قضايا وآراء

السلطة على النقد .. اللفظ والمعنى (2)

 تمييزه (أي الآمدي) بعد أن اختلطت علينا استعاراتنا بالاستعارات المستمدة من الخيال الأجنبي حتى ألفنا هذا الخليط العجيب، وربما لم يكن من الجفاء أن أصرح باني لم أقف مرة عند قول زهير (وعري أفراس الصبا) إلا وجدت فيه من الغرابة ما يعمي عليَّ وجه تصوره، وان لا أجد فرقاً بين تصوير الشتاء (مشخصاً) ذا أخدعين وبين قول ذي الرمة (تيممن يافوخ الدجى فصدعنه)"(68).

وقد تأثر بعمود الشعر بعض نقادنا المحدثين في نقدهم فأعادوا إليه سلطته؛ ففي (حديث الأربعاء)، كرر طه حسين الآمدي في نقده شعر الرومانسي المجدد علي محمود طه المهندس، متهما إياه بالغلو في الخيال حد التورط بما تورط به أبو تمام، لأنه جسم الليل حتى جعل له أوصالا وعروقاً وأجرى في هذه العروق دما(69).

وهذا يشي بان الجهود النقدية التي منها عمود الشعر كان الجزء الأعظم منها لعرقلة الشعر الجديد وتسييد القديم، والقليل المتبقي لصالح العملية النقدية. وفي ظل هذه الأحكام والنقود كان يولد سفاحاً شعر كل قيمته انه يحاكي الشعر الجاهلي فيكتسب الشرعية والقبول من الناس والنقد، حيث يلجأ صغار الشعراء الذين لم يستطيعوا مجاراة الفحول أو كتابة شعر حقيقي إلى استنساخ طريقة الشعر الجاهلي، وقد كثر هذا الشعر وكثرت أسماء شعراء ليسوا شعراء في مقياس الشعرية، بل هم نظامون. وبهذا كان فرض الشعر الجاهلي سببا في إنتاج اللاشعر واللاشعرية وأطنان من الخواء والعبث.

 

الكذب والغلو والتخييل:

جرى الشعر الجاهلي متوازياً مع واقعيته فكان صادقاً مصراً على تفاصيل صدقه، إلا أن الشاعر وهو الممارس لطبيعة الشعر يدرك أن الواقعية الصارخة لا تجعله يرتفع عن لغته اليومية، فلابد للشعر إذن أن يحلق بجناح، وعلى هذا الأساس تميز شعراء بعينهم وعدوا فحولا ونفترض أن هناك أطنانا من المحاولات اللاشعرية دفنتها صحراء الجاهلية، وكان امرؤ القيس على وعي فني عال حين قال:

تنورتها من اذرعات وأهلها            بيثرب أدنى دارها نظر عالِ(70)

فان جمالية هذا البيت البسيط المعنى تكمن في خياله الجميل فالشاعر تأمل حبيبته وهو في اذرعات (بالشام) وهي في يثرب (بالجزيرة). ولكن لأنهم أرادوا تجريد الشعر من الخيال عدوه كذباً أو إغراقاً(71).. ومثله قول مهلهل بن ربيعة:

فلولا الريح اسمع من بهجرٍ            صليل البيض تقرع بالذكورِ

فقالوا:" انه اكذب بيت قالته العرب"(72)، وبهذه الوصمة وصموا أشعارا جاهلية وعت ماهية الشعر ولابد أنها نالت استحسان معاصريها. ونفهم من قول ابن قتيبة في كلامه على النابغة " إن العلماء اخذوا عليه جملة أمور"(73) إن لفظة (العلماء) لا يقصد بها أهل زمانه، بل علماء الشعر العباسيين المتشددين وقد اخذوا هذه المآخذ على الأبيات الجاهلية التي تناظر ما جاء به الشعر العباسي المجدد فهي تضر بنظرياتهم المفروضة وتتقاطع معها. وأشاعوا مصطلح الصدق؛ (أحسن الشعر أصدقه) واحتجوا له بقولهم " لان تجويد قائله فيه مع كونه في إسار الصدق يدل على الاقتدار والحذق"(74). ولكن الذائقة اكتشفت أن الشعر (الكاذب) أصدق فناً فقالوا (أحسن الشعر أكذبه).

