قضايا وآراء

مدخل لـ "لنشأة النحو العربي .." (4): سيطرة مدرسة الكوفة النحوية / كريم مرزة الاسدي

فكره الرشيد ملازمته أولاده، وأمره أن يرتاد لهم من ينوب عنه ممن يرتضي به، وقال له: "إنك قد كبرت، ونحن نحب أن نريحك، ولا نقطع عنك جاريك " جاريك يعني به راتبك، مهما يكن من أمر، خشي الكسائي أن تفلتْ الأمور، وتخرج عن أيدي الكوفيين، طلب تلميذه علي بن المبارك الأحمر النحوي - واسمه في (معجم الأدباء): علي بن الحسن - والأحمر في الأصل صفة للرجل الذي فيه الحمرة، وقال له: " هل فيك خير ؟ قال: نعم، قال: قد عزمت على أن استخلفك على أولاد الرشيد . "، فأخذ يلقنه ما يعلمهم، ونجح الأحمر في مهامه، وهو طبعاً من أهل الكوفة، وممن ضايق سيبويه زعيم البصريين النحويين عند دخوله قاعة انتظار الوزير يحيى البرمكي يوم المسألة الزنبورية التي مرّ ذكرها، وكان الأحمر جندياً من رجال النوبة على باب الرشيد فطناً ذكياً حتى أصبح مودباً لـ (الأمين)، قال الأحمر: " قعدت مع الأمين ساعة من نهار، فوصل إلي فيها ثلثمائة ألف درهم " ولك أن تعرف الراتب الشهري للجندي في تلك الأيام مائة درهم فقط، وعليك أن تقدر منزلة النحويين والشعراء والكتاب في ذلك العصر، وأن تتفهم لماذا الصراع والحرص على الغلبة ؟! ولعلمك - إن كنت لا تعلم - كان الخلفاء إذا أدخلوا مؤدباً إلى أولادهم، وجلس أول يوم، أمروا عند قيامه بحمل كل ما في المجلس إلى منزله مع ما يوصل به، ويوهب له، وأنت تعرف تماما ما في مجلس الخليفة وأبنائه، وهذا الأحمر ما كان لديه سوى غرفة صغيرة ضيقة في بعض الخانات، لذلك أ ُمِر بشراء دار ٍله وجارية تخدمه، ووهب له غلام، و حُمل على دابة (بمنزلة سيارة فارهة هذه الأيام)، وأقيم له ولمن عنده جار ٍ، وكان متمولا، متجملا، فاخر البزة، كأن داره دار ملك بالخدم والحشم (88)، صنف هذا الأحمر كتاب (التصريف)، وتوفي في طريق مكة سنة (194 هـ / 809 م)، أي بعد وفاة الرشيد بسنة واحدة .

ويمضي زمن الأمين في صراع دام ٍ مع أخيه المأمون، وما أنْ تسلـّمَ المأمون زمام السلطة، وقدِم إلى بغداد، إلا وارتفع شأن الكوفي الآخر، ونعني به (الفرّاء)، وهو أبو زكريا يحيى بن زياد الديلمي، (144هـ / 762م - 207 هـ / 822م)، ولد في الكوفة، وهذا هو الثاني الذي وقف ندّاً قوياً أمام سيبويه، وأزاحه عن طريقه، وقيل في بعض الروايات أنـّه درس تفسير القرآن في مسجد الكوفة (89)، وها هو اليوم أبرع الكوفيين وأعلمهم حمل العربية على الألفاظ والمعاني فبرع بها،  ويتبين ذلك من قوله: " كلّ مسألة وافق إعرابها معناها، ومعناها إعرابها فهو صحيح " (90)، ولولاه " لما كانت اللغة، لأنه خلصها وضبطها " (91) كما يقول (ثعلب)، و زاد في نعته " لولا الفراء ما كانت عربية، لأنه حصنها وضبطها، ولولا الفراء لسقطت العربية، لأنها كانت تتنازع، ويدعيها كل من أراد " (92)، وهو الذي قال: " أموت وفي نفسي شيء من (حتى)، لأنها تخفض وتنصب وترفع " (93)، وكان يقال "الفراء أمير مؤمنين في النحو " (94)، وقد أصبح فيما بعد مؤدباً لولدي المأمون، ولمّا أراد يوماً أنْ ينهض إلى بعض حوائجه ابتدرا إلى نعله ليقدماها له، فتنازعا أيهما يقدمها له، ثم اصطلحا على أن يقدّم كل واحد منهما واحدة،  فقدماها، فرفع الخبر إلى المأمون، فاستدعاه وقال له: " من أعز الناس ؟فقال الفراء: لا أعرف أحداًأعزُّ من أمير المؤمنين ! قال بلى ... من من إذا نهض تقاتل على تقديم نعله وليا عهد المسلمين حتى يرضى كل واحد منهما أن يقدم له واحدة " . واعتبر المأمون هذا العمل من حسن الأدب " وما وضع ما فعلا من شرفهما، بل رفع من قدرهما وبيّن عن جوهرهما " وعوضهما المأمون مما فعلا عشرين ألف دينار، وللفراء عشرة آلآف درهم على حسن أدبه لهما . (95)، وهذا الخبر يدل على أمرين: أولهما حنكة المأمون وحكمته وبعد نظره وحسن أدبه، وثانيهما منزلة النحويين وأهمية اللغة لدى الخلفاء العباسيين في عصرهم الأول، بل أكثر من هذا، إنّ الخليفة المأمون أمر " الفراء أن يؤلف ما يجمع به أصول النحو، وما سمع من العرب، وأمر أن يفرد في حجرة من حجر الدار، ووكل به جواري وخدماً يضمن بما يحتاج إليه حتى لا يتعلق قلبه، ولا تتشرف نفسه إلى شيء، حتى أنهم كانوا يؤذنون بأوقات الصلاة، وصيّر له الوراقين، وألزمه الأمناء و المنفقين، وكان يُملي و الوراقون يكتبون حتى صنف (الحدود) في سنتين، وأمر المأمون بكتبه في الخزائن" (96) .

