قضايا وآراء

بعض الملاحظات عن الرواية / ميادة خليل

فوجد ان بعض النقاد يوحون له بان ما قام به فعلٌ جبان أو غير شريف. تجربته هذه هي انعكاس لتجربتي الشخصية. رواية ؟ ربما لاتمتلك جوهر الابداع الضروري، أليست النسخة كبيرة بعض الشيء، أليست الأسطر متباعدة جداً فيما بينها ؟ ربما تحاول تمرير سلعة غير مناسبة لتخدع ثقة العامة.

الموسيقيون، بما في ذلك الكبار منهم، لايمتلكون مثل هذه المشاكل مع السلم الموسيقي. من يشك بالسوناتات العظيمة لبيتهوفن والسلسلة الرباعية أو اغاني شوبير؟ البعض، وانا منهم، يُفضل أي سمفونية لهم. كيف يقسو قلبك امام الدراما العاطفية لموزارت في مقطوعة السلم الثلاثي ج، او كيف لا تنسى نفسك مع ألحان غولدبرغ او لا تقف مذهولاً امام العزف المنفرد على الكمان في مقطوعة دال الصغرى؟

من الغريب بان القصة القصيرة لاتثير الشكوك حول التغير القصير الذي طرأ عليها، ربما لان القصة القصيرة نمط يختلف جوهرياً عن الرواية.

اعتقد ان الرواية هي الشكل النموذجي للنثر القصصي، هي الابنة الرائعة للاضطراب، المارد المغرور، لكن المارد يصبح عبقرياً في أفضل حالاته. وهذا الطفل هو اولى الوسائل التي عرفها كثير من كتابنا العظماء. القرّاء وصلوا الى توماس مان عن طريق " موت في البندقية"، هنري جيمس " دوران اللولب"، كافكا " التحول"، جوزيف كونراد " قلب الظلام"، ألبير كامو " الغريب". أستطيع الاستمرار أكثر. فولتير، تولستوي، جويس، سولجينيتسين، وأوريل، شتاينبك، بينشون، وميلفيل، لورانس، مونرو، تراث مجيد وطويل. ويمكنني ان أسترسل أكثر من ذلك. المتطلبات الاقتصادية دفعت الكتّاب الى صقل عباراتهم للدقة والوضوح، ولتحقيق تأثيرها بقوة غير عادية، ليبقى التركيز على أبداع تلك العبارات والسير بها قدماً نحو أفق احادي التفكير، ثم تنتهي بالعقل لتتوحد معه. وبالتالي هم لايهذون أو يعظون، هم يجنبوننا حبكتهم الثانوية متشعبة الافرع،  وأنتفاخ البطن.

 

دعونا نأخذ حجماً اعتباطياً، شيء ما بين العشرين والاربعين ألف كلمة، طويل بما يكفي للقارئ حتى يسكن عالماً أو ادراكاً معيناً ويبقى هناك، وقصير بما يكفي لقراءته في جلسة أو أثنين ولكيان كامل يستطيع العقل أن يحفظه في المواجهة الاولى ــــ تصميم الرواية واحدة من المتع المباشرة فغالباً ما يقرأ احدهم رواية عصرية طويلة ويفكر بهدوء، وتمرد : العمل سيكون أفضل لوأنجزه الكاتب في نصف او ثلاثة أرباع حجمه هذا. وأظن أن العديد من الروائيين ينتجون ستون ألف كلمة بعد سنين من العمل، واعتقد (متعب، ربما) انهم بعد كل هذا العمل وصلوا فقط الى منتصف الطريق. هم عبيد المارد، بدلاً من ان يكونوا سادة الانموذج.

 

ان تجلس مع رواية هو امر مماثل لمشاهدة مسرحية او فلم طويل، في الواقع، هناك تشابه قوي بين سيناريو(من عشرين الف كلمة ونيف) وبين الرواية، كلا العمليتين ضمن حدود المصلحة نفسها تماشياً مع الاقتصاد المضطرب ـــ يشكلان فضاءاً للعقدة الثانوية (على امتدادهما)، شخصيات تُخلق بجرة قلم سريعة ولكنك تسمح بمجالٍ كافٍ لها للعيش والتنفس، وفكرة رئيسية، حتى لو كانت أقل بقليل من أفق الادراك، ودائماً تمارس جاذبيتها المؤثرة.

 

التذكيربوجود تشابه بين الفلم والرواية هو لوجود عنصر التشخيص في الرواية. نحن واعون بما يكفي لستار وخشبة المسرح، ولخدعة الكاتب، الدخان والمرايا، الارانب والقبعات كل هذه الامور تطبق الوعي الذاتي أكثر من الرواية الطويلة. الرواية حديثة وشكلٌ تماشى بأمتياز مع مابعد الحداثة. مساهمة كونراد الشهيرة للتراث نموذجية. بدات ببراعة متقنة، في " الفضاء المضيء" ـــ مارلو يستعد بنفسه لسرد القصة بينما هو وأصدقاءه يجلسون في يخت ترسوا على مصب نهر التايمز عند الغسق، كقطرات الضوء، مفهوم الظلام ثُبِتَ أمامنا، وسوف تستمر الملاحقة بلا هوادة خلال مائة صفحة او نحو ذلك.

