قضايا وآراء

فاهم العيساوي الحرف حقلٌ والقضاء مناجلُ .. أشجار لا تحسن الموت وشاعر يحسن القصيدة

الموت بطريقة تختلف عن متناول الذين سبقوه فهو لا يخشاه ولا مجال لعقدةٍ منه، بقدر ماكان إحساسه مفعماً بأن الموت ولادةٌ جديدة وحياةٌ أخرى جديرة بالاهتمام والإبداع، فالموت ذكرى تمنحه حياةً جديدةً تؤثثُ لحياة الخلود والتمجيد والشهادة والإبداع معاً، حتى الأشجار التي لا تحسن الموت ذلك لأنها تحسن الحياة والتحوّل فهي هاجسٌ جميلٌ للأمل والطموح والتجديد تأسيساً لضوءٍ يشعر بجدوى الموت والحياة لدى الكائنات الجميلة سواء كانت قضيةً إنسانيةً ترتبط بالرسالة الإسلامية (شهادة الإمام الحسين)(ع) أو قضية إنسانية ترتبط بفقده لولده الصَّبيِّ الذي ملأ البيت حزناً وانكساراً بعد أن ملأه وجعاً سعيداً وهو يقارع أزمَّة الحياة وعوارضها وانتكاساتها من مرضٍ عَصيٍّ على الشِّفاء.

  لاشكَّ أَنَّ ثيمة الموت شغلت شعراء كثيرين من مختلف الأزمنة وفي مختلف الأمكنة لكن الشاعر المبدع فاهم هاشم ينظر إليه شفيعاً للحياة موازياً لها فهو يقول:

وَجهي بِرُغمِ المَوتِ، عاشَ مُوازِياً...نَهرَ الفُراتِ، فَظَلَّ وَجهاً أَخضَرا

في قصيدة له في حق العباس (عليه السلام)

بوصف الموت حياةً أخرى ترتبط بتجربة الشاعر بوصفه رساماً جميلاً للحياة ناهيك عن ارتباطه بعقيدته التي يؤمن بها ويقدسها وقد أحسن الإبداع الشعريَّ في ذكره لموت الشاعر إذ يقول مثلاً:

إن جاءَ يا شُعَراءُ مَوتٌ ظامئٌ  مُتَوَسِّلاً بِمِياهِكُم فَأَجيبوا

فهو أيضاً يعبر عن موت الشاعر بحياة الموت نفسه حين يشرب ماء الحياة من الشاعر فياله من تصوير جميل.

وأمّا قصيدته التي وضعها أول المجموعة (يرجون ذبحك أو لعلك) فأرى فيها قضيةً كبيرةً وشاعراً كبيراً؛ في هذه القصيدة تتضح معالم شاعرٍ لا يستجدي القول ولا يتكلف النَّظم، إنَّهُ مفعمٌ بروح الشّاعرية الفذَّة إذ يقول:

إذ جِئتَ رَبـَّكَ ظامِئاً وَبَذَلتَ كُلَّكْ..لاشَكَ أَنَّكَ لَم يَكُ الشُّهَداءُ مِثلَكْ

فالحسين(ع) يبذلُ كلَّه لينفرد بين الشهداء ويتفوق عليهم بأن لا مثيل له في التضحية لأنَّه يعرف جيداً موعده مع خالقه العظيم فأراد بمشيئته أن يكون مثالاً إنسانياً وشهيداً متفرداً حيث أهدى عذقه لخالقه واقفاً أبيّاً ليحفظ نخله الإنساني ولتستمرَّ دورة الحياة مقابل الظلم والاستبداد، في بيتٍ شعريٍّ واحدٍ اختصر أربعةً عشر قرناً من المعاناة ومجابهة الظلم والدكتاتورية، معادلة قاسية تستفز شاعر الماء والحياة والشجر عندما يتآزر الجبان الهارب من أجل ذبح الحق مقابل أن يحني الحسين هامة أصحابه السائرين خلفه التي هي قامة النّخيل التي ثقَّفَها الحسين (ع) بدمائه من كل شوائب الطغاة، وفي بيتٍ آخرَ يختصر الشاعر الفذُّ العيساوي قضية عطاء وعاطفةٍ وحيرةٍ في رد الجميل فهو يقول:

