناء وخاصة المقام العراقي حيث بعد الميانة تأتي الخاتمة، لنرَ:

وكفانا لطما ودمعا ونوحا       وجباها قد عُلِّمت بالسَّقاب

افتحوا للحياة كل كوى العق    لِ وسدّوا من دونها كل بابِ

وتغنوا بالحب فالله عشقٌ     وضمير يقيم تحت الثيابِ

إنما الستر في نقاء نفوسٍ     حين تسمو لا في سجون الحجابِ

لقد حط طائر الشاعرة الميمون بسلام ورشاقة وانتصار للمرأة وادانة للمارسات الضارة من لطم ونوح، وأجمل ما في هذا البيت (وكفانا لطما..) تكوينها صورة شعرية جميلة بمفردة "السقاب" وهو قطنة صغيرة مخضبة بلون أحمر تضعها المرأة الجاهلية على غطاء رأسها علامة الحزن لفقد زوجها (المعجم الوسيط: سَقب).

طرقت الشاعرة وئام ملا سلمان بابا شعريا لم تطرقه امرأة شاعرة من ذي قبل، هو باب الخمريات، وهذا الباب حاضر في كل العصور موغل في قدمه منذ خمريات الملك الضليل  323م وقد كانت الخمريات جزءً من المعلقات لا تكاد تخلو منها قصيدة، وقد أطلق مصطلح الخمريات على قصائد أبي نواس المخصصة للخمر باعتبارة أمارة على تجديد الشعر العربي في العصر العباسي، في حين أن الشاعر الجاهلي المثقف عَدي بن يزيد كاتب ايوان كسرى هو أول من خصص قصائد للخمر:

بكر العاذلون في غَلَس الليل       يقولون لي أما تستفيقُ

فدعا بالصبوح فجرا فجاءت       قينة في يمينها أبريقُ

وانحسرت الخمريات قليلا في العصر الإسلامي في حين أن للصحابي حسان بن ثابت شاعر الرسول كثير من الخمريات، وهذه من قصيدة ينافح بها عن الرسول بوجه قريش:

كأن سبيئة من بيت راس     يكون مزاجها عسل وماءُ

على أنيابها أوْ طعم غصٍّ      من التفاحِ هصَّره الجناءُ

وإليكم صاحب الرسول كعب بن زهير:

نُشفى بها وهي داءٌ لو تصاقبنا      كما اشتفى بعيادِ الخمر مخمورُ

يشتاق الشاعر لديار الحبيبة فهي شفاء كما تكون الخمرة شفاءٌ للمخمور الذي اعتادها ولا يستطيع منها فكاكا!

فلنسمع شيئا من خمريات الشاعرة وئام ملا سلمان:

ياحامل الزِّقِ رفقا بابنة العنبِ            فمن سوى حِلمِها يمتصُّ من غضبي

تسري بروحي إذا أشكو لها وَجعي       وترتخي بي سنين العمر من تعبي

إني كبرت فهل من توبة لشقي             عاص تراه لباب الحان منجذبِ

ترنح الكأس في كفي وراقصني     رقص الحسان إذا ما ذبن في الطربِ

ياناسي الراح لو تدري منافعها             لكنتَ ناديت: يا زياحة الكُرُبِ

هي النصوح لمن أعيته فاتنة              وهي العشير لمقطوع من النسب

وهي الصديق إذا ماالصحبة افتقدت      وهي الأنيس لمن ألقى بمغتربِ

القصيدة أطول من ذلك، والابيات الأولى فيها نفس جاهلي، والزق انتهى وجوده في العصر الأموي، لتحل محله الكؤوس والأقداح والأكواب والأباريق الخ... والقصيدة بطبيعة الحال تفتقد للصدق بل الشاعرة ولجت هذا الباب وكانت موفقة جدا، وعلى بحر البسيط هذا قال أبو نواس أروع خمرياته:

دع عنك لومي فإن اللوم إغراءُ     وداوِني بالتي كانت هي الداءُ

وله أخرى من البسيط:   عاجَ الشقيُّ على رسم يسائلهُ        ورحت أسأل عن خمارة البلدِ

أما البيتين الأخيرين فيذكراني برائعة المتصوف ابن الفارض:

شرِبنا على ذكر الحبيب مدامةً     سكرنا بها من قبل أن يُخلَقَ الكرمُ

وللشاعرة قصيدة أخرى طويلة نقتطع منها مختتمين هذه الوقفة من البسيط أيضا:

قلبي على جِعّة في الكأس باقيةٍ       أبت يداي بأن تدنو لتسكبَها

وهذا معنى مبتدع، فقد قالت العرب: وللأرض من كأس الكرام نصيبُ

لم يأت بالزهر ان أُبقي ثمالته           تبث بالروح نيرانا وتلهبها

حرّمت مسّكِ يا صهباء من ورَع        إلاك أنت ...فحلٌ حين أشربها

عاهدت نفسي أن تُسقى بها مطرا      لكي تدوم سنين العمر تصحبها

وأنتشي ليلتي والشوق يُسكرني      تسمو بها الروح فالأفلاك ملعبها

لا تسألوا عاشقا عن سر صفنته      فديدن الحب للألباب يخلبها

- للموضوع صلة-

 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2251 الأحد 21 / 10 / 2012)


في المثقف اليوم