قضايا وآراء

السلطة على النقد .. اللفظ والمعنى

 اعتباطاً انك تطرب لهذا الشعر القليل الحظ من المعنى(1) فان اللفظ الجميل عوَّض ذلك النقص. فقصيدة سويد ابن أبي كاهل التي غالى الجاهليون بإطرائها وإعلائها والتي منها:

تمنح المرآة وجهاً واضحاً     مثل قرن الشمس في الصحو ارتفعْ

صافي اللون وطرفاً ساجياً    أكحل العينين ما فيه قمعْ

وقروناً سابغاً أطرافها                   غللتها ريح مسك ذي فنعْ(2)

لا تشعر بنفور من كلماتها الصعبة لانسجامها التام في البيت، وهذا الشعر "مألوف تحبه النفس وتستظرفه لسذاجته وجمال لفظه لا لشيء آخر"(3).

وقد اعترف ابن رشيق بان امرأ القيس والنابغة والأعشى وأضرابهم من فحول الجاهلية لم يتقدموا إلا بحلاوة الكلام وطلاوته وليس بمعانيهم(4). وأدى اعتماد الشاعر الجاهلي على اللفظ إلى وقوعه في أزمة هي (التكرار):

ما أرانا نقول إلا معاراً                  أو معاداً من لفظنا مكرورا

وقادهم البحث عن مخرج إلى ارتجال كلمات جديدة، أو التنويع والتوليد من مفردات سابقة وهو ما سمي لاحقاً (الترادف)؛ فالمهند ليس في الحقيقة اسماً للسيف بل صفة له وتعني السيف المصنوع في الهند(5). ثم اشتقوا منها (الهندي) و(الهندواني) ثم اشتقوا منهما فعلاً فقالوا هنـَّد السيف: أي شحذه. قال الأزهري: الأصل في التهنيد عمل الهند(6). واعتماد اللفظ أساساً للشعر جعلهم لا يهتمون بتكثيف العبارة؛ فامرؤ القيس استهلك بيتين ليشير إلى مكان الحبيبة فقط، وجعل عنتر معلقته تضج بالصفات، ولعل مبدأ بيت القصيد أو إيثار أبيات قليلة بالمعاني واعتماد الأبيات الأخرى على الديباجة وراء ذلك وهو ما أشار إليه ابن طباطبا: "هو إن عري من معنى بديع لم يعرَ من حسن ديباجة وما خالف ذلك فليس بشعر"(7).

وكان الجاحظ اكبر ناقد محافظ، يدرك أن الشعر الجاهلي باعتماده الألفاظ ومبدأ الفخامة والجزالة وافتقاره إلى المعاني السامية العميقة سيفقد نفسه في الترجمة، لهذا أزرى على الترجمة وجعلها قاتلة للنص لا محيية له كما اثبت واقع ترجمات إلى لغات أخرى(8)، لأنه يعلم مقدار الضرر الذي ستحيقه الترجمة بهذا الطراز من الشعر الذي جرد نفسه للدفاع عنه، فالأعشى حين مدح ملك العجم لم يحسن شعره عنده حين فسر له بل استهجنه واستخف به(9).

كان العصر العباسي الذي انفتح على الحضارات وترجمت إليه العلوم والآداب وخاصة الرومية والفارسية على موعد مع شعر جديد عميق كتفاصيل الحياة العباسية التي لا يستوعبها (اللفظ)، فكان عليه أن يشتغل على الجانب الأكثر استيعاباً لها وهو (المعنى). وهنا استيقظ القلق المزمن إزاء الفرس الذين كانوا على احتكاك ثقافي مباشر معهم.

وقد انتصر النقد العباسي المحافظ للفظ، أما المعاني فمطروحة في الطريق يعرفها العربي والعجمي(10)، بل إن الأصمعي كان يكره اختراع المعاني(11). وبهذا الأساس كان الشاعر بلفظه لا بمعناه فعدّ أبو تمام والمتنبي خطيبين أو حكيمين والشاعر البحتري(12) لاهتمام هذين بالمعاني واشتغال هذا على الألفاظ.

