قضايا وآراء

هل كان للإمام الكاظم نشاط سياسي وفكري في السجن؟ / غالب حسن الشابندر

وليس سبع سنوات أو اربع عشرة سنة، ومضى بنا إنه لم يتعرض لتعذيب، إنما تعرّض لمضايقة في ايامه الاخيرة من سجنه لدى السندي بن شاهك، ولم يُقيَّد بحديد، وكان يُسجَن في بيوت الامراء وقصورهم، وليس في كهوف أو تحت الارض، وكان محل اهتمام سجَّانيه الكبار، خاصة الفضل بن الربيع، والفضل بن يحي البرمكي، وقد رفض هؤلاء قتله كما تقول الروايات الشيعية، كان اشبه ما يكون سلام الله عليه في اقامة جبرية .

ولكن كيف كان يقضي أيامه في سجنه؟

الاتجاه العام يصوره بانه كان عليه السلام مشغولا بالعبادة، من صلاة وصوم وقراءة قرآن ودعاء، ويبدو لي أن انصرافه للعبادة البحتة في سجنه كانت جزءا من توجهه العام في حياته، أي لم تكن هذه السيرة اضطرارية، بل هي امتداد لسلوكه التديني العبادي العام، فقد قال المفيد في ارشاده: (كان أبو الحسن موسى عليه السلام أعبد أهل زمانه وافقههم واسخاهم كفاً وأكرمهم نفسا) 1 ص، من المؤكد أن الشيخ المفيد ينطلق في هذا التقييم من أخبارٍ وصلت إليه، ومن منطلق إيمانه بإمامته، وهذا المنطلق سابق على الاخبار بطبيعة الحال، ولكن هناك توافق بين علماء عصره، وتوافق بين كتاب السير والتراجم إنه سلام الله عليه كان من العُبَّاد .

لقد مضى بنا خبر سجنه في البصرة، وكيف أن الامير عيسى بن جعفر بن أبي جعفر كان قد كتب للرشيد عن تدين الامام، وانصرافه التام للعبادة في السجن، وهي شهادة آخرين أيضا .

لقد نصّ كتاب السير والتراجم مثل البغدادي والذهبي وابن خلكان، كذلك كتاب الحديث والآثار على أن الكاظم كان (عابدا)، ليس في سجنه بل في حياته،والمرء حقا يستاءل عمَّا يمكن أن يفعله مثل الإمام الكاظم عندما يكون مسجونا،حيث لا سمير، ولا شريك، ولا مصاحب؟ ليس هناك غيرالعبادة، بل قد تكون في حسابه فرصة العمر كي يتفرَّغ لله تبارك وتعالى .

يروي صاحب اعلام الورى: (كان يصلي نوافل الليل، ويصلها بصلاة الصبح، ثم يعقِّب حتى تطلع الشمس، ويخرُّ لله ساجدا، فلا يرفع راسه من الدعاء والتمجيد حتى يقرب زوال الشمس ...) 2ص .

قال الخطيب البغدادي: (أخبرنا الحسن بن ابي بكر، اخبرنا الحسن بن محمَّد العلوي، حدَّثني جدي، حدَّثني عمّار بن أبان قال: حُبِس أبو الحسن موسى بن جعفر عند السندي، فسألته أ خت ان تتولى حبسه ـ وكانت تتدين ـ ففعل، فكانت تلي خدمته فحكى لنا أنها قالت: كان إذا صلَّى العتمة حمد الله ومجَّده ودعاه، فلم يزل كذلك حتى يزول الليل، فإذا قام يصلي حتى يصل الصبح، ثم يذكر قليلا حتى تطلع الشمس، ثم يقعد إلى ارتفاع الضحى، ثم يتهيا ويستاك وياكل، ثم يرقد إلى قبل الزوال، ثم يتوضّأ، ويصلي حتى يصلي العصر، ثم يذكر في القبلة حتى يصلي المغرب والعتمة، فكان هذا دأبه، فكانت أُخت السندي إذا نظرت إليه قالت: خاب قوم تعرَّضوا لهذا الرجل، وكان عبداً صالحا) 3 / تاريخ بغداد 13 ص 31 .

