قضايا وآراء

تقاطعات المتخيل بين المفقود والمعاش .. عبد الكريم الكيلاني باسقا في تورين / رحاب حسين الصائغ

والاحساس بمستجدات جنون واقع مسحوق في الانعتاق، والتحول اللا منطقي يدفعه للكتابة الى متخيل الاجترار لما هو بين تقاطعات التجريب، والمحاولة لايجاد توافق لتلك الانعكاسات، النتاج عن فداحة واقع مثقل بذلك التحول المحبط، وتركيز على ما آلت اليه الحداثة وآلياتها في الخطاب الادبي.

 

عبد الكريم الكيلاني/ وراية تورين/ طبعت جامعة دهوك- 2011

احد الكتاب اللذين ساروا وراء هذا الاتجاه في روايته(تورين) اسم لامراة حسناء متوسدة صيغ الجمال في المعنى لدى الكورد، احداث الرواية حول البحث عن (توأم الروح) وقد اشار الى ذلك الكيلاني، تحت العنوان على غلاف الرواية، قاصدا المغزى المطلوب، ذكاء الراوي جعله يجرنا في تتبع احداث روايته. الى حالات تدل على ان الراوي يجرنا في سرده ان هناك امراة، ادخلنا في الفراغ الذي يعيشه السارد، نعم فحياة فرد عاش ضمن احساس لذيذ يراوده طوال حياته في البحث عن توأم روحه، تاركا المتلقي والشاهد يبحث في اعماق روح الراوي، اي البطل يجد نفسه في مدينة عشقها بكل احساسه، عرك فيها طفولته وشبابه، ولكن هناك وطن توأم روحه هو ما مفقود في داخله، المفروض انه يعيش فيه بكل وجوده، وطقوس حياته، وما يتخلله من شعور عميق بالامان، جذر اساسه، لا فرق بين المكانين غير رغبة التمرد، تراوده اسئلة متخيلة، مترادفة، متزامنة، كل لحظات عمره، على ماذا ومن وكيف؟. لم يجد غير تورين سوضاء لازمته لتكون تلك الانثى تعبير غير فاضح لوجوده الحقيقي، الوطن هو توأم روحه، الوطن هو اللغز المفقود في عمق ذاته، تورين حلقة الوصل المطلوبة يعلل انسجامه بها من خلال السرد، مما جعل القارئ شاردا معه في حالة التمزق التي يعيشها، والشعور بعدم الاستقرار، انها ثورة عارمة قادته لهذه المفارقات والتقاطعات.