وكانت جهود المجددين في محاور كثيرة أولها: الغوص على معان بكر ذات عمق وهذا يتطلب ثقافة عريضة لذا برز (الشاعر المثقف) لتودع الساحة الأدبية نموذج (الشاعر الساذج) الذي يأخذ مادة شعره كلها مما حوله كشعراء الجاهلية؛ فالعتابي حين تثقف بالثقافة الفارسية أصبح أديبا ممتازاً غزير المعاني في شعره روح غير مألوف(13)، واشتغل أبو تمام على توليد المعاني حتى صار إماما فيها، ولشدة عمقها اختلف حتى أفذاذ العلماء كالمبرد وثعلب في تفسير شعره. وقد علل الصولي ذلك بان هؤلاء العلماء ذللت لهم أشعار الأوائل ففهموها، أما أشعار المولدين فلم يسبقهم من يذللها لهم فلم يفهموها وهو ما جرهم إلى معاداتها واتخاذ موقف سلبي منها(14). وليست تحصى معان مستغلقة مختلف فيها، كمعان للمتنبي لم يحسم تفسيرها إلى الآن مثل قوله:

أحاد أم سداس في أحادِ         لييلتنا المنوطة بالتنادِ(15)

 والمحور الثاني: توسيع معاني الألفاظ كلفظة (طائر كهل) لأبي تمام التي وقف عندها النقد طويلاً:

لقد طلعت في وجه مصر بوجهه      بلا طالع سعدٍ ولا طائر كهلِ(16)

أو إضفاء إيحاء معنوي عليها كلفظة (تفاوح) للمتنبي:

إذا سارت الاحداج فوق نباته  تفاوح مسك الغانيات ورنده(17)

أو جرس إيحائي كقول أبي نواس:

وحثحثت كأسها مقرطقة      لو منّي الحسن ما تعدّاها(18)

أو حكاية الصوت وهي طاقة معنوية أيضا وان كان فيها تضحية كريمة بالجزالة والفصاحة كقول أبي نواس:

وا بأبي ألثغ لاججته           فقال في غنج واخناثِ

لما رأى مني خلافا له         كم لقي الناث من الناثِ(19)

كما استعملوا الفاظاً أعجمية اهتماما منهم وتوجيها الى المعنى بالدرجة الأولى كاستعمال ابي نواس لفظة (دستبان) وتعني الصقر:

ولقد غدوت بدستبان معلم     صخب الجلاجل في الوظيف مسبّقِ(20)

وقيل عن ابن الرومي انه "يطلب المعنى ولا يبالي باللفظ حتى ولو تم له المعنى بلفظة نبطية لأتى بها"(21). وان المعركة العظيمة حول الطائيين كان الجزء الأكبر منها يخص اللفظ والمعنى؛ فالنقاد على أن البحتري يتفوق لفظاً على أبي تمام ولكنه لا يشق غبار أبي تمام في المعاني. وجعل البحتري المعاني في الكفة المقابلة لعمود الشعر بقوله:" كان أبو تمام أغوص على المعاني مني، وأنا أقوم بعمود الشعر منه"(22).

والمحور الثالث الذي اشتغلت عليه هذه المدرسة هو: استيفاء المعاني القديمة التي فيها فضلة إبداع لم تستغل أو تطوير المعاني أو قلبها على وجهات أخرى؛ فعالج أبو تمام معاني للنابغة، والمتنبي حاكى عنترة في الجمع بين الحماسة والغزل، ونظر في معانيه فقول عنترة:

جادت عليه كل بكر حرّة فتركن كل قرارة كالدرهمِ(23)

أخذه المتنبي وغير وجهته مضيفاً له روحاً حضارية بقوله:

وألقى الشرق منها في ثيابي   دنانيراً تفرُّ من البنانِ(24)

فحوَّل الصورة من دراهم جامدة على الأرض إلى دنانير تفر من البنان، ومن صورة الماء إلى صورة الضوء. وأبو نواس جارى معاني الأعشى، وهذا كثير صعب إحصاؤه.

وقد رد التجديديون بالمقابل على نقود المحافظين بنقدهم الخاص المنتصر للمعنى؛ قال سلم الخاسر لأبي العتاهية حين عابه بأنه استعمل ألفاظاً سوقية؛ والسوقية عند اللفظيين تقابل (الجزالة) التي نادوا بتطبيقها، بقوله:

نغّص الموت لذة كل عيشٍ   يا لقومي للموت ما أوحاه

" والله ما يرغبني فيها إلا الذي زهّدك فيها"(25). وجعل الشريف المرتضى الأهمية في الشعر للمعنى ولا قيمة للكم الخاوي منه معلقاً على شعر مروان بن أبي حفصة بقوله:" انه غزير الشعر لكنه قليل المعنى"(26).

وقد تقصى ابن رشيق القيرواني تأريخية اللفظ والمعنى حضارياً فوجد أن المعاني تكثر كلما تقدم العصر منذ مجيء الإسلام، وهو يشير إلى زمان حضاري يتطور صعوداً " وإذا تأملت هذا تبين لك ما في أشعار الصدر الأول الإسلاميين من الزيادات على معاني القدماء والمخضرمين، ثم ما في أشعار طبقة جرير والفرزدق وأصحابهما من التوليدات، والإبداعات العجيبة التي لم يقع مثلها للقدماء.. ثم أتى بشار بن برد وأصحابه فزاد معاني ما مرت قط بخاطر جاهلي ولا مخضرم ولا إسلامي والمعاني ابداً تتردد وتتولد، والكلام يفتح بعضه بعضاً"(27).          