وكان الفرّاء أيصاً يجري على مجرى القياس كأصحابه الكوفيين، " يُروى عن بشر المريسي(97)، أنه قال للفراء: يا أبا زكريا ...أريدأن أسألك مسألة في الفقه ؟ فقال: سل ! فقال: ما تقول في رجل سها في سجدتي السهو ؟ قال: لا شيء عليه . قال: من أين قلت هذا ذلك ؟ قال: قسته على مذاهبنا في العربية، ذلك أن المصغر لا يصغر، وكذلك لا يُلتفت إلى السهو في السهو، فسكت ." (98) .

الحقيقة بعد المسألة الزنبورية سيطرت مدرسة الكوفة في النحو العربي على عاصمة الخلافة " وكان الفرّاء يتفلسف في تأليفاته وتصنيفاته حتى يسلك في ألفاظه كلام الفلاسفة، وكان أكثر مقامه ببغداد، وكان يجمع طوال دهره، فإذا كان آخر السنة خرج إلى الكوفة، فأقام بها أربعين يوماً في أهله، يفرق فيهم ما جمعه ويبرهم " (99)، ولكن مع ذلك حاول الفرّاء بفلسفته النحوية أن يعدل من مسيرته الكوفية لكي تفاوق مسيرة أهل البصرة إرضاءً لهم، وخصوصاً بعد المناظرة بينه وبين أبي عمر بن صالح بن إسحاق (الجرمي) البصري، وهو صاحب دين وإخاء وورع، صاحب كتاب (المختصر في النحو) (ت 225 هـ /840 م)، ينقلها إلينا ابن الأنباري في (نزهته)، وفي هامش (إنباه...) القفطي، ومجملها عند اجتماعهما قال " الفرّاء للجرمي: أخبرني عن قولهم (زيد منطلق) لِمً رفعوا (زيداً)، فقال له الجرمي بالأبتداء ! فقال له الفرّاء: وما معنى الأبتداء؟ قال: تعريته من العوامل، قال له الفراء: فأظهره . فقال الجرمي: هذا المعنى لا يظهر . قال له الفراء: فمثله . قال له الجرمي: لا يتمثل . قال الفراء: ما رأيت كاليوم عاملاً لا يظهر ولا يتمثل ! فقال الجرمي: أخبرني عن قولهم: (زيد ضربته)، لِمَ رفعت (زيداً) ؟ فقال: بالهاء العائدة على زيد ! قال الجرمي: الهاء اسم، فكيف يرفع الاسم ؟ قال الفراء: نحن لا نبالي من هذا، فإنما نجعل كلّ واحد من المبتدأوالخبر عاملاً في صاحبه في نحو (زيد منطلق). فقال له الجرمي: يجوز أن يكون كذلك في نحو (زيد منطلق)، لأن كلّ واحد من الاسمين مرفوع في نفسه، فجاز أن يرفع الآخر، وأما الهاء في (ضربته) ففي محل النصب، فكيف ترفع الآسم ؟ فقال له الفرّاء فقال الفرّاء: لم نرفعه به وإنما رفعناه بالعائد ! فقال له الجرمي: وما العائد ؟ فقال له الفراء معنى، فقال له الجرمي: اظهره ؟ قال: لا يظهر، قال: مثله؟ قال: لا يتمثل ! فقال له الجرمي: لقد وقعت فيما فررت منه" (100) .

