قضايا وآراء

دلالات أزمة البطاقة التموينية وحلولها المقترحة / صائب خليل

لا تختلف قيد شعرة عن بقية المعارك التي سبقتها، وليس فيها أطراف "شريفة" قلقة على حق الشعب في الطعام، والدليل الساطع هو تصويت الجميع في مجلس الوزراء لصالح التعويض، كما بين علي جابر الفتلاوي (1) حين كتب:

"أصدر مجلس ألوزراء العراقي بداية شهر تشرين الثاني عام 2012 قرارا بألغاء البطاقة ألتموينية، ومجلس الوزراء فيه (7) وزراء من الكتلة الكردستانية و(8) وزراء من القائمة العراقية، و( 6 ) من التيار الصدري، وهذه القوائم الثلاث التي تمتلك (21 ) وزيرا هي من أعترض على القرار، أذن لماذا صوت وزراؤكم عليه؟" .... ثم العودة إلى الإعلام لإتخاذ موقف معاكس بلا أدنى شعور بالخجل!

كذلك فأن التراجع السريع الذي قامت به الحكومة والأحزاب المختلفة للتنصل من القرار له دلائله الخطيرة، وأهمها سطوة الإعلام والجهات التي تدير الإعلام، على الحكومة والكتل السياسية، وهو يدل أيضاً على ضعف ثقة الناس بالحكومة واستعدادهم الكبير للإستماع إلى أي رأي مضاد لها. وقد فشلت الحكومة تماماً في الدفاع عن نفسها إعلامياً، وسيطرة عبارة "إلغاء الحصة التموينية" رغم أن القانون المقترح كان لغرض "إستبدال الحصة التموينية" بمبلغ نقدي.

هل الحصة التموينية بالفعل أكثر عرضة للفساد من توزيع مبلغ نقدي؟ الأمر غير واضح على الإطلاق، فسرقة الأموال أسهل عموماً من المواد العينية واكثر جدوى. كما أنه من الناحية الأخرى ليس من المضمون ان النقود التي ستسلم إلى رب الأسرة سيتم استخدامها للغرض المقصود منها: شراء الغذاء، بل ربما يجري تبديدها من قبله. أما فساد التموينية من خلال شراء مواد بأغلى من سعرها العالمي، فهو أمر يفترض أن تكون مراقبته سهلة للغاية إن كان في الحكومة رجل شريف واحد يشرف على ذلك، فهل لا يوجد مثل هذا الرجل في الحكومة؟ وكذلك ليس هناك أسهل من رقابة نوعية المواد وكميتها، حيث يمكن تغليفها وختمها وتسليمها من مكان مركزي وتخصيص فريق رقابي وعقوبات صارمة، إن كان في الدولة جهازي شرطة وقضاء غير غارقين في الفساد إلى أذنيهما.

ليس انخفاض الثقة بين الشعب والحكومة ومؤسسات الدولة مستغرباً، فالجو العام يوحي بأن كل شيء يجري في الخفاء، ووراء الكواليس في السياسة العراقية، وأن ما يقرر الأمور هي موازين القوى في حرب "ملفات" تسقيط تحتفظ كل جهة سياسية بذخيرتها منها لمجابهة الأخريات وتهديدها، وتبادل إخفاء الأسرار وتقاسم المنافع والرواتب والمنافع والمخصصات خارج المقاييس المعقولة، وإهمال كل ما يتعلق بالشعب، واقتصار ذلك على تمثيليات غير متقنة سواء كانت من الحكومة أو المعارضة. أما تساؤلات الناس فتهمل وتترك للنسيان، لكنها تحفر في الذاكرة إشارات يصعب محوها من عدم الثقة.

لم يكن مشروع القانون جريمة بحد ذاته، ولم يكن يستحق كل رد الفعل هذا، لولا هذا الجو المشحون بالشكوك، والذي تلام الحكومة عليه قبل غيرها. ومن ناحية أخرى فأن السبب الذي قدمته الحكومة لإلغاء البطاقة التموينية (الفساد)، إعتراف خطير بالهزيمة أمام الفساد! فالحكومة تقر بأنها عاجزة عن توفير نظام سليم بدرجة معقولة، حتى لشراء مواد غذائية قياسية محددة، وتوزيعها على الفقراء من الناس!

وهذا الأمر يثير تساؤلين هامين ضمن تساؤلات أخرى. الأول، فيما إذا كانت الحكومة المنتخبة أكثر فساداً من حكومة الدكتاتور صدام حسين، التي استطاعت تقديم هذه الخدمة بشكل أفضل؟ والثاني إن كانت الحكومة تعجز عن شراء مواد معروفة قياسية وبسيطة جداً، وأسعارها معلنة وعالمية، فكيف تجري الأمور في شراء منظومة حاسبات مثلاً، او مواد برمجية لا يوجد لها تقييس ممكن، أو طائرات حربية وأسلحة لا يسهل مقارنة بعضها ببعض ولا يمكن حساب كل التفاصيل المتضمنة في العقود، لأنها ببساطة لا يمكن أن تلم بكل الأجهزة وبكل حاجاتها من صيانة وملحقات وغيرها؟

أذكر عن هذا ما أخبرني به مؤخراً صديق من العراق يعمل في مجال الإتصالات والحاسبات، أنه اتصل بمجلس بلدية إحدى المدن الصغيرة حول عرض لتجهيز منظومة حاسبات لأغراض إدارية بسيطة. وجد أن المواصفات المطلوبة مبالغة وبعيدة تماماً عن الحاجة الفعلية المطلوبة منها، والكلفة المقدرة تزيد بأكثر من ستة مرات مرات عن الأسعار المعقولة مع حساب أرباح مجزية جداً للمقاول، فخفض الرجل المبلغ المعروض إلى تلك القيمة وعدل لهم بخبرته، المواصفات الهندسية التي يحتاجونها لإنجاز العمل، مع البقاء ضمن هامش ربح ممتاز، وقدم لهم العرض. وكانت النتيجة أن تم إلغاء المشروع ككل! قال لي: "مساكين العراقيين.. مؤسساتهم لا تعرف شيئاً عن أي شيء، ولا تستطيع حساب أي شيء... إنهم مشروع للإبتزاز والخداع من قبل المحتالين". وقال آخر سمع بالأمر: "لأنك لم تترك لهم ما يستحق أن ترشوهم به في المشروع"! ولا أدري إن كان الخطأ جهلاً، أم فساداً، لكنه مثال ناصع لحالة الفشل الحكومي.

كيف يمكننا إئتمان حكومة لا تستطيع شراء مواد غذائية محددة، على الدخول في مشاريع عقود عملاقة للبنية التحتية بمليارات الدولارات، وعقود الـ "النانو تكنولوجي" الذي تتبجح بأن وزارة دفاعها تعاقدت على شرائه مثلاً؟ من الذي اشتراه ومن الذي يعرفه بشكل كاف ليقدر قيمته ويشتريه، وما أدرانا أنه لم يدفع عشرة أضعاف سعره في مكان آخر، وكيف نعرف أنه مفيد للبلاد وضمن أية خطة علمية تم تقدير ذلك؟ هل هي نفس الأجهزة العسكرية التي اشترت علباً معدنية فارغة (وأنا كمهندس كهرباء وحاسبات مسؤول عما أقول) بملايين الدولارات على أنها أجهزة كشف متفجرات، أم هي جهات أخرى؟ كيف يريد رئيس الوزراء من الناس أن تنتخبه لسنوات متتالية قادمة، وهو يعلن فشله عن إنجاز حتى هذه المهمة البسيطة، وفي ظرف ينتظر منه المعجزات؟

أزمة الحصة التموينية تكشف لنا مواقع خلل خطيرة في الحكومة، وفي علاقاتها الدولية وتوجهاتها الإقتصادية وفي قدرتها على محاربة الفساد في اي جزء مهما كان بسيطاً وواضحاً ومكشوفاً من فعالياتها، وتكشف لنا ازدواجيتها بين ادعاء الفقر وادعاء الغنى حسب موضوع الصرف الذي أمامها وحسب الضغوط التي تستجيب لها.

لقد جلبت الحكومة على نفسها النقد الشديد عندما خصصت ما يعادل 12 دولاراً فقط للفرد الواحد كتعويض عن حصته الغذائية لمدة شهر. ونلاحظ هنا أن الحكومة تتصرف كـ "حكومة فقيرة"، مثلما تفعل ذلك عندما يكون الحديث عن البنية التحتية أو دعم الأرامل والأيتام أو بناء المدارس حيث تقدم مشاريع العمل بالآجل والإستدانة، ولكنها تتصرف كـ "حكومة ثرية" عندما يتعلق الأمر بمصاريفها الخاصة و "المشاريع العملاقة" ويتحدث رئيس الحكومة باستخفاف عن سهولة استدانة عشرات المليارات من الدولارات بالنسبة لـ "دول نفطية غنية كالعراق". أو عندما يرصد المليارات لأسلحة متطورة من اغلى المصادر في العالم (الأمريكية) أو