نقرا ايضا: (دخلت على الفضل بن الربيع وهو على سطح فقال لي: إشرف على هذا البيت وانظر ما ترى؟ فقلت: ثوباً مطروحا فقال: أنظر حسناً فتأملت فقلت: رجل ساجد، فقال لي: تعرفه؟ هو موسى بن جعفر أتفَّقده الليل والنهار فلم أجده في وقت من الأوقات إلاّ على هذه الحالة، إنه يصلي الفجر فيعقب إلى أن تطلع الشمس ثم يسجد سجدة، فلا يزال ساجداً حتى تزول الشمس، وقد وكّل من يترصّد أوقات الصلاة، فإذا أخبره وثب يصلّي من غير تجديد وضوء، وهو دأبه فإذا صلّى العتمة أفطر، ثم يجدد الوضوء ثم يسجد فلا يزال يصلي في جوف الليل حتى يطلع الفجر ...) 4/ بحار الانوار نقلا عن امالي الصدوق 48 ص 107 ح 9 /

نقرا كذلك: (...حدُّثني الخرزي أبو العباس بالكوفة قال: حدَّثني الثوباني قال: كانت لأبي الحسن موسى بن جعفر عليه السلام ـ بضع عشرة سنة ـ كلَّ يوم سجدة بعد إبيضاض الشمس إلى وقت الزوال قال: فكان هارون ربما صعد سطحاً يشرف منه على الحبس الَّذي حبس فيه أبا الحسن عليه السلام فكان يرى ابا الحسن ساجداً فقال للربيع: ما ذاك الثوب الّذي أراه كلَّ يوم في ذلك الموضع؟ قال: يا أمير المؤمنين ما ذاك بثوب إنَّما موسى بن جعفر له كلَّ يوم سجدة بعد طلوع الشمس إلى وقت الزوال،قال الرَّبيع: فقال لي هارون: أما إنَّ هذا من رهبان بني هاشم، قلتُ: فما لك فقد ضيَّقتَ عليه في الحبس؟ قال: هيهات لابدّ من ذلك)5 / البحار48 ص 220 ح 24 /

أنْ تتصعد الحالة العبادية لدى الامام في السجن امر طبيعي، وربما كثرة صلاته وتهجدة لون من لون المقاومة والتحدي، فالله تعالى يوصي عبد أن يستعين بالصبر والصلاة، فما المانع إذا قلنا كان الامام يتحدى سجانيه وطغاة الحكم بهذا السلوك العبادي العظيم؟

مشكلة هذه الروايات ضعف السند، ولكن ربما يسهل قبولها كون اتفاق العام والخاص على كونه عابدا، ليس قبولها حرفيا، وإنما قبولها على نحو عام، فبإمكاننا أن نقول إن الامام كان منشغلا بالعبادة في سجنه، بصرف النظر عن هذه الرواية أو تلك .

 chalib alshbandar3

   2

هناك اخبار تفيد بان الامام الكاظم نصّ على ولده الرضا من داخل السجن، فكان إذن يمارس نشاط خطير وهو في الحبس، وهل هناك ما هو أخطر من تعيين الإمام من بعده؟

لنقرأ هذه الروايات نقديا ...

1: يروي الصدوق (حدَّثنا محمّد بن الحسن بن أحمد بن الوليد،رضي الله عنه قال: حدثنا محمّد بن الحسن الصَّفار، عن أحمد بن محمَّد بن عيسى، عن عبد الله بن محمَّد الحجال واحمد بن محمّد بن أبي النصر البزنطي ومحمَّد بن سنان وعلي بن سنان وعلي بن الحكم، عن الحسين بن المختار قال: خرجت إلينا ألواح من أبي إبراهيم موسى عليه السلام وهو في الحبس، فإذا فيها مكتوب: عهدي إلى أكبر ولدي) 6 / عيون 2ص 39 ح 23 .

مصدر الرواية من أعلى هو: (الحسين بن المختار القلانسي) لم يذكره علماء الرجال بمدح أو ذم، سوى أن الشيخ المفيد قد وثَّقه، فقد عدَّه من خاصَّة الكاظم عليه السلام ووصفه بانه (من أهل الورع والعلم والفقه ومن شيعته)، اي شيعة الامام الكاظم، وقد بنى الخوئي على توثيق الشيخ المفيد هذا وثاقة القلانسي، وفي ذلك كلام طويل، فهناك من يرد توثيقات الشيخ المفيد كما هو الشيخ المحسني بقوله: (وجه التوقف وعدم الاعتماد على هذا التوثيق ـ توثيق الشيخ المفيد لبعضهم ـ مع جلالة الشيخ المفيد وعلو ودقة نظره غلبة الاحتمال بان التوثيق المذكور ساق مساق الغالب بلا ملاحظة حال كل واحد من الرواة، كما يدعمه بعض القرائن ...) 7/ بحوث في علم الرجال ص 225 / وفي تصوري إنَّ الشيخ المفيد وثَّقه لأنه كان من الشهود على تنصيص الكاظم على امامة الرضا من بعده، وهي ذات الحالة في توثيقه لـ (محمّد بن سنان) رغم كونه ضعيفا جدا، وما ذلك كما يبدو لي إلاّ لانه كان احد شهود التنصيص المذكور .