نشهد من عناوين اوجدها في الرواية لكل من احداثها/ ليلة الرحيل/ ضجيج/ نزوة/ لحظات الخيانة/ ذكريات الموت والحياة/ وجع النرجس/ تورين/ عودة بعد غياب/ اسطنبول/. عناوين موشاة باللاشعور للوطن، منطلقها جوهر التركيز النوعي، والوعي الدرامي للرواية، مع وجود التشابك في ما تتضمنه من احاسيس معبرة عن الذات، كرجل شيء جميل البحث عن توأم الروح، كمواطن لابد من وجود توأم الروح، كانسان انها صرخة لهذه الوقفة المدبلجة لعدة صيغ تعد قوائم ابداعها، الخروج من شرنقة الواقع الى عالم جميل يتخيله رغم الصعاب والزمن، محاربا (وحدته، تجاربه التي نخرت عظامه، صنعت منه انسانا ساخرا من كل شيء)/ ليلة الرحيل ص9/، اعطانا صفة الانشطار المندرج حتى في خصوصياته، فضاء منطقي يحمل ثقة البحث عن توأم روحه، هويته وطنه،(فهو دائم البحث عن شريكة الروح، وخيباته المتكررة انغرست كعلامة استفهام بنصل سيف في جبهة صحراء حزنه العميق.) مؤكدا لنفسه المتخيلة في سر نفسه المتحررة مسوغا للانطلاق من اكذوبة السرد الى عقدة الحدث، نتوءات واضحة بصيغة تمرد مجازي على اشرعة هندستها حياة اعتراضية، في تادية التواءات السرد، الرواية تقود الى عمق محنته المعاشة على سطح زمكاني، تورين صورة من صور العذاب الذي لابد ان يطغى على سطح الحدث، السارد ليس فرد ماجن كي يغرق في ملذات الشهوة الجسدية، السارد يستل خيط الالم لنسج اسطر مست جوانب انسانيته، وتحت تاثير مشبع بالاوهام، كاتبا ما يوهم به من هم واهمون، انه/ الضجيج ص 19/ (الضجيج يبعثر سلوكه اليومي لأعماله المملة في الصحيفة التي تؤمن له اسباب العيش، له فتوحات هتلرية مع الضجيج المقيت الذي لا يفارق عقله) يخادع انزياحات وحدته من ذلك السائد في يومه، عقله رافض، يشد قلبه حنين عالق لا يفارقه، وألم الذات ليس نزوة/ نزوة ص 33/ (منذ صغره وعلامات الحزن والوحدة تحاول الاستيلاء على ملامحه.) جدل كبير يفتنه يود البوح به، لكن هل هناك من يسمع قضيته، رتبها زمن بغيض تتجلى فيه مظاهر مقصية، لتكون تورين كل الجمال والحلم والامل، هي الارض، الوطن، جذر توأم الروح، والسباحة في احضان جدولها، ما ساضع اقدامي الثابته على طريقه، وافضل ما اسعى لوصوله، محصننة روحي من جحيم الايام، غرست في روحي معالم الاخلاق في اللا مكان، والخيانة لا تحط في مشهد البحث لديه، ومحاور بيئته اعطته مظاهر التمدن في سلوكياته، الجمال قابع في متخيله كباحث عن توأم روحه، لن يتخلى عن مفاهيم اكل من رغيفها، تجد معالم واضحة في خطاب الكيلاني،/ لحظات خيانة ص 47/ (في صغره كان يخاف من الخيانة. خوفه هذا جلب له المزيد من القلق والتردد في اختيار اصدقائه، رنين الخيانة يطن كانه اجراس يوم الاحد التي تسمع صداها في انحاء الحي الفقير الذي يقطنه.) يكتفي بتعرية هذا المفهوم، ويعرج الى ما يجعل المتتبع لاسطره انه شارد عن المقصد، وانه غارق في دلالات تعوم في اغتراب الجسد، وليس اغتراب النفس، سبر اغوار مجتمع سطحي يفهم فقدان الفرد في زمن التشظي قيمته الانسانية، لابد ان يكون مريض ويعيش وفق مخلفات هشة، فيترك قارئه مخدر ضمن لغته المنفتحة على نوافذ احتمالات نرجسية، وان البطل يبحث عن انثى مفقودة في اعماق خطابه السردي، متخيل الكشف عن لواحق انسان شرقي هي هذه، أما الاغتراب حالة افقية تعيش في روح تنادي بالاخلاق، والدونية عائمة فيما خلفته الحروب واختناقات الدمار والموت، لذا لم يبقى امام السارد غير الانثى يخلع عليها مفاتن حزنه، البسها ثيمات صراخه وتاجه المطلوب بدونها يبقى الوطن قشور تتقاذفه شعارات مملة،/ ذكريات الموت والحياة ص 63/ (عشرات المرات يحدثها عن اوجاعه واوجاع من حوله من الذين رسموا لوحات البقاء في زمن الموت. منذ صباه لم يشعر بغربة كهذه. وكانه يعيش في بلاد اخرى لا يعرف كيف يتودد لها. كيف يشاكس تربتها ويعانق صباحاتها.) البطل هنا انسان متألم ومندهش، واضح ذلك من حديثه مع المرآة، لحظة وعي يجهل فروقها بين المكان والحاضن، والمكان الجذر. في كلاهما عرف انواع التمزق والموت والخوف، اصبح لا يفقه ايهما يعني له الخط الجاد في بحثه عن توأم روحه، لا بد من حالة للوصول لمشاعر صادقة تقوده لحالة قيمية للمنطق، ايا كانت من هذه التناقضات،