 

 " قلب الظلام" ليست من بين القصص القصيرة المفضلة لدي. و كونراد قصّر من دعوته (في تمهيده المشهور) لـــ " زنجي في سفينة النرجس" ليجعلك ترى ماذا يوجد في ذلك القلب. ولكن تلك الصفحات الافتتاحية، الأطار، امتلكت جمالية الوعي الذاتي، ومن ثم جمال الشكل.

 

القصيدة والقصة القصيرة هما مثاليان نظرياً، لكنني أشك في وجود شيء أسمه رواية مثالية ( حتى لو وافقنا مع أنفسنا مبدئياً على مضمونها الصحيح كجملة مفيدة). الرواية رحبة جداً، شاملة، عنيدة، وشخصية جداً بالنسبة للمثالية. طويلة جداً، في بعض الاحيان طويلة اكثر من اللازم كالحياة. الرواية لاتحتاج أو تبحث عن الكمال، والروايات العظيمة ليست مثالية. تستطيع ان تطّور " آنا كارنينا" من خلال تغيير حماقات السرد الساذج في وصف قبعة عامل المحطة المدببة ـــ اكثر مثال في الرواية أثارة للنقاش. ودائماً ما أريد ان امسك قلم تلوين ازرق لايما بوفاري وأنا أقرأ مخاض موتها المجهد ( أشك ان فلوبير قد بكى عليها)، بالرغم من ذلك لا أشك أبداً بعظمة هذه الروايات.

 

ولكن يمكنني على الاقل ان أضع تصوراً لرواية مثالية. أو، بدلاً عن ذلك، اتخيل نموذج تقريبي مثالي واحد، مثل الخط الوهمي المستقيم في الهندسة التحليلية. انا لا اعتقد ان القصة القصيرة حتى التي أعتز بها أكثر من اصدقائي القدامى، مثالية (من بينها، اديث وارتون " Ethan Frome"، توبياس وولف " لص الثكنات"، ايتالو كالفينو " المراقب"). لكن الصقل السليم وخاصية الذات المغلقة تشترك بها مجموعات القصص القصيرة الجيدة وتضعها على طريق المثالية. لذلك يشعر المرء بجمالية الطموح، والقدرة الضرورية للصفحات الاولى من الكتاب.

 

رواية جويس العظيمة " الميت"، بناء ثنائي بسيط (حفلة، غرفة في فندق) يدعمها أستحضار الذاكرة في بيئة أجتماعية سليمة (مهذبة وعنيدة مع التغييرات) مع دفء رائع. تتظاهر الشخصيات بلعب أدوارها في زمن واقعي. الرقص والغناء في العشاء السنوي للعمة، التوترات العائلية، الجدال الشائك حول الهوية الوطنية. ثم جدال غابرييل وغريتا في غرفتهما في الفندق، ثم الدراما الصامتة، غيرته المثبَطة، بوحها بحزنها العميق على وفاة الرجل الذي احبها ذات مرة، واخيراً، ختام غابرييل، نعاس، تأمل العار الذي لحق بعلاقته مع حب عمره، الوفيات التي وقعت بسبب ذكريات مساء صاخب ـــ من اكثر نصوص النثر القصصي روعة في تراث جويس. أود ان أقايض الصفحات الختامية لــ " الميت" مع أي خمسة عشر حلقة من " عوليس"لنعرف بأن الشاب جويس تفوق على نفسه. أتخيل في بعض الاحيان اني على فراش الموت، وان هذه العبارات المشهورة من الرواية ترثيني: "اعتقد انه مات بالنسبة لي"، "واحداً تلو الآخر سيصبحون جميعاً أشباحاً"، " الوقت قد حان لوضعه في رحلته غرباً"، الثلج " يتساقط بنعومة على امواج شانون المتمردة الكئيبة"، " تساقط الثلج قليل خلال الكون، وقليلاً تساقط، مثل هبوط نهايتهم على جميع الاحياء والاموات ". ربما هناك نهايات أسوأ من ذلك.

 

انا أؤكد ذلك، بعيداً عن عبقرية جويس، هناك حاجة ملحة للرواية، والاسلوب يفرض على الكاتب التماسك والسعي الى الكمال ليُشكل في هذا النمط السائد أحد أجمل القصص في اللغة الانكليزية.

 

ايان روسل ماكوين (1948) روائي وكاتب سيناريو بريطاني، حاز على جائزة البوكر عام 1998 عن روايته " أمستردام"، ووضعته التايمز البريطانية في قائمة " أعظم 50 كاتب بريطاني منذ 1945".

 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2270 الجمعة 09 / 11 / 2012)


في المثقف اليوم