بِعَطاءِ خَيمَتِكَ الجَوابُ يَخونُني..ماذا أُوَزِّعُ؟ بَعدَما وَزَّعتَ طِفلَكْ

قضية كبيرة ورسالة أكبر حين يوزع الحسين (ع) طفله الرَّضيع قرباناً للحرية والحياة والفجر الآخر الذي يترك ظلاله في الأجيال اللاحقة، لاحظ معي استخدامه مفردة (وَزَّع) حين يوزِّع الحسين(ع) طفله فإنَّه يريد توزيع التَّضحية على محبّيه من بعده وكأنَّه يوزِّعُ بستاناً من الورود لكل الخمائل، ويختم الشاعر القصيدة خاتمةً جميلةً فيها دعوة للحرية إذ يقول:

إن ضَيَّعَ الباغونَ وَجهَكَ ثائِراً..يَكفيكَ أَنَّكَ أَدمَنَ الأحرارُ شَكلَكْ.

البناء الرَّصين لدى الشاعر وتوهجه عبر مداليل متعددة، من ميزات القصيدة لدى الشاعر العيساوي الذي أدرك براعة الشعر مبكراً فأدركته صنعته متألقاً، أقول توهج البناء لديه يتمثل في اختياره للعنوان المرتبط بالنَّص كأنَّه يعطيك نبذة مختصرةً أو ومضة دالَّةً على محتوى كبير من العنوان الرئيس ((الأشجار لا تحسن الموت)) ثم عناوين النصوص الشعرية (يرجون ذبحك أو لعلك)، (حرفك مائل)، (بعد أن صار جداراً)، (منك إليك)، (عمر بطعم السيف)، (صديق الماء)..إلخ، كذلك المتبينات التي اتخذها معادلات موضوعية حادة تفرض هيبتها لدى المتلقي الذي يمتلك ذاكرة جمعية عن علاقات مؤثرة في البناء الشعري: أو كلَّما أنسى، يقابلها: تذكرني السماء بأن نجمك عن عيوني آفل، كيف يأفل النجم وهو في عيونه؟ إذن هذا الشطر بذاته يحمل داخلياً متوازياتٍ عقليةً عاطفيةً فنجم ولده الفقيد لم يأفل، ولكنه أفل ظاهرياً ليحرك فيه هذا النبض المؤلم بتلك الشاعرية الفذة، أو كلما أغفو تذكرني الوسادة، تذكره الوسادة هنا معادل موضوعي لمشاعره وعواطفه انزاح إليها شاعراً وهو في الحقيقة يذكّرُ الوسادةَ وليست تذكِّرُهُ هنا تكمن براعة النص: أنَّ وجهك عن طيوفي زائلُ هو يريد أن يعيش هذا الوجه فيستغني عنه بالقول محاولاً إقناع نفسه وهذه الثيمة ترتبط ارتباطاً بموضوعة الموت التي أشرنا إليها فالزوال، الموت، الفناء/حياة أخرى في وجدان الشاعر.

لم يكتملْ جسد الكتابة عنده.. فالحرف قمحٌ والقضاء مناجلُ، ألاحظ هنا أنَّ قمح الولد الفقيد قد حصده منجل القضاء وفيه أيضاً أمل فالحصاد أيضاً فيه حياة جديدة، أمّا عدم اكتمال جسد الكتابة فلأن الطفل لم يبدأ دوامه في الثالث الابتدائي ولأن الشاعر معلِّمٌ فقد وجَّه نقداً للمعلمين الذين يصعّبون درس الإملاء على التلاميذ الصغار فهو يقول:

هَلْ كُنتَ تَخشى الإمتحانَ بِدَفتَرِ...الإملاءِ، أَم صَعبَت عَلَيكَ مَسائِلُ

والشاعر مع رثائه لابنه إلا أنَّه لم ينس وطنه وما يعانيه فهو يقول:

كيفَ احتَوَتكَ الأرضُ، هَل كُنتَ استَمَعتَ.. لِقَولِها (وَجهُ العِراقِ قَنَابُلُ)

ولم يرحل الألم عن قلب الشاعر ولم يخفَّ الوجع عن روحه فالكتابة لا تحلو إلا عنه ولأنه مؤثر فإن الكتابة عن الموت وتشظياته مستمر في نصوص العيساوي.

الحياة اليومية وتفاصيل التواصل الاجتماعي وذكاء الشاعر في اختياره لها كمتبنيات مؤثرة مدياتٌ أخرى تميز قصائد العيساوي الذي أبهرنا وهو يسرد لنا تفاصيل عذاباته بطريقة شفافة عذبة:

أنت ارتحلت بعيدنا وتركت أمك مثل باقي الثاكلات تحاول.ماذا تحاول؟ هو تعدد قراءات وانفتاح النص على معانٍ كثيرة ثم يقول: أخواك في يوم انسكابك، رضوان جارك، يُسائِلُ، جعل الأسئلة بذكاء على لسان زميله وجاره، ثم يتألق متخذاً منحًى آخر أشد ذكاءً: كيف احتوتك الأرض، ربك ناحل، بين انطفائك واشتعالي، هنا أؤكد مرةً أخرى على موضوعة المعادل الموضوعي للموت فهو يقول بين انطفائك واشتعالي، سبحان الله فالشاعر بدأ يشتعل، بدأ يتذكر، بدأت حياةٌ أخرى مرتبطة بالموروث الديني والموروث الإنساني زائداً فلسفة الشاعر الذاتية التي يعبر من خلالها عن حياةٍ أخرى زاخرةٍ بالألم والذكرى والمشاعر ومحنة الحياة فضلاً عن شاعرية أثبتت جدارتها وهي تواجهنا بالشعر وفلسفة الموت والحياة من دون أن نشعر بوطأة الفلسفة وتعقيد النظريات العتيدة فقد برع النص الشعري لدى الشاعر فاهم العيساوي في تبسيط فلسفة الموت لأنَّه شاعر شفّاف يمتلك من العاطفة ما يملأ نهراً من الأشجان والعذوبة.

هل كنت تخشى الإمتحان بدفتر الإملاء أم صعبت عليك مسائلُ، أنا أيضاً أسأل الشاعر:

هل كنت تعيش الفناء أم صعبت عليك الحياة؟

وفي قصيدة (صديق الماء) يبدو المطلع بسيطاً للوهلة الأولى لكنه يمنحك أفقاً شاعرياً محسوساً للحياة والموت معاً،

أدري بمن أحيا النفوسَ سعيدُ..أدري بأنَّكَ يا شهيدُ شَهيدُ

فالشهادة هنا تحمل مدلولين الأول الشهادة الظاهرة وهي الفناء والمستقرة بالنداء مقابل الشهادة الأخرى وهي الحياة الأخرى، فهو يتحسس الشهادة بمنظارين: شهادة ظاهرية/ موتاً ظاهرياً، شهادةً شاعريةً عاطفيةً إنسانيةً باقيةً لا تفنى تساوي الحياة الخالدة ثم يعود الشاعر ثانيةً لتواصله الاجتماعي ليؤكد حدسه الشعريَّ المبنيَّ على علاقاته الانسانية وتواصله مع الحياة بين الناس وبناء التكوين الأسري مقابل التكوين الشعري:

أدري بأنَّ أباك يُوشكُ يشتري..لَكَ فَرحَةً غفلانَ ثمَّ يعودُ

يستذكرُ الوَجهَ المسافرَ في المياهِ..فَيُرجِعُ الكفَّ الأسى ويعيدُ

ثم الوجه المسافر بالمياه وأم عثمان وصحب عثمان الذين تجمعوا بالجفاف وحزن الرَّباب ثم يتألق ثانية بذكره لمحنة الوطن العراق، الإرهاب، والموت من كل الجهات، تحتضن العراق حدود، لينتهي النصُّ متألقاً شامخاً:

يا حسرةَ الأرضِ المليئةِ بالكبارِ..وَليتَ عقلَكَ يا صغيرُ يعودُ

إن حسرة الأرض بفقدها أهلها يقابل في وجدان الشاعر حياة الحزن والألم السرمديّ أمام عودة العقل الذي ينمو في عقل الشاعر الذي هو التطوّرُ الحاصل في  مجالات الحب والعلم والحضارة أمام المشاعر الإنسانية الخالدة التي لا يستطيع العقل إخمادها ولا الحضارة أن تنال منها أمام أبهة الشاعر ومشاعره المبدعة.

وهناك خصائص أخرى لدى النص عند الشاعر العيساوي؛ منها استخدامه لأساليب البلاغة من جناس وطباق ومقابلة والتي لا أريد الخوض فيها لأن الشاعر في مجموعته أسمى من الحديث عنها لأن لديه ميزاتٍ أكبر منها، كذلك موضوعة الحذف في البناء الشعري وهي خاصية مهمة منها مثلاً قوله:

أَلحُزنُ أَكبَرُ، عِندَما وَلَدٌ بِعُمرِ..السَّهم يُدرِكُ أَنَّ سَهماً رامَ وَصلَكْ

لاحظ قوله (بعمر السهم)

وقولهُ:

جذبوكَ من كلٍّ وكنتَ خلاصَهم..والموتُ من كلِّ الجهاتِ خلودُ

وقولُهُ:

سأشربُ الكوخَ ما هاجت بِهِ مُتَعي..و أسكبُ القصرَ مُلتاعاً بلا أَسَفِ

وهكذا.

كذلك الانزياحات الرائعة التي سارت موهبة الشاعر عليها واعدةً متألقةً ثم متأصلةً في نصه الرائع مثالها:

من صفحةِ الصحراءِ والقلمِ الرِّمالِ...رَسمتَ وجهَ الأرضِ صورةَ مَلحَمَهْ

هَيمانَ يُرسلُ روحَهُ جَسَداً إلى.. خُطُواتِهِ, كانَ التَّمَرُّدُ مُلهِمَهْ

أو:

أَحلامُ فولاذِهم تغفو على وطني...عندَ الصباحِ ترى الفولاذَ ينصهرُ

أضف إلى ذلك فإنَّ قاموس الشاعر أو لغة النص أو عالم التوهج المنطقي عنده يتنامى دائماً مع الخوض في أسرار شاعريته فهو يتنصل من الحياة اليومية (يوشك يشتري لك لعبةً) إلى الموروث الديني الكبير كقوله:

لاشَكَّ أَنَّكَ صارِمٌ أَعطاكَ..جَدُّكَ سرَّهُ الباقي بَقاءَكَ حينَ سَلَّكْ

إلى العلاقات الاجتماعية (رضوان جارك)، إلى حياة الطبيعة (الشمس، الطير، الندى، الحقول، قطارٌ من الويلات،) إلى شخصيات تاريخية (محمد، بلال، قطام، يعقوب، يوسف، ملجم...إلخ).

وختاماً فإنَّ الشاعر فاهم العيساوي في أشجاره التي لاتحسن الموت يقدم لنا نصوصاً جديدة متجددة يجمع فيها انتماءه لموروثه الأصيل فضلاً عن شاعريته المتميزة التي بهرنا بها وهو يلقي علينا ضوء التجديد المبتكر المتألق.

 

 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2273 الأثنين 12 / 11 / 2012)

في المثقف اليوم