الصدوق يرويها بسند آخر ينتهي إلى الحسين بن المختار هذا: (حدَّ ثنا أبي رضي الله عنه، قال حدَّثنا سعد بن عبد الله، عن محمد بن عيسى بن عبيد، عن يونس بن عبد الرحمن،عن الحسين بن المختار قال: لما مرَّ بنا أبو الحسن عليه السلام بالبصرة خرجتْ إلينا منه ألواح مكتوب فيها بالعرض عهدي إلى أكبر ولدي)8 / عيون ص 39 ح 24 /

يبدو أنهما رواية واحدة، واستبعد أن هذه الالواح التي يتحدث عنها الحسين بن المختار خرجت مرّتين، وبالتالي، تكون العملية قد حدثت في البصرة، ولكن تارة نفهم أن الالواح خرجت من داخل السجن وأخرى نفهم أن الالواح من الامام مباشرة وهو في طريقه الى البصرة،

وكونها من خارج السجن،اي أثناء مرور الامام بالطريق من المدينة إلى البصرة اكثر مقبولية من حيث الظروف الموضوعية والواقعية للحدث كله، وفيما اردنا ان نوغل بالاسئلة سيكون من الصعب قبول ارسال هذه الكتب من داخل السجن، تُرى هل كتبها الامام وهو بالسجن أم حملها معه من المدينة؟ وفيما الرواية تفيد أن الكتب خرجت من السجن ولم تسلَّم في السجن إنما يفيد إن الامام كان له من يستعين به داخل السجن لمثل هذه الامور، وهذه القضية بحد ذاتها تحتاج إلى دليل ممِّا يزيد في تعقيد قبول كون هذه الكتب خرجت من داخل السجن، ثم أين هي عيون السلطة؟ إنَّ تفسير الامور التاريخية بالمعقول أو ما هو اقرب للمعقول والواقعية اجدر من تفسيرها غيبيا او بطرائق معقدة جدا

،وليس بعيدا أن قول الراوي حسين بن المختار: (وهوـ أي الإمام ـ في الحبس) تعبير مجازي، لان الامام كان في طريقه للحبس، هذا وقد اغفل الراوي من شاركه

 وهناك رواية أخرى تفيد مثل هذا الموقف بصرف النظر عن صحتها، سوف آتي عليها بعد قليل .

المفارقة هنا ان الحسين بن المختار تدور حوله شبهة الوقف، لقد نصَّ على وقفه الشيخ الطوسي في (رجاله)، قائلا: (واقفي، له كتاب) 9 / معجم 6 رقم 3643 / وحاول السيد الخوئي أن ينفي عنه تهمة الوقف اعتماداً على توثيق الشيخ المفيد له ! ومستفيداً من عدم نسبته للوقف في فهرست الشيخ ورجال النجاشي ! ولست أدري كيف يكون عدم ذِكر هذه النسبة على لسان الشيخ الطوسي في كتابه (الفهرست) طريقا الى نفيها بعد أن ثبتت لدى الشيخ الطوسي في كتابه (الرجال)؟ وبالمثل لستُ أدري لماذا يكون عدم ذِكر هذه النسبة صراحة على لسان النجاشي نفيا لما اثبته الشيخ الطوسي في كتابه (الرجال)؟ فكان هناك اصرارا على تنزيه وتوثيق الرجل، ويبدو أن السبب الكامن وراء ذلك هو شهادته تنصيص الامام الكاظم على ولد الرضا عليهما السلام .

الحقيقة إنه لمن دواعي الدهشة أن (يقف) الحسين بن المختار على الإمام الكاظم وهو الذي خرجت إ ليه الالواح الصريحة بتنصيص الكاظم على ابنه الرضا !

نقرا ما هو قريب إلى ذلك في رواية الصدوق: (حدَّثنا أبي رضي الله عنه، قال: حدّثني سعد بن عبد الله، عن أحمد بن محمَّد بن عيسى، عن الحسن بن محبوب، عن عبد الله بن مرحوم قال: خرجتُ من البصرة أُريدُ المدينة فلما صرتُ في بعض الطريق لقيتُ أبا ابراهيم عليه السلام وهو يذهب إلى البصرة فارسل إليَّ، فدخلتُ عليه فدفع إليَّ كتبا،وامرني ان اوصلها بالمدينة، فقلتُ:إلى من أدفعها جُعلْت فداك؟ قال: الى ابني علي، فإنّه وصيِّ والقيِّم بامري وخير بني) 10 / عيون 2 ص 36 / وبصرف النظر عن صحَّة الرواية او عدم صحَّتها تفيد أن ابن مرحوم استلم الكتب في الطريق، وليس في السجن، وقوله: (فدخلتُ عليه) ليس في السجن، وإنما في الهودج اوالمكان الذي حُمِل فيه، أو ربما محل اقامة الموكب للاستراحة مثلا، فالامام إنما دخل السجن في البصرة وليس في الطريق من المدينة الى البصرة .

