قضايا وآراء

للخيال بصمة وللمبدع تفرد .. (بدل ان تلعن الظلام أكتب قصيدة) / رحاب حسين الصائغ

 

    للشعر فضاء يشهد له التاريخ الادبي، كونه يمثل عصارة افكار لأجيال متلاحقة، لصمته ضجيج ولضجيجه غيمات لا تعرف ألوانها اي استقرار، ويطبق المثل الصيني على الشعر حرفيا،

(بدل ان تلعن الظلام اشعل شمعة) حركة الشعر ومتغيراته لها أدوات لا تقدر الابتعاد عن اللغة وجماليتها، واللغة فضاءاتها واسعة رحبة دورها يثمنه الابداع الفكري والخلق الجمالي في الصورة من خلال المضمون واتقان التشكيل في القصيدة.

راضية العرفاوي وحميد عبد الوهاب لهما طفرة في مجال الابداع الشعري ورحيل سافر في اعماق جوهر اللغة الشعرية، وبما أن الانسان لم يعطه الخالق صفة الكمال، انما زرع فيه قوة الانجذاب نجو البحث عن الكمال المتسم بالجمال، لذا نجد الشاعرة راضية العرفاوي والشاعر حميد عبد الوهاب: قد دخلا ممرات البحث وقطفا لهما من قوة الذهن التي امتلكاها رقة في الصفاء، اقتنيا منها الجمالية في اللغة والابداع في خلق الصورة الشعرية، خارج فوضى العصر والزمان.

راضية العرفاوي وقصيدة (في المرآة هطول) عنوانها يسبح في ظواهر وعرة من سحر يحمل قوة المضمون، قصيدة نحتتها بأزميل نحاة بارع نحت تمثاله على صخرة تركت عند حافة طريق زلق، راضية تخاطب في قصيدتها ضمير ساكن داخل ضميرها، احتوته بكل ما يمكن من قوة، انها تخاطب ذلك الساكنها، معتمدة القيمة الفنية في صياغة الصورة الجمالية  شكلا ومعنى، خالقة وظيفة الامتناع في لغتها الشعرية، الممتزجة بخيال واسع الشفافية، دقتها في التعبير الذاتي يرتكز في (الضوء) مفردة لها هالة خاصة في التقديم والتأخير حين يغمرها شعور الكتابة، (كالضوء ينحت/ كالضوء يمضي/ كالضوء اسرج) وهكذا نرى الساكن داخلها ضوء منه تستجيب له كل غياباتها، ومنه تستحضر لوجودها، لدى استجلابها الضوء من المرآة وسرجه بالهطول، حيث تقول:

كالضوء ينحتُ   

في مريا الوقتِ

ذكرى في المدى

ويسرج الصمت الشريد

كآخر الليل المخيم في البياض

وفي الصراخ المستتر.

        .   .   . 

كالضوء أسرج غمرةَ الرؤيَا 

وراقب صورة المطر الصموتِ بعينيها

        .   .   .

كالضوء ينتحب الصدى 

كما يجيء الطيف من مرآة سر " لا يذاع"

راضية تتخذ من حرية العبارة التي تتقمص منها تعابيرها، كخط سير جديد للشعر الذي اصبح في عصر ما بعد قرن العشرين لا تمثل الرمزية غاية الشاعر في تقديم مفاهيمه الفكرية، لذا اعتمدت ان يكون رمزها الجمالي نابع من جوانحها الداخلية، لإمتلاكها وعي خاص بادواته الحسية، تستبطن من خبرتها ومن عناصر الرغبة التي تملكها كأمراة لها توازنها الفعال في الحياة، وتقول:

فتساوت الاشياء بين الضفتَّين

بريق ضوء خافتٍ

كلُّ الشجن

ملقى على صدر الزجاج.

عبثاً ارى ..

عبثاً أرىما لم يرى في الحلم

لون نبوءةٍ

بالمستحيل مطعمة

الشاعرة راضية العرفاوي، اهتمامها ينطوي على تثمين الجمال، وانبعاث وعي صادق يمتلك هوية الانغماس في عموم الحياة واندماج العواطف ، وهي تبث خبرتها التاملية في الانسجام المتنوع، جوهره الضوء النابع من داخل الانسان، والمشع في عالم النور والاخلاق، بقولها:

بالياسمين وجدتني امشي لا أنتهي.

وأنا كبحر أنشر الموج الشفيف.