وقد أشار النقاد إلى المعاني بشكل عام ولم يميزوا المعاني الشاعرية من غيرها، وكأن الميزة في ذلك للفظ وحده؛ فعابوا بعض الألفاظ لأنها تخل بالشاعرية كلفظة (بوزع) في شعر جرير. والذي يتأمل قول الجاحظ (المعاني مطروحة في الطريق) يجده لا يميز في المعنى شاعرياً كان أم غير شاعري ، وكذلك رأي قدامة وهو أكثر تحررا؛ وقد بدا ذلك ظاهرا في تعريفه الشعر (قول مقفى يدل على معنى) (28)، فهو لا يميز في المعنى ايضاً، ولذا قال:" وليس فحاشة المعنى في نفسه مما يزيل جودة الشعر فيه، كما لا يعيب جودة النجارة في الخشب مثلاً رداءته في ذاته"(29).

غير ان دعاة التجديد ميزوا في شعرية المعاني؛ فأشعار بشار بن برد ومسلم وأبي تمام والمتنبي اشتغلت على المعنى الشاعري الحضاري العميق. وتظهر هذه الفكرة بشكل جلي في قول المتنبي الذي جعل الشعر غير المشتغل على المعنى هذاءً ينتجه الخلط:

إن بعضاً من القريض هذاء   ليس شيئاً وبعضه أحكامُ

منه ما يجلب البراعة والفضل ومنه ما يجلب البرسامُ(30)

غير أن اشتغالهم على المعنى لا يعني اهمالهم جانب اللفظ، وان مسايرة أشعار العصور المتأخرة يبطل اتهام هؤلاء المجددين بالقصور اللفظي، لمجيء أشعارها شاحبة اللفظ باهتة المعنى، وليس ثمة رابط قوي بينهما، بعكس أشعار المولدين المتقدمين فأنت لا تستطيع أن تبدل ألفاظهم بألفاظ تظنها أكثر صواباً، لان الشعر سيختل حتماً.

وإن من نعتوا بالمولدين كبشار وأبي تمام والمتنبي كانوا أدرك للفظ واقدر على استعماله من سواهم اللفظيين المتفاصحين الذين ضاق بهم عبد القاهر الجرجاني لأنهم يتداولون ألفاظ القدماء وعباراتهم من غير أن يعرفوا لها معنى أصلا، وهم يرون أن حكم الوصف بالفصاحة لا يكون له مرجع إلى المعنى البتة، وان يكون وصفاً للفظ من حيث هو لفظ ونطق لسان ، وتكلم على فساد رأي الناس في اللفظ وإغفالهم المعنى مؤكداً " أن الألفاظ لا تتفاضل من حيث هي ألفاظ مجردة، ولا من حيث هي كلم مفردة، وان الفضيلة وخلافها في ملاءمة معنى اللفظة لمعنى التي تليها وما أشبه ذلك، مما لا تعلّق له بصريح اللفظ(31).

وقد استمرت أفكارهم واستمرت سلطة اللفظ تقيد إبداع الشاعر المتحضر إلى قرون متأخرة؛ وقد أعرب الصفي الحلي (ت750هـ/1349م) عن ضيقه بالسلطة التي تجبر الشاعر على استعمال ألفاظ ميتة لا تمت إلى عصره وكأنها ضريبة عليه دفعها، بعدما عابوا عليه قلة الغريب في شعره فقال:

إنما الحيزبون والدردبيسُ     والطخا والنقاحُ والعطلبيسُ

والسبنتى والحقص والهيقُ والهجـْ     ـرس والطرقسانُ والعسطوسُ

لغة تنفر المسامعُ منها                  حين تروى وتشمئزُّ النفوسُ

وقبيحٌ أن يذكر النافر الوحـ   ـشيّ منها ويترك المأنوسُ

أين قولي هذا كثيبٌ قديمٌ                ومقالي عقنقلٌ قدموسُ

خلِّ للأصمعيّ جوبًَ الفيافي            في نشافٍ تخفُّ فيه الرؤوسُ

درست تلكمُ اللغات وأمسى             مذهب الناس ما يقولُ الرئيسُ

إنما هذه القلوبُ حديدٌ          ولذيذ الألفاظ مغناطيسُ(32)