كان الجرمي يسير على خطى سيبويه إذ يرى العامل في المبتداهو الإبتداء، وأما الخبر فقيل يُرفع بالمبتدآ، وقيل بالابتداء أيضاً، في حين الفراءعلى مذهب الكوفيين، فيرى مثلهم أنّ عامل الرفع فيه الخبر وليس بالابتداء، ومثله الخبر عندهم يرتفع بالمبتدأ،  المهم العامل فيها معنوي وليس لفظيا، والعوامل في النحو مائة، ليس منها سوى عاملين معنويين فقط، أولهما الإبتداء، وثانيهما الفعل المضارع عند وقوعه موقع الاسم نحو(زيد يضرب) في موقع (زيد ضارب) .

لذلك قد خرج الفرّاء عن مدرسته الكوفية وأستاذه الكسائي في أمور أربعة وهي:اهتمامه بالمعنى واللفظ في  الإعراب بينما الكسائي يهتم بالمعنى دون اللفظ، واعتماده على شعر المحدثين والاستشهاد به، فقد أجاز الرفع بعد (إلا)الأستثنائية في الموجب نحو (قام القوم إلا زيدٌ)، وردّه بعض القراءات وتقبيحها، وهو يلتقي بذلك مع البصريين،  وتخطئته للعرب، وهو أيضاً يتفق في هذا الأتجاه مع البصريين، ولكن هذا لا يعني أنه بعد كثيراً عن مدرسته الكوفية، كلا فقد بقي مشدوداً إليها متعصباً لها وللكسائي، نابذاًلسيبويه (101).

واستمر الحال على هذا المنوال، إن الكسائي الكوفي قد أثر تأثيراً كبيراً على الأخفش الأوشط، بل جعله مؤدباً لأولاده، ولكن الجرمي البصري ما كان تأثيره على الفراء إلا قليلا، كما ذكرنا سابقاً، والنار كانت نستعر تحت الرماد، أنـّى مرّت رياح عليها برز مجدداً الخلاف، وأصبح على أشدّه في القرن الثالث الهجري، وكان الجدال عقيماً لا يراد منه غلآ دحض الرأي الآخر، وإثبات الحجة، بالإكراه حتى وصل الأمر أن يتهكم بهم يزيد بن الحكم الثقفي، فقال على سبيل التهكم، وهجاء النحويين:

إذا اجتمعوا على ألفٍ وواو ٍ*** وياءٍثار بينهمُ جدالُ (102)

وكتب رفيع بن ابن سلمة المعروف بدماء قصيدة إلى شيخ البصرة أبي عثمان بكر بن محمد المازني (ت 236 هـ /850 م في عصر المتوكل)، أخذ عن الأخفش الأوسط، وروى عن بن عبيدة والأصمعي، وتعلم عليه المبر د الشهير البصؤي (الذي قبل يد دعبل)، والفضل اليزيدي وغيرهما، وكلهم بصريون عدا دعبلا فهو كوفي، وللمازني (التصريف) و (كتاب ما يلحن فيه العوام)، أقول تبرم هذا الـ (رفيع) من رأي البصريين في نصب المضارع بـ (أنْ) المضمرة وجوباًبعد (الفاء والواو و أو) دون أعتبار هذة الأحرف ناصبة كما يقول أصحايه الكوفيون:

تفكرتُ في النحو حتى مللـ ***ـتُ وأتعبت نفسي به والبدنْ

أجيبوا لِمـــا قيل هذا كذا ***على النصب قالوا لإضمار أنْ

فقد خفتُ يابكرُ من طول ما***أفكرُ في أمــر (أنْ) أنْ أجنْ(103)

 ولا يُخفى (بكر) يعني الشاعر به (المازني)، وتستمر الكوفة في نفوذها على بعداد وقصورها، بالرغم من أنّ المازني شيخ البصريين قد استدعي إلى بغداد، وحضر قصر الخليفة الواثق(ت 232هـ / 846م) حينما غنته جارية من البصرة، كان قد اشتراها بمئة ألف:

أظليمُ أنَّ مصابكمْ رجلاً*** أهدى السلام إليكمْ ظلمُ

فقال لها الواثق: قولي (رجلٌ)، فقالت:لا أقول إلا كما علمت،  إذ أخذت الشعرمن أعلم الناس بالعربية، فقال لها: ومن هو ؟ فالت: بكر بن عثمان المازني، أمر الخليفة العباسي بإشخاصه، ولما جاء سأله، فأجابه، خبر (إنَّ) هو (ظلمُ) وليس (رجلاً)، لأنّ المعنى لا يستقيم، فأمر له بصلة،  وأجرى عليه كل شهر مائة دينار، دينار ذلك العصر بمعنى راتب عشرة موظفين، ولكنه رجع إلى البصرة، ونحن سنرجع إليكم لمدخل الحلقة الفادمة، وفقكم الله، وتبقون على خير.   

 

 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2258 الأحد 28 / 10 / 2012)

في المثقف اليوم