مثل القصائد ارسمك.

مثل الصدى استجمعك.

مثل الندى استمطرك.

مثل البنفسج أعبرك.

راضية تحمل دهشة البياض الفضي،" الضوء " وترسل من حولها معرفتها كامرأة تعلم جيداً ما معنى انها انثى لها سر الحضور المميز في أمثولة الحياة، امرأة تمتلك القوة الكامنة في داخل داخلها، عندما تستنهضها ليصبح كيان الانثى كالضوء في وضح النهار، الشاعرة راضية العرفاوي تجد ان المرأة قوتها تكمن في سر هذا الضوء الذي هو جزء منها وهي كله .لذا هي لم تتوانة في تسليط الضوء على المرأ ة والكم الهائل الذي تشع منها كالحنان والقدرة على التحمل والصبر والعاطفة.

وقصيدة الشاعر حميد عبد الوهاب (سفري في الرحيق) للمساتها ضجة ممتعة، كصرخة مسرحي بارع في افراغ عباراته الشعرية في جو لا فراغ فيه أو مهجور، بل كان كالإعصار جعل للشمس شفاه تتلمظ بوجود المرأة ووجودها المشع، بهذه القصيدة استأثر بروح اللغة، في القصيدة خاطب الحداثة والعالم والمرأة دون تمييز، ليحطم قصور الماضي تجاهها، ليس بنزعة التمرد أو الضائع، بل بطرقة الاستقراء للواقع ولا سيما الظواهر منها في آتون اللحظة واتأثيرها، فالمرأة في نظره أقدر مخلوق على التحمل، ما برح يرسمها فوق مشاعل الحياة، في نظرهِ هي ابوق المشتعل في قلب الزمن الممتد الى ما لا نهاية، أحياناً بنظرها صرخات واطئة من قلب يحمل العمق في استخراج الألم ومجزه بفضاءات لوحات بيضاء، دلالة على النقاء، مثلاً نجده يقول:

الينابيع قربك

ضمي يديك الى يديا

تعالي نؤسس حلماً نقيا

وليس نقيا

سفري انتِ في الرحيق

يا زهرة تدمن اعلان الذبول

تريدين عاشقاً مفاوضاً

وأنا عاشق فحسب

حميد عبد الوهاب، حمل حمر الابداع وفاض على رموزه، استحصل من مشعل العشق ذاتيته، بقوله " وأنا عاشق فحسب " لم يدع سلام التواصل بينه وبين المرأة العالقة أو اثرها الغائب، انما تطرق بذكاء الى جوهر التفاعل الانساني، حيث قال:

ارفض أن أعلق

كتميمة

تكافحين بها حزنك الطويل 

أفكر كم أنتِ دافئة

ذائقة الشاعر حميد عالية الوعي بعلاقة الحب، مجتهد في خلق بناء ثابت يقدمه بهدوء على مقاعد التفاوض والانتظار في لجظة التفاعل الانساني، يعلم أنَّ خفقة الحب عند الرجل لا تقل شأناً عند المرأة، وانها تستاثر بها ولها قوة وانسجام في داخلها، لكن واقعها هو ما ياخذها الى منحنى مختلف، قد يحولها لرمان ان لم تعلم هي كيف تتلبس هذا الحس وتبعده عن السقوط في هاوية مجتمع يملك موروث غامق في توارده عبر الزمن، وان ابتعدت المرأة عن تجاهل موقعها من الصرف، لتمكنت من التحكم بعاطفتها الرائعة، حيث يقول:

والكلمات الباردة فاهمليها

واقبليني لديك سجيناً

يجيد جمع اللغات التي

لا حروف لها

مللت انتظار وصولك

ظلَّ تراتيلي

وسيرك ظل بطيئاً

هل ما زلت بعيداً عن قلبك

مسافة ما يراودني من قلق                   

حميد عبد الوهاب، احتوت صوره الشعرية لمسات الجمال، بمساحاتها الدلالية المتالقة، كأنه يقول لا فراغ في هذا العالم، مادمنا موجودين على واقعهِ، طريقته في ابوح لها مذاق خاص، واضعاً على مساطب الادب وما حولها من خمائل عناقيد الرقة والشغف المثير في مدن عوالمها الالفة، ناسجا من خيوط افكاره الخلاقة، كل جديد في عالم الشعر الوجداني، مدنه أسوارها قائمة من المشاعر الصادقة، للتفاعل الذي ينسجه في مضمون القصيدة، انه يطل من شبابيك الحب المضيئة، ذاكرته المرهفة غنية بالأحاسيس الجياشة تجاه المرأة، كقوله:

لن يكون جميلاً

فلا تعزفي لحن غيابك

في الذكرى

الينابيع قربك

والكلمات باردة

والعيون تنام .