وذهب فريق ثالث إلى أن (أحسن الشعر اقصده)، وهو حل وسط. واختار قدامة بن جعفر (الغلو)، واستعمله مصطلحاً في كتابه (نقد الشعر) " إني رأيتُ الناس مختلفين في مذهبين من مذاهب الشعر وهما (الغلو) في المعنى إذا شرع فيه، و(الاقتصار) على الحد الأوسط فيما يقال منه"(75) و" إن الغلو عندي أجود المذهبين، وهو ما ذهب إليه أهل الفهم بالشعر والشعراء قديماً.. وكذا نرى فلاسفة اليونانيين في الشعر"(76). ويدل تساهله معه على كثرة هذا الشعر في العصر العباسي، إلا انه لم يطلق الشعر من عقاله فألقيت التبعة على شعر كثير جميل محقق لشعرية الشعر، كقول ابي نواس:

يا امين الله عش ابداً           دم على الايام والزمنِ

فعلق عليه بقوله:" إن هذا وما أشبهه ليس غلواً ولا إفراطاً، بل خروجاً عن حد (الممتنع) الذي لا يجوز أن يقع؛ لان الغلو إنما هو خروج ما نعت للشيء أن يكون عليه وليس خارجاً عن طباعه إلى ما لا يجوز أن يقع له.. وليس في طباع الإنسان أن يعيش ابداً؛ فانا كنا قدمنا أن مخارج الغلو إنما هي على (يكاد).. فلا يحسن على مذهب الدعاء أن يقال أمين (يكاد) يعيش ابداً"(77). وقد سمى قدامة ما يخرج عن الغلو (الممتنع) .

ويرجع دفاع قدامة الجزئي لميله إلى الثقافة اليونانية؛ فأرسطو يرى الشعر كله قائما على التخييل لأنه خلق عوالم متوهمة، غير أن قدامة تابع المحافظين كثيرا وشواهده كلها جاهلية وأموية أما إذا ذكر شاهدا عباسياً فللحاجة وفي الندرة..

وللأسف إن العصر العباسي ضيق الخناق على الشعر كي ينطلق في سماوات الإبداع الرحبة ؛ فكثير من (الممتنع)  نجده في أشعار المحدثين كقول المتنبي:

ولو قلم ألقيت في شق رأسه   من السقم ما غيرت من خط كاتبِ(78)

وأكد ابن رشيق تلك الحقيقة بقوله:" وزعموا أن الذي كثر هذا الباب أبو تمام وتبعه الناس بعده.. فإذا صرت إلى أبي الطيب صرت إلى أكثر الناس غلواً وأبعدهم فيه همة حتى لو قدر ما أخلى منه بيتاً واحداً"(79).

وقد رد ابن خفاجة ذلك إلى ضيق عطن النقاد ونقل المصطلح من الكذب والغلو إلى التخييل فوضعه موضعه الصحيح، وهذا طبيعي من شاعر أندلسي لم يبتل بالعقد العباسية.

وقد كان ابن خفاجة يرى أن الشعر يقصد فيه التخييل وليس القصد فيه الصدق، ولا يعاب فيه الكذب"(80). وألقى اللوم على النقاد الذين وصفهم مساليخ أنعام، يراؤون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا. وهم الذين اقتصرا على مقياس واحد(81).

ولا يخفى أن النقد العباسي كان مجحفاً جداً لان الخيال جناح الشعر الذي به يطير، ولولاه لكان الشعر ،صادقا، لا يرقى على النثر كثيراً، وان النقد الحديث يرى "أن أهم ما يميز الشاعر عن غيره هو القدرة التخيلية"(82).

ولكن هذه السلطة بقيت تفعّل طيلة العصر العباسي وبعده؛ فهذه الأحكام نجدها عند النويري (القرن الثامن) في كتابه (نهاية الأرب) وقد توسع فيها فجعلها ثلاث درجات: (المبالغة أو الإفراط) فأعلى (الإغراق) فأعلى (الغلو)(83). بل هناك من يعتقدها حتى الآن فالأستاذ محمد مهدي الجواهري الذي جعل المتنبي قبلته وقدوته في الشعر وسعى إلى أن يكونه، كان لا يعجبه في المتنبي مبالغاته.