وهذه السلطة حرمت الشعر العربي من التطور السريع الذي حققته أمم مجاورة؛ فالفرس الذين أعادوا بناء أدبهم على خريطة الشعر العربي، ارتفعوا بأدبهم إلى قمم سامية فكتبوا ملحمتهم في القرن الخامس الهجري. ولا يلام صاحب كتاب (تراث الإسلام) كثيراً لاختياره ثلاثة شعراء فرس ليمثلوا تراث الإسلام الأدبي وهم: عمر الخيام، حافظ شيرازي، وسعدي شيرازي الذين نهلوا من علوم العرب وأفادوا من شعرائهم كثيرا، ولم يختر شاعرا عربيا واحداً متخطيا الفحول حقاً كابي تمام والمتنبي والمعري وغيرهم، والسبب هو اللفظية العربية التي تضيع في الترجمة وتجعلها شبه مستحيلة.

وبعد، فان الشعر العباسي المجدد كان مدركاً أهمية اللفظ بلا جمود وسجود لشكل واحد، وإنما آمن بالأسلوب فكان شعراً متنوعاً ومتطابقاً مع المذاهب الشعرية والنقدية الحديثة التي ترى الشعر بناء لفظياً يحدده أسلوب الشاعر، وبنفس الوقت أعطت المعنى الأولوية لأن الأفكار حقيقة مطلقة والكلمات ثوبها الطارئ(33). وصرح بدر شاكر السياب بان تجربته الشعرية مزيج من تجربة أبي تمام ومدام دي ستال، مشيرا إلى ما أضافه أبو تمام على مستوى الشعرية.

 

السرقات الشعرية:

وكان من إفرازات الصراع بين اللفظ والمعنى، أن فتح باب السرقات الشعرية على مصاريعه، وقد توسعت حتى أصبحت نظرية والفت فيها الكتب، وكان أبو تمام يحدد نمطين لها؛ الأول: جائز وهو أن يظهره الشاعر ويطبعه بطابعه، والثاني: غير جائز وهو أن يتستر عليه وينقله بلا إضافة، بقوله:

منزهة عن السرق المورى   مكرمة عن المعنى المعادِ(34)

وزخرت كتب كثيرة مثل (حلية المحاضرة) و (الموازنة) بالسرقات وأنواعها، وأوصلها البديعي في (الصبح المنبي) إلى خمسة عشر ضرباً بين محمود ومذموم(35).

والحق إن السرقات آفة الشعر (المعنوي)، وقد استعملت سلاحا لإسقاط الشعراء المجددين. والعجيب أن النقاد المحافظين لم يذكروا للجاهليين سرقات؛ فطرفة نقل بيتاً من معلقة امرئ القيس نقلا كاملا عدا تبديله (تجمل) بـ(تجلد)، وتشابه زهير مع عنترة في التوهم بدار الحبيبة في معلقتيهما، ولكن لاشتغال الشعر الجاهلي على (الألفاظ) بالدرجة الأولى فان العلماء تجاوزوا السرقات فيه لأنهم لم يعدوا التشابه في الألفاظ سرقة(36). والاشتراك بين شعرائهم لا حد له، بل قد يقول شاعر صدر البيت فيكمل له الآخر العجز فيحسب الشعر له ولا يعد في السرق! ولم يعدوا تعاور المعاني بين الأوائل من السرق أيضا وهو أصل فكرة السرقات التي الصقوها بالمحدثين، وكلهم يروي أن بيت الشماخ:

إذا بلغتني وحملت رحلي               عرابة فاشرقي بدم الوتينِ

مأخوذ من حديث الأنصارية مع الرسول (ص)، وتعاوره عبد الله بن رواحة وذو الرمة(37) ولكن لم يتهموا بالسرقة. بل انهم غضوا الطرف عن سرقات الفرزدق العلنية التي يتندر بها، وكان الأصمعي يقول:" تسعة أعشار شعر الفرزدق سرقة"(38) إلا أن كتب السرقات تجعل السارق عباسياً فقط.

والحق إن المدرسة الجديدة أحيت المعاني القديمة وبثت فيها روحا جديدا، واستوفت ما لم يستوفه أصحابها. فأعيد نخل الأشعار وأعيدت صياغتها فضلا عن توليد المعاني الجديدة. وإذا غلا أهل السرقات بإسقاط الشعراء المجددين، فبالمقابل وضع هؤلاء قوانين صارمة تبيح للشاعر المعاني إذا أجاد التصرف فيها قال الصولي:" وشعر أبي تمام أجود مبتدأ ومتبعاً، وهو أحق بالمعنى"(39).