اما القصيدة الاخرى (ظلك في المنفى) تتسم بنوع من الصخب الحزين، النابع من الامل بحياة جديدة يود عيشها بشكل مختلف، على نحوٍ من ظلال معترك الواقع، ونكتشف ذلك من العنوان (ظلك في المنفى) "الظل" انعكاس لشيءٍ ما، " المنفى " أيضا انعكاس لحالةٍ ما، وجمع المفردتين دلالة على رغبة في هندسة ظرف مغاير، قد يكون نوع من التجريب، يقدمها الشاعر حميد عبد الوهاب، ربما رغبة في التمييز يود ان يقودها كحلم، والقصيدة بمجملها لها هاجس الرؤية الخافلة بسحر الخوف والقلق اللذيذ، الذي احيانا يُكَوِنْ رغبة لا يود لها الزوال، كقوله:

وأنا ابصر صمت المرأة

منكسراً، كنت وحيداً

يتناسل في قلبي وجع الساعات

ابصرت على المرآة سريري

وامرأة تنتظر حضوري

امرأة عيناها تتسعان لحزني

ذاكرة لم تخدشها فوضى الاسماء

رائع..

 الحيرة تخلق في غفلة من القدر على عرش الرغبة الداكنة بكل أطيافها، ثم تكبر كزنايق، اغتضت سيقانها من شهب تساقطت بعيداً عنها، الشاعر حميد اتجاهاته شمولية في خلق الفكرة السارية في طحن العالق بالحياة، يتلمسه كصياد ويدقق في قوافل حقيقتها خافية عنه، ثم ينطلق بارتخاء بارد نحو مفردات دلالالتها في الظاهر منها خارج حيز الرمزية كالشاعرة راضية العرفاوي، لكن مفرداته هاضمة نافذة عن فطرة الابداع المخزونة داخله، مما تجعله قادر على صياغة نظمه بدقة حيث يقول:

نرسم سنبلة عاشقة

بيتنا أجمل من هذا البيت.. وأنقى

وسماء وردية

نمنح قلبينا

أو يمنحنا الوهم

جناحين هدية

ظلك في المنفى كان معي

ولذلك تسري في قلبي

عدوى الحب

ماكرة عبارته الشعرية، يقدمها على طبق عامر بما لذ من جدل، أنه ينتقد الطبق الفارغ في الاصل، يروض هذيانات الواقع في صوره الشعرية، والمرأة والرمز الثابت لكل حالات الحزن والاحلام المفقودة، كما ذكر في القصيدة:

وعدوى الأحلام المفقودة

لا يتسع الوقت غموضك

... قولي

هل أذن أنت

مطلق أخيلتي؟ 

الشاعرة راضية والشاعر حميد، صاغا من مفردات اللغة نفسها مضامين شعرية مختلفة في الظاهر، مع انها في الصميم الشعري هي تتحدث عن نفسها وعن الآخر بنفس القصد، البوح له صياغته لدى المرأة ولدى الرجل، أما المعاناة خارجة من فكر يحاول ان يكون الانسان، وتحمل الوجع نفسه في الصورة المتطرق لها الشاعر، راضية تلقي بهمهمتها في جعبة الآخر، مع انها تفهم جيداً هي محاطة بما يحطم سعادتها، وتمل على الانفكاك من خصال لحقت بها كأنثى، الشاعر حميد عبد الوهاب يريد لملمة ما تكسر من جرار التوافق بينه وبين الانثى، جمع شظايا الهلاك اللاحق بهما مشيراً الى دائرة الألم المحيط بهما الشاعر دائما يبحث فيما يكسر القيود ويبحث في مقدرة الفرد في وجود طريق للخلاص ان هو حاول التخلص من الخوف، ان كان امرأة او رجل، واشير الى ان الشاعرة راضية العرفاوي حملت قصيدتها مفردات شفيفة، والشاعر جميد عبد الوهاب استعمل لغة السهل الممتنع.

 

              الكاتبة / ناقدة من العراق/ الموصل

 

 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2266 الأثنين 05 / 11 / 2012)

في المثقف اليوم