تورين شكل يفصل بين النضوج والعاطفة، وتوأم الروح هو الاساس في مجمل القضية، وخلع اشكال البحث يقوده لعطر خياله في شكل الوطن، هو تلك الحسناء التي شغلته طوال زمن حياته، النرجس نبات فصلي عطر، زهرة جميلة تشتهر بها مدن كوردستان،/ وجع النرجس ص 85/(صديقه المجنون ليس مجنونا بالمعنى الذي نعرفه، تصرفاته العبثية أحيانا تشير الى انه مجنون، فهو لا يخشى شيئا البتة، والشجاعة في غير موضعها جنون،) الراوي بينه وبين الاشياء غضب كوني سببه روتين قامع، لا تسكنه حقن النسيان، لذا وصف حالة البحث بوجع النرجس،ذاكرا في مكان اخر(ربما التقاء الحلم بالواقع في نقطة واحدة يشكل هذه الحياة التي نعيشها). /تورين ص 95/ هم العودة لتوأم الروح متشكل من خلق صورة تورين،(الحب الخالد المقنع بستر وحواجز ومسافات وصمت ولوعة). تناول ما من شانه ان يتناوله لازالة الاقنعة المحيطة بقضية عاصرت سنين عمره، ونراه دائم العروج للغة المتحول في سرده المخروطي المتفاعم بالرمز، والمنظور من رؤيته الانثوية منطلقا الى الباسها اقنعة لا تؤخذ عليه في الدفاع عن اوجاعه، معبرا عن تجربة ذاتية معاشة، جرأته في الكتابة وذكائه احال نتاج عالمه الروائي الى مسلة تنفس منها شرائعه وعطورها، اوجاع زهور، انثى وطن في قلب رجل، الى جانب ذلك الشوك نابت بين الثنايا، جاهر وعرى واقع مختوم بنمطية مكانين، منها المعاش ومنها المفقود توأم روحه،/ العودة بعد غياب ص 111/ (زهور الياسمين والنرجس تتراقص على انغام عجيبة، جبال كوردستان تتحرك بفرح مرتدية ولأول مرة في التاريخ حللا خضراء سندسية، ليالي المدينة تتهامس فيما بينها، النهارات تتعثر ببعضها.

" يا الهي هل جنَّ العالم من حولي ام انا جننت"؟!) العودة لكوردستان الجذر، توأم روحه، والمدينة البعد عنها افقده بعض اتزانه، هل حقا سيقبع في جنائن وجبال بلاده، يتسأل: انه حظيَّ بمفردات أبعد عنها وهي نهره الاول، ارضه الام، لتنام تورين اينما تريد، او لتبقى فوق عشا تختاره، سلطة الالتزام حيث وجد حسناؤه بعد تعب اضناه، الكيلاني اشتغل على النص من حيث الهروب الى مركزية النص، والتشابك في لغة السرد من روح التمر استلها في خلق حلم اللحظة المرتقبة، موسيقى تشكيلاته اللغوية اوجد القارئ داخل صراع قائم القبول والانكار، تنازع ابداعي في مبنى مغاير، متزاحم يؤسس لبياضات سر الظل، وشوق يداعب تحقيق نبوءة هذا البحث، دوافعه عدم الخيانة للمكانين،/ اسطنبول ص 121/ (كيف لا يختبئ وهو العصي البعيد الغارق في التيه! ربما البحث نفسه هو الحب وحين نصطدم به يمنح قلوبنا الوجود والاحساس بالرقيّ!).

بهذه الكلمات انهى فصول روايته.

كاتبا على الظهر الكتاب، (نلملم اروحنا المبعثرة كل مساء/ نحتفي بولادة الورد. نتلصص على تأوهات العصافير حتى تتلاشى ثانية. الزرقة قاتمة، والموج هادر، هل نتبعه؟ سنتبعه، فالارواح الهائمة لا تهدأ حتى تنجلي العتمة.)

انه بوذي يبحث عن الحقيقة، فكان الحلم احد عوالم هذا البحث، اوحت لي رواية الكيلاني، بانها قصيدة ملحمية تواكب العصر، سيمفونية كلاسيكية لم يسبق لعازف بارع ان شحن روحه لهذا العشق، فاضحا الكثير في اسطر روايته من معاني موجعه، بلغة عالية من التوافق في سرد شبق، كان عاشقا واله، عاش حلم البحث عن توأم روحه الساكن في مخيلته كحسناء، اوصالها في مضامين حياته


الكاتبة / ناقدة من العراق

 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2251 الأحد 21 / 10 / 2012)

في المثقف اليوم