والسبب في ذلك أن هؤلاء المحافظين يرفضون أن يكون توليد المعاني أساسا في الشعر لأنه بدعة عباسية فالشعر العربي يكون إبداعه الحقيقي في ألفاظه وجزالتها وذلك مذهب العرب فكان هو المعيار" فاللفظ أغلى من المعنى ثمناً، وأعظم قيمة، واعز مطلباً فان المعاني موجودة في طباع الناس يستوي الجاهل فيها والحاذق ولكن العمل على جودة الألفاظ وحسن السبك وصحة التأليف "(40).

وقد مارس أصحاب السرقات دكتاتورية فريدة من نوعها في تاريخ آداب الشعوب فقرروا وحدهم وعلى رغم انف الشعراء والمتلقين إن هذا أخذ من ذلك، وان ذا اخذ من ذاك حتى أتوا بالمفضوح في أحيان كثيرة؛ كاتهام العميدي للمتنبي بالسرقة من بديع الزمان الهمذاني الذي ولد بعد موت المتنبي بأربع سنوات. وجعل الآمدي قول أبي تمام:

السيف أصدق أنباء من الكتبِ                   في حدّه الحدّ بين الجد واللعبِ

مسروقاً من قول الكميت بن ثعلبة (الأكبر):

فلا تكثروا فيه اللجاج فانه     محا السيف ما قال ابن دارة اجمعا(41)

ولم يفرض هؤلاء سلطتهم على ذائقة جيلهم حسب، بل فرضوها إلى الآن؛ فقد وقف محققو (الصبح المنبي) حائرين أمام جعل البديعي قول المتنبي:

وإذا أتتك مذمتي من ناقصٍ             فهي الشهادة لي باني كاملُ

مسروقاً من قول الطرماح بن حكيم:

لقد زادني حباً لنفسي أنني              بغيض إلى كل امرئ غير طائلِ

لما وجدوه من استحالة الشبه، ولكنهم اتهموا أنفسهم بدل اتهام البديعي بقولهم " ومعرفة أن بيت المتنبي أصله من معنى الحماسي أمر عسير غامض لا يتبين إلا لمن مارس الأشعار وغاص في استخراج المعاني"(42).

 

عمود الشعر.. صراع القديم والحديث:

استعار الآمدي لفظة (العمود) من الخيمة، وهي في القاموس قوام الشيء الذي لا يستقيم إلا به(43)؛ فالشعر اذاً لا يستقيم إلا بعموده الذي اقترحه والمراد به طريقة العرب الموروثة(44). وبهذا فان نظرية عمود الشعر حصرت الإبداع بأمة العرب وبزمن محدد من أزمانهم، وهذه اكبر عيوبها لأنها تجاهلت أن الأدب يتجدد ولا يجمد على حالة وانه إنساني غير مختص بأمة دون أخرى.

على أن النظرية لم تظل مخلصة للعرب، فقد اكتسبت تطوراً جعلها تتسامح تنازلياً، كما فسِّرت تفسيرات مختلفة جعلها انفعالية متناقضة حتى انتهت إلى مقياس ينتصر للقديم حسب، فأبو تمام الخارج عن عمود الآمدي أصبح مع العمود عندما ظهر المتنبي، الذي أصبح بدوره خارجه، ثم بـ(وساطة) الجرجاني تضمنه العمود، وقد أضاف إليه (كثرة الأمثال السائرة والأبيات الشاردة) لتميز المتنبي بها.

ويخبرنا المرزوقي بتمسك جيله بالعمود (الخامس الهجري) "وهذا إجماع مأخوذ به ومتبع نهجه حتى الآن"(45). وهذا يعني أن المؤسسة الثقافية المحافظة والذائقة الجمعية ظلت مهيمنة على المشهد الشعري حتى بعد ضعف المؤسسة السياسية.

اذاً فرض (العمود) سلطته طيلة العصر العباسي، بل وبعده؛ فنحن إلى اليوم نقول (قصيدة عمودية) إشارة إلى أنها  كلاسيكية على طريقة العرب، كما إننا لم نختلف مع العموديين في التسامح التنازلي حين ندخل في العمود كل قصيدة ذات شطرين!