2: يروي الصدوق (حدَّثنا محمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد ... عن احمد بن محمد بن عيسى الاشعري،عن الحسن بن علي بن يقطين، عن أخيه الحسين، عن أبيه علي بن يقطين قال: كنتُ عند أبي الحسن موسى بن جعفر عليهما السلام وعنده علي ابنه عليه السلام فقال: يا علي هذا ابني سيد ولْدِي، وقد نحلته كنيتي، قال: فضرب هشام، يعني ان سالم يده على جبهته ! فقال: إنَّا لله وإنَّا له راجعون نعي والله إليك نفسه) 11/ عيون ص 31 ح 2 / وربما يستشعر بعضهم أن ذلك كان في السجن، بدلالة نعيه لنفسه،ولكن لا يوجد ما يدل على ذلك، تُرى كيف لعلي بن يقطين أن يصل للإمام وهو في سجن السندي بن شاهك وعلي بن يقطين كان وزير الرشيد، والرشيد كان يشك بولائه للإمام كما يقولون، وكان تحت المراقبة والرصد؟ !

اذا كانت الرواية صحيحة ربما كان ذلك خارج السجن، وربما بعيدا عن رصد جواسيس ورجال السلطة .

هذا الاحتمال له ما يؤيده، ففي المصدر نفسه نقرا: (... عن علي بن يقطين: كنتُ عند العبد الصالح موسى بن جعفر عليهما السلام جالسا، فدخل عليه ابنه الرضا عليه السلام فقال: يا علي هذا سيِّد ولدي، وقد نحلته كنيتي، فضرب هشام براحته جبهته ! ثم قال: ويحك! كيف قلتَ؟ فقال علي بن يقطين: سمعتُ والله منه كما قلتُ لك، فقال هشام: اخبرك والله أن الامر فيه منْ بعده) 12 / نفسه ص 32 /

إن الجمع بين الروايتين يفيد بان الحديث بين الامام وعلي بن يقطين هذا كان خارج السجن، وكان بعيدا عن عيون السلطة وجواسيسها، هذا اقرب للواقعية في تفسير الحدَث .

الواقع إني استعرض هذه القضية من خلال هذه الروايات لان بعض المبالغين في الكتابة عن حياة الامام الكاظم يدعي أن الامام كان على صلة بما يسميه (قواعد الامام الشعبية) من داخل السجن في سياق تنظيم ممنهج دقيق كان الامام يقوم على راسه، وقد كنت من المولعين بمثل هذه الافكار، ولكن قرائتي الجديدة لحياة الامام عليه السلام لم تسعفني بمثل هذا الراي، يؤكد على قضية التنظيم السري هنا بعض المولعين بالعمل الحزبي كما هو معروف .

إن الروايات السابقة إنْ ثبتَ صحَّتُها لا تفيد إن الامام سرَّب من داخل سجنه هذه الكتب، ولا تفيد بان هناك تنظيما سريِّا استعان به الامام من أجل ذلك فيما لو كان ذلك حقا قد حصل، فما المانع فيما لو كان هناك منْ يتعاطف مع الامام من السجانين والامام استعان بهم لايصال هذه الكتب إلى الآخرين، على أن عملية تسريب هذه الكتب المدَّعاة لم تحصل في مرحلة سجن الامام في بغداد، بل إيحاءات الروايات تفيد بان ذلك حصل أثناء الطريق من المدينة الى البصرة .

3: ولم تكتف بعض الروايات بهذا النشاط بل هناك ما هو اخطر، ففي رواية إن الامام ومن داخل سجنه في بغداد كان قد فك قيوده من رجليه، ومضى مسريا الى المدينة المنورة في ليلة قبل وفاته ليلقي أمر الولاية من بعده الى ابنه الرضا عليه السلام ! ثم عاد في ذات الليلة وقد أعاد القيد الى رجليه كي لا يتضرر سجانه فيما لو علم بذلك السعاة ! 13 / نفسه ص 97 / والرواية خرافية اسطورية بامتياز

إن كل نشاط الامام في السجن كان العبادة وحسب، وسوف اواصل الحديث عن ذات الموضوع في مناسبات قادمة باذن الله

يتبع

 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2264 السبت 03 / 11 / 2012)


في المثقف اليوم