 

البديع

لم يكن البديع مجرد ظاهرة جديدة طارئة فرضت نفسها على الشعر وانتشرت انتشاراً أرعب المؤسسة المحافظة؛ ولا كان ظهوره مفاجئاً أو اعتباطياً ولو كان كذلك لبلغ حداً معينا، ثم تلاشى بعد ذلك، ولكن البديع الذي ظهر في شعر مسلم منحى واضحاً، وأصبح ظاهرة وسمة ودخل دنيا النقد بعد إعلان المدرسة التمامية إياه مذهباً، كان حدا فاصلا وإعلانا نهائياً عن غروب الشعر العربي الجاهلي بوصفه حضارة سلفية تمتعت بالظهور والاستعلاء منذ مائة وخمسين سنة بتحديد الجاحظ وحتى العصر العباسي.

بلا شك إن الاعتناء بالزخرف الخارجي يعني خواء المحتوى، أو هرم الحضارة، وبالفعل فان صدور كتاب البديع هو إحساس مرهف من شاعر لا يعدم أمثالها، بان الشعر بوصفه حضارة عربية قد هرم، وأصبح يبحث في الحضارات الأخرى. وقد حاول ابن المعتز جاهداً أن يجعل البديع منتمياً إلى الحضارة العربية دون جدوى؛ فانه زعم أن العرب الجاهليين عرفوا البديع وانه ورد في القرآن الكريم ومثل لما قاله(84). إلا انه لم يستطع أن يخفي حقيقة الرفض الذي كان يكنه المحافظون لطريقة أبي تمام البديعية، كما أن كبار الشعراء الذين مثلوا مرآة عصرهم بحق، لم يستطيعوا أن يتجاهلوا البديع تماماً، لأنه أصبح واقعا حضارياً وليس مزاجاً شخصيا؛ فالبحتري في قصائده الحربية كان يقصده قصدا لحاجة القصيدة الحربية إلى هذه الآلية(85) لما يضفيه الجناس من جرس إيحائي يشترك مع اللفظ  والمعنى في رسم ملامح الأحداث وإبرازها من مثل قوله:

زرن بالدارعين ارض البقلا ر، فاجلوا في (صاغري) (صاغرينا)

همه في غد بتفليق هام         في قرى (العازرون) و (المازرونا)

غير وان في طاعة الله حتى  (يطمئن) الإسلام في (طمِّينا) (86)

فالجناس بين (صاغري) و(صاغرينا)، و(العازرون) و(المازرونا)، و(يطمئن) و (طمينا) واضح.

يؤكد (شبنـ?لر) في كتابه (تدهور الحضارة الغربية): أن الحضارة تنتقل من دور الشباب إلى الشيخوخة الذي تفقد معه الحضارة القدرة على العطاء فتترك مرحلة الخلق الحضاري وتدخل مرحلة الاستمتاع (المادي) والنظر (العقلي)(87).

وكان البديع مظهرا (مادياً) أراد به الشعراء بريقاً بديلاً من بريق اللفظ الجاهلي الأصيل، وماءً مرطباً لجفاف المعاني الحضارية (العقلية) الجديدة ولهذا نجد الشعراء يبحثون في الأمم المجاورة عن معان جديدة كقول أبي نواس متمثلا بقول أخذه من كسرى:

كقول كسرى فيما تمثله                 من فرص اللص ضجة السوقِ(88)

إن الصراع القرمزي بين المحافظين والمجددين في العصر العباسي، وهو أقسى درجات الصراع وأقصاها بين جيلين في عموم التاريخ الأدبي العربي، لا يؤخذ فقط من جانب معاداة التجديد من قبل المؤسسة المحافظة التي حافظت على قوتها ببقاء السلطة العباسية السياسية ثم انحسرت بعدها تدريجيا، أقول: إن المؤسسة المحافظة التي تبنت الصراع ضد المجددين كانت تخاف من المسخ وفقدان الهوية أيضا؛ فليس الاحتفاظ باللغة القومية ورموزها لغة للشعر يعني أن الشعر المكتوب لا يزال خالصاً لتراث العرب الحضاري؛ وقد وعى ذلك بروكلمان بقوله:" ومنذ أواخر القرن التاسع عشر الميلادي أخذت مؤثرات الثقافة الأوربية تباشر عملها باطراد في العالم الإسلامي، حتى غيرت الأدب العربي من أساسه في القرن العشرين"(89). ولم يفت بروكلمان أن يسمي الشعر العباسي الجديد (الأدب الإسلامي باللغة العربية) إشارة إلى انه لم يعد أدبا عربيا خالصاً وانه أدب لا يمت إلى الأدب الجاهلي المحافظ بصلة.

وقد بذلت هذه المؤسسة جهودا كثيفة لاستيعاب البديع الذي صار لابد منه، ولذا دخل، ابتداء من صدور كتاب البديع، العملية النقدية، وصار الشعراء في منأى عن النجاة من السقوط في حبائله، فالعتابي يقول بحق أبي نواس:" والله انه لشاعر، ولكن تمادى به حب البديع حتى اغرق فيه"(90) والمتنبي الذي كان يكره الجناس وينفر منه، نجده مغرماً بالطباق والمقابلة.

 وكلما ازداد الخواء ازداد البديع حتى إذا وصلنا نهاية العصر العباسي وتجاوزناه إلى العصر الوسيط، وجدنا البديع عماد الأدب، بل انه في قصائد كثيرة كانت الشعرية تخلي المكان بالكامل لهذا الصخب الخاوي.

 

الاختيارات:

إذا كان العصر الأموي شهد رجحان كفة الشاعر على اللغوي فكان على الأول أن يقول وعلى الثاني أن يتأول لإرضائه، ففي هذا العصر تلاعب علماء اللغة بمقدرات الشعر والشعراء كونهم مقربين من السلطة لأنهم وزراؤها وكتابها مما أعطاهم القدرة على فرض سلطة آرائهم؛ يتضح هذا من قول الفراهيدي لابن مناذر: "انتم معشر الشعراء تبع لي وأنا سكان السفينة إن قرظتكم ورضيت قولكم نفقتم وإلا كسدتم"(91).

وقد بادر العلماء المحافظون بوضع (الاختيارات الشعرية) ليكون الشعر الجاهلي الأساس الذي يسير على خطاه الشعر العباسي، وذلك بإحيائهم الشعر الجاهلي من الرماد ، فمثل هذا الجهد التأليفي الجهد الأخر المبذول مع الجهد النقدي وما حام حوله. وقد بذلت في سبيل ذلك أموال طائلة للرواة لتسجيله وتعديله أو وضعه إن تطلب الأمر؛ فقد اخبر حماد الراوية عن الضبي صاحب الاختيارات المعروفة بالمفضليات بأنه افسد الشعر افساداً لا يصلح بعده أبداً(92)، وبدوره كذب حماد في رواياته إلى درجة أن المهدي أعلن في الناس انه يبطل رواية حماد(93)، وكذا الحال مع الرواة الآخرين فالجاحظ في كتابيه (البيان والتبيين) و(الحيوان) وضع الكثير على الشعر الجاهلي في رده على الشعوبيين(94)، وخلف الأحمر وأبو عمرو بن العلاء، زعيما الكوفة والبصرة، كلاهما كان مسرفاً على نفسه ليس له دين أو خلق ولا احتشام وسكير فاسق مستهتر بالخمر والفسق(95) ومتهم؛ فقد رددت المصادر أن خلفاً كتب لامية العرب ونسبها إلى الشنفرى وانه كان يقول الشعر وينحله المتقدمين(96)، ولكن الخطورة لا تكمن في الوضع مهما قيل في شأنه، وإنما تكمن في فرض سلطة هذا الشعر القديم على الشعر العباسي الجديد. 

اختار حماد المعلقات أو السموط، وجمع المفضل الضبي (المفضليات) وهي (128) قصيدة لـ(67) شاعراً، وجمع الأصمعي (الاصمعيات) وهي (72) قصيدة لـ(61) شاعراً، وجمع أبو زيد القرشي(جمهرة أشعار العرب) وهي في سبعة أقسام (المعلقات السبع، المجمهرات، المنتقيات، المذهبات، المراثي، المشوبات، الملحمات)، وجل هذه الأشعار المختارة جاهلية وللإسلاميين نصيب ضئيل فيها وبهذا وضع هؤلاء العلماء الأساس الذي سيبني عليه التالون في جعل الشعر الجاهلي المثال المحتذى والشرعية التي لا يجوز الخروج عليها. فكان همّ هؤلاء المختارين هو اشتمال اختياراتهم على غريب اللغة(97)، وبهذا كان الهدف لفظياً بالدرجة الأولى.

وهؤلاء العلماء معـروفون بسلطويتهم فالضبي جمع مختاراته للخليفة المهدي، والأصمعي لهارون الرشيد. وكان القرشي شخصية اقرب إلى الوهم منها إلى الحقيقة وكأن الجمهرة جمعت باسمه للتمويه ليكون هناك اسم غير معروف بقربه من السلطة. وليست تفرح اختيارات أخرى تظاهرت بعنايتها بالشعر الجديد كاختيار المبرد المسمى (الروضة في شعر المحدثين)، إذ انتصر للبحتري وأنكر طريقة أبي تمام، ومثلها اختياراته في كتابه (الكامل)، فقد أساء إلى الشعر المحدث لأنه كما قال ابن عبد ربه "لم يختر لكل شاعر إلا ابرد ما وجد له"(98).

وكان أبو تمام على وعي بما يؤسس هؤلاء، فكان بالمقابل له جهد آخر في التأليف؛ فهو لم يعمل كما عمل أولئك العلماء حين وضع اختياراته المعروفة بـ(الحماسة)، فلم يقصرها على الشعر القديم وإنما عمد إلى الشعر مطلقاً قديمه وحديثه فالمهم عنده هو فنية النماذج المختارة وشعريتها ، وقد كان أكثر وعياً لذوق عصره عندما تخلى عن القصيدة إلى المقطعات(99) وهذا جعل مختاراته أكثر سيرورة. وتبعت حماسته حماسات كثيرة أولها حماسة صاحبه البحتري واستمرت إلى زمن متأخر.

وقد اعترف المرزوقي بأهمية هذه الحماسة التي جاءت بمنظومة شعرية جديدة تجاوزت الشكل إلى المضمون فبحثت عن الشعر أينما كان ومتى كتب، بقوله:" وهذا الرجل لم يعمد من الشعراء إلى المشتهرين منهم دون الأغفال، ولا من الشعر إلى المتردد في الأفواه، المجيب لكل داع، فكان أمره أقرب، بل اعتسف في دواوين الشعراء جاهليِّهم، ومخضرمهم، وإسلاميِّهم، ومولدهم واختطف منها الأرواح دون الأشباح، واخترف الأثمار دون الأكمام"(100). وقوله أيضا:" إن أبا تمام كان يختار ما يختار لجودته لا غير"(101).

وكان رد المؤسسة العباسية عنيفاً على هذه الاختيارات فهي روّجت الشعر الجديد وجعلته في مصاف القديم، وهي اخترقت الاختيارات التي وضعوها لتصنيم الشعر الجاهلي، وكان ابن المعتز الخليفة والشاعر العباسي ألد الخصوم، وهو من الذين ناصبوا العداء المطلق للشعراء المجددين ولأبي تمام خاصة ولولا أن أبا تمام مدح آباءه العباسيين لسعى إلى تخميله ولم يدخله في كتابه (طبقات الشعراء العباسيين) كما فعل مع ابن الرومي.

والذي يقرأ استعراض ابن المعتز لشعر أبي تمام يحس بأنه يقرأ استعراض الصاحب بن عباد لشعر المتنبي؛ نفس الجمل المتحاملة، والتهكم وعدم الإنصاف وعدم ضبط النفس الذي يخرج كثيراً إلى اللاعلمية والتهجم المفضوح حد السخف كما في قوله: "ما أقبح مشيب الفؤاد... ما كان أجرأه على الأسماع في هذا وأمثاله…هذا معنى لم يسبقه أحد إلى الخطأ فيه…انظر كيف ضعف القول واضطرب قبحه الله"(102).

 وكان موقفه من الاختيارات أكثر تحاملا وابعد عن العلمية؛ فقد اتهمه بان الهدف من تلك الاختيارات هو سرقة أشعار الشعراء بعرضه جزءاً من شعرهم وإخفاء الجزء الأخرى ليرجع إليه كلما احتاج فيدسه في شعره " وكلما نظرت في الكتاب الذي ألفه في اختيار الأشعار وجدته قد طوى أكثر إحسان الشعراء، وإنما سرق بعض ذلك، فطوى ذكره وجعل بعضه عدة يرجع إليها في وقت حاجته، ورجاء أن يترك أهل المذاكرة أصول أشعارهم على وجوهها، ويقنعوا باختياره لهم، فتغبى عليهم سرقاته"(103).

على أن أبا تمام لم يلغِِ جهد أولئك العلماء، ولا ألغى متابعتهم؛ فالفت اختيارات مماثلة لاختياراتهم كما الفت اختيارات مماثلة لاختياراته فمثلت الاختيارات حلبة أخرى من حلبات الصراع بين القديم والجديد، ووشت بان العصر العباسي كان من أرقى عصور الشعر العربي وأغناها وما هذا الصراع الملتهب على محاور شتى إلا دليل على شعرية هذا العصر، وانه عملت فيه اتجاهات شعرية كثيرة أسهمت في نبوغه حتى لفت إليه أنظار المستشرقين الذين ما كانوا ليلتفتوا إلى الشعر العربي لو انه ظل جاهلياً متوارثاً.

 

................

الهوامش

 (1) اعترف ابن قتيبة بكثرة هذا الشعر الحسن اللفظ القليل المعنى (ينظر الشعر والشعراء، ج1، ص68).

(2) المفضليات، ص191.  

(3) حديث الأربعاء، ج1، ص158.

(4) ينظر العمدة، ج1، ص93.

(5) المعجم الوسيط، ص997.

(6) لسان العرب، ج3، ص438.

(7) شرح ديوان الحماسة، ج1، ص9.

(8) مثل ترجمة انطون ?الاند لألف ليلة وليلة، وفيتزجرالد لشعر عمر الخيام.

(9) ينظر العمدة،ج1، ص81.

(0 ) الحيوان، ج2، ص131.

(1 ) تاريخ الأدب العربي، ج2، ص148.

(2 ) ينظر وفيات الأعيان، ج6،ص 23.

(3 ) ينظر ضحى الإسلام، ص144..

(4 ) ينظر أخبار أبي تمام، ص14،15..

(5 ) شرح ديوان المتنبي،ج2، ص74.

(6 ) ديوان أبي تمام، ج2، ص388. وفيه (سهل) بدل (كهل) التي كررتها كتب النقد كالموازنة وغيرها.

(7 ) شرح ديوان المتنبي، ج2، ص120.(جاء في الشرح، قال المتنبي: لما قلتُ هذه القصيدة، وقلت: تفاوح، أخذ شعراء مصر هذه اللفظة فتداولوها بينهم).

(8 ) ديوان أبي نواس، ص8.

(9 ) المصدر نفسه، ص25.

(20) المصدر نفسه، ص398.

( 2) العمدة، ج1، ص132.

(22) الموازنة بين الطائيين، ج1، ص12.

(23) شرح المعلقات السبع، ص206.

(24) شرح ديوان المتنبي، ج4،ص386.

(25) الأغاني، ج3، ص170.

(26) أمالي المرتضى، ج1، ص518.

(27) العمدة، ج2، ص238.

(28) نقد الشعر، ص64.

(29) المصدر نفسه، ص66.

(30) شرح ديوان المتنبي، ج4، ص225، 226.

(31) دلائل الإعجاز، ص46.

(32) ديوان صفي الدين الحلي، 624، 625.

(33) ينظر الأسلوب والأسلوبية، ص49، 50.

(34) ديوان أبي تمام، ج1، ص217.

(35) ينظر الصبح المنبي، ص188-205.

(36) ينظر تاريخ النقد الأدبي، ص323.

(37) الموشح، ص94، 95.

(38) المصدر نفسه، ص167.

(39) المصدر نفسه، ص459.       

(40) العمدة، ج1، ص127.

(41) الموازنة، ج1، ص56.

(42) الصبح المنبي، ص190 ( المتن هامش).

(43) معجم مقاييس اللغة، ج4، ص138.

(44) المعجم الوسيط، ص626.

(45) شرح ديوان الحماسة،ج1،ص11.

(46) ينظر العمدة، ج1، ص141.

(47) ديوان البحتري،ج1، ص234.

(48) الموازنة، ج1، ص386

(49) ينظر شرح ديوان الحماسة،ج1،ص12.

(50) الموازنة، ج1،ص397.

(51) طبقات فحول الشعراء، ج1، 56.

(52) الحيوان، ج3، ص131.

(53) العمدة، ج1، ص56.

(54) ديوان أبي تمام، ج1، ص434.

(55) الموازنة، ص204،205.

(56) ديوان أبي تمام، ج1، ص389.

(57) الموازنة، ج1،ص199.

(58) المصدر نفسه، ج1، ص135.

(59) المصدر نفسه،ج1،ص134.

(60) شرح المعلقات السبع، ص82- 84.

(61) ديوان أبي تمام، ج1، ص254، 255.

(62)  ديوان المتنبي، ج3، ص110.

(63) دلائل الإعجاز، ص70.

(64) شرح ديوان الحماسة، ج1، ص11، 12.       

(65) الموازنة، ج1، ص249،250.

(66) ينظر أخبار أبي تمام، ص34 وما بعدها.

(67) الموازنة، ج1، ص250 وما بعدها.

(68) تاريخ النقد الأدبي عند العرب، ص169، 170.

(69) ينظر حديث الأربعاء، ج3، ص167.

(70)  ديوان امرئ القيس، ص105.

(71) ينظر نهاية الأرب في فنون الأدب، ج7، ص149.

(72) العمدة، ج2، ص62.

(73) الشعر والشعراء،ج1،ص168.

(74) شرح ديوان الحماسة، ج1،ص12.

(75) نقد الشعر، ص91

(76) المصدر نفسه، ص94.

(77)  المصدر نفسه، ص202.

(78) شرح ديوان المتنبي،ج1، ص276.

(79) العمدة، ج2، ص62.

(80) مقدمة ديوان ابن خفاجة، ص10-11.

(81) ينظر المصدر نفسه،ص11.

(82) مقالات في النقد الأدبي، ص18.

(83) ينظر نهاية الأرب، ج7، ص149.

(84) ينظر البديع، ص5 وما بعدها.

(85) ينظر المتنبي مؤرخاً، ص222.

(86) ديوان البحتري،ج1، ص160،161.

(87) ينظر في فلسفة الحضارة الإسلامية، ص201.

(88) ديوان أبي نواس، ص451.

(89) تاريخ الأدب العربي، ج1، ص37.

(90) الموشح، ص440.

(91)الأغاني، ج18، ص190.

(92) ينظر الأغاني، ج6، ص99.

(93) ينظر المصدر نفسه، ج6، ص100.

(94) ينظر في الأدب الجاهلي، ص167.

(95) ينظر المصدر نفسه،ص 169.

(96) ينظر الشعر والشعراء، ج2، ص778.

(97) ينظر تاريخ الأدب العربي، ج1، ص74.

(98) العقد الفريد، ج3، ص268.

(99) ينظر تاريخ الأدب العربي،ج1،ص77.

(100)  شرح ديوان الحماسة، ج1،ص14.

(101) نفسه، ج1،ص13.

(102) الموشح، ص472 وما بعدها.

(03 ) المصدر نفسه، ص478 .

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1208 الاحد 25/10/2009)

 

 

في المثقف اليوم