والآمدي إذ يقيم موازنته بين اثنين زعماً أن أحدهم – البحتري- يمثل عمود الشعر، والآخر – أبا تمام- يمثل الشعر الجديد المختلف؛ لن يقنعنا بوجود خط حاسم يفصل بين الطريقتين ومن عليهما؛ فأبو تمام أولى الناس بمذاهب العرب(46)، وشعره قوي الوشائج بالشعر القديم ولا ذنب عليه إذا لم يفهم الحاسدون ما يقال، وإننا نجد في كل فكرة طرحها أصولا قديمة. والبحتري برغم مشايعته أسلوب القدماء، وقيامه بجهد الآمدي نفسه شعراً عندما هاجم أصحاب المعاني الفلسفية محتجاً بان الجاهليين أمثال امرئ القيس لم يتناولوها وكأنهم الإمام الواجب إتباعه في ذلك بقوله:

كلفتمونا حدود منطقكم         والشعر يلغى عن صدقه كذبه

ولم يكن ذو القروح يلهج بالـ ـمنطق ما نوعه وما سببه(47)

لم يفلت شعره من المذهب الجديد، ولم يختلف عن أبي تمام إلا انه كان اقل قدرة على كتابة الشعر الجديد والانصهار فيه فناصر القديم، وهذه حال الشعر بكل أجياله؛ جيل يجدد وجيل لا يستطيع مجاراته فيتمسك بالقديم، وإذا حاول، وسيحاول، فسيكون نجاحه بقدر، وهو حال البحتري. وقد أكد هذه الحقيقة الآمدي نفسه الذي سمى التجديد عيباً " وما رأيتُ شيئاً مما عيب به أبو تمام إلا وجدتُ في شعر البحتري مثله، إلا انه في شعر أبي تمام كثير وفي شعر البحتري قليل"(48).وكان المرزوقي أدرك من الآخرين لهذه الحقيقة حين أعلن أن الشاعر قد يكون مع العمود بكل شعره، وقد يكون معه في بعضه، أي أن شعر الشاعر متفاوت في الانتماء إلى العمود؛ فأدرج الشعراء كلهم في العمود قصد أم لم يقصد(49).

ولكن ما هو عمود الشعر؟ جزء منه يخص الألفاظ والمعاني( حلاوة الألفاظ)(صحة المعاني)(الطبع والتكلف)، وجزء يخص البديع (التجنيس والمطابقة)، وجزء يخص الاستعارة وهذه تتعلق بالأسلوبية والشعرية، وجزء يخص الموضوعات القديمة؛ وقد استهلك الآمدي نهاية الجزء الأول من كتابه وعامة الجزء الثاني في مقابلة شعر الشاعرين فيها وكلاهما كان ملتزماً بالموضوعات القديمة.

 يشرح الآمدي غرضه من العمود بهذا النص " وليس الشعر عند أهل العلم به إلا حسن المأتى، وقرب المأخذ، واختيار الكلام، ووضع الألفاظ في مواضعها، وان يورد المعنى باللفظ المعتاد فيه، المستعمل في مثله، وان تكون الاستعارات والتمثيلات لائقة بما استعيرت له وغير منافرة لمعناه"(50). فالآمدي ينتصر في هذا النص للفظ انتصار الجاهليين له، فرفض أن يكون توليد المعاني أساساً وهو مع الفكرة الجاهلية التي ترى أن الشعر يحتاج إلى البناء والعروض والقوافي(51)، ومثله رأي الجاحظ بان المعول عليه في الشعر " إقامة الوزن وتخير اللفظ وسهولة المخرج وكثرة الماء وصحة الطبع وجودة السبك"(52) أي دون الاهتمام الجاد بالمعاني، وعلى هذا الأساس قدموا النابغة لأنه "أحسنهم ديباجة شعر، وأكثرهم رونق كلام، وأجزلهم بيتاً، كأن شعره كلام ليس فيه تكلف"(53).

      ومصطلحا (الطبع) و (التكلف) يتبعان اللفظ والمعنى؛ فالذي ينقر على المعنى متكلف، والذي يعتمد على الألفاظ فقط بلا إزعاج الغوص على المعاني، مطبوع. وجزالة الألفاظ التي هللوا وكبروا لها عابوا بها كثيراً من شعر المولدين.

ويقصد بـ(وضع الألفاظ في مواضعها) ما اعتاده الجاهليون من استعمال الألفاظ وإلا فهو مخالف للعرف اللغوي كقول أبي تمام:

إذا ما رحى دارت أدارت سماحة      رحى كل انجاز على كل موعدِ(54)

 

" فجعل انجاز الوعد بمثابة طحنه بالرحى، وهو قضاء عليه وذلك في العرف اللغوي لا يكون إلا للإخلاف "(55).

وقوله (المستعمل في مثله) أي ما تواتر من استعمال الألفاظ للمعاني، فيكون قول أبي تمام:

أجدر بلوعة جمرة إطفاؤها             بالدمع أن تزداد طول وقودِ(56)

" خلاف ما جرت عليه العرب (العرب = الجاهليين)، وضد ما يعرف من معانيها، لان المعلوم من شأن الدمع أن يطفئ الغليل"(57). وهرع إلى الشعر الجاهلي يستشهد به على ذلك، ولم يسأل نفسه هل الدمع يطفئ الغليل دائماً؟ أليست هي مسألة إنسانية والناس يتفاوتون في الصبر، اذاً لماذا ابيضت عينا يعقوب من البكاء دون أن تشفي دموعه غليله؟ ولكنها (عبادة الجاهلية)!!

والآمدي يسمي معاني أبي تمام (مولـّدة) أي لا تشبه معاني العرب. وقد وصف معانيه بوصف يفضح عجزه وتحامله " كثير مما أتى من المعاني لا يعرف ولا يعلم غرضه فيها إلا بعد الكد والفكر وطول التأمل، ومنه ما لا يعرف معناه إلا بالظن والحدس"(58). لأنه تعود على معاني الجاهليين البسيطة المأخوذة من بساطة حياتهم، وعصر أبي تمام (عصر الشاعر المثقف) الذي يكون لمعانيه عمق ودقة.

وعمود الشعر استبعد البديع إلا ما جاء عفو الخاطر، لأنه جاء هكذا في أشعار الأوائل، مردداً بذلك الفكرة التي قالها عبد الله بن المعتز في كتابه (البديع). أما البديع المقصود والملحوح فيه كبديع أبي تمام فخارج العمود. ولكن البديع سمة عصرية لم ينج منها شعر مهما والى وغالى كالبحتري الذي يكثر في شعره، ولكن الآمدي حفاظاً على (صاحبه العمودي) دافع عن بديعه " حصل للبحتري انه ما فارق عمود الشعر وطريقته المعهودة مع ما نجد في شعره من الاستعارة والتجنيس والمطابقة ". وربط الآمدي البديع بالإحالة "إن أبا تمام يريد البديع فيخرج إلى المحال"(59).              

 وكانت حملة الآمدي الأشنع على (الاستعارة) لأنها هوية الشعر الجديد. وهي درجة أعلى في الشعرية والمعنوية، أو هي كما يقول أرسطو (عنوان العبقرية).

إن استقراء الشعر الجاهلي، وهو أمر طبيعي، يرينا اعتماده على التشبيه البسيط بالدرجة الأولى فـ(الكاف) التشبيهية، و(كأن) و(كأنما) و(مثل) تحتل المرتبة الأولى في الاستعمال، وهو يتفق من طبيعة اللغة الجاهلية والشاعر الجاهلي في الميل إلى الوصف. كقول طرفة في أبيات متتالية:

كأن علوب النسع في دأياتها            موارد من خلقاء في ظهر قرددِ

تلاقى وأحيانا تبين كأنها                بنائقُ غر في قميصٍ مقدَّدِ

واتلع نهاض إذا صعَّدت به             كسكان بوصي بدجلة مصعدِ

وجمجمة مثل العلاة كأنما              كسكان بوصي بدجلة مصعدِ

وخدٍّ كقرطاس الشآمي ومشفرٍ                   كسِبتِ اليماني قدُّه لم يحرَّد(60)

والاعتماد على التشبيه البسيط أو التشبيه الصورة، لا يمنح المعنى العمق الذي تمنحه الاستعارة، التي وان وردت في الشعر الجاهلي، إلا أنها تقل عامة، وتندر عند شعراء، وتنعدم عند آخرين. والذي يستقرئ الشعر العباسي يجده يقلب المعادلة؛ فتكثر الاستعارة والصور الشعرية القائمة عليها، ويقلّ التشبيه. وهذا جانب مهم من جوانب شعرية النص العباسي كقول أبي تمام في أبيات متتالية:

في مكر للروع كنتَ أكيلاً              للمنايا في ظله وشريبا

لقد انْصعتَ والشتاء له وجه يراه الكماة وجهاً قطوبا

طاعناً منحر الشمال متيحاً              لبلاد العدوِّ موتاً جنوبا

في ليالٍ تكاد تبقي بخدِّ الشمس من ريحها البليل شحوبا

فضربت الشتاء في اخدعيه             ضربة غادرته عوداً ركوبا(61)

فشعرية هذا النص قائمة على الاستعارة، كما إن المعاني أبرزت من خلالها، وهو مألوف في الشعر العباسي الجديد إيلاف التشبيه في الشعر الجاهلي. وتتنوع أركان شعرية النص العباسي؛ فغير التشبيه والاستعارة والصورة، كانت الفكرة العميقة أو المعاني الدقيقة كما يسميها المتنبي في قوله:

شاعر المجد خدنه شاعر اللفظ كلانا ربُّ المعاني الدقاقِ(62)

وتشكل هذه ظاهرة واسعة؛ وهذا متأتٍّ من ظهور (الشاعر المثقف) الذي بشرت بظهوره مدرسة أبي تمام، وهو الهاضم المستوعب لثقافات وعلوم عظيمة، بعكس الشاعر الجاهلي الفقير ذهناً وعلوماً، المضطر إلى مخاطبة المشاعر فقط دون العقل؛ وهذا الشعر تكمن صعوبة فهمه في ألفاظه، ويكفي قاموس بسيط لحل رموزه وفهمه. أما الشاعر العباسي المثقف الذي ينطلق شعره مرشحاً من كل ما قرأه وسمعه وحفظه، فهو يخاطب العقل والمشاعر معاً ليحافظ على تحليقه الشاعري لأنه لو خاطب العقل وحده لسفَّ في الشعرية، وتحول إلى نثر عقلي! وكانت قوة الشاعرية هي المعول عليها في احتفاظ الشاعر العباسي بتحليقه مع ممارسته العلمية في شعره. وهذا الشعر لا يحل رموزه قاموس صغير أو كبير، لأنه لا يستعمل ألفاظ الجاهليين المعقدة دائماً، بل ربما ترد ألفاظ كلها مفهومة، ولكن المعنى ينغلق فيحتاج إلى هامش شرح.

وبرغم أن أصحاب العمود أضافوا الاستعارة وذكروا فضلها "إن للاستعارة مزية وفضلا، وان المجاز أبداً أبلغ من الحقيقة"(63)، إلا أنهم قتلوها؛ فقد اشترط الآمدي أن (تكون الاستعارات والتمثيلات لائقة بما استعيرت له) والجرجاني اشترط (مناسبة المستعار للمستعار له). كما لصقوا باستعارات المجددين تهمة الغلو والمبالغة ووضعوا مقابلها (الصدق) " فمنهم من يلتزم الصدق، ومنهم من ينساق مع الغلو ومنهم من يقتصد بينهما"(64).

وعد الآمدي استعارات أبي تمام قبيحة هجينة غثة وبعيدة عن الصواب معلقاً على قوله (وضربت الشتاء في اخدعيه) "فجعل – كما ترى – للدهر أخدعاً ويداً تقطع من الزند وكأنه يصرع"(65). ومثله (ماء الملام) برغم ورود مماثل له في الموروث؛ فاستعمل ذو الرمة (ماء الصبابة)  و(ماء الهوى)، واستعمل عمر بن أبي ربيعة (ماء الشباب)، واستعمل العتابي (ماء الشوق)، وأبو نواس (ماء الكلام) (66). وهذا يدل على أن أبا تمام لم يبعد عن الموروث كما ادعوا.

اذاً عمود الشعر سعى إلى إخلاء الشعر من الخيالية التي تمنحه إياها الاستعارة وجعله (شعراً صاحياً)، لا يستطيع الارتفاع عن الواقع الجاف إلا قليلا، لان الشاعر الجاهلي - كما افترضوا- واقعي استقى (بعينه) لا (بعقله الحضاري) شعره، وهذا غير صحيح أبداً فواقع الشعر الجاهلي لا يثبت هذا ولا يؤكده؛ إذ كثرت الاستعارات التي على شاكلة استعارات أبي تمام، مما جعل الآمدي يجد لها تخريجاً وتعليلا لتنطبق مع فرضيات عموده الشعري، ومن ذلك استعارات لامرئ القيس وزهير بن أبي سلمى وطفيل الغنوي وعمرو بن كلثوم وحسان بن ثابت وأبي ذؤيب الهذلي. فقال عن استعارة امرئ القيس:

فـقلت له لما (تمطى بصلبه)  و(أردف أعجازا) و(ناء بكلكل)

" فلما جعل له وسطاً يمتد وأعجازا مرادفة وصدراً متثاقلا في نهوضه حسن أن يستعير للوسط اسم الصلب... وهذه اقرب الاستعارات من الحقيقة". وعن استعارة زهير:

صحا القلبُ عن سلمى واقصر باطلهْ  و(عرِّي افراس الصبا ورواحلهْ)

" لما كان من شأن ذي الصبا أن يوصف أبداً بان يقال : ركب هواه، وجرى في ميدانه، وجمح في عنانه، ونحو هذا، حسن أن يستعار للصبا اسم الأفراس، وان يجعل النزوع أن تعرّى أفراسه ورواحله، وكانت هذه الاستعارات أيضا من أليق شيء بما استعيرت له"(67).

تابع القسم الثاني من الدراسة

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1208 الاحد 25/10/2009)

 

 

في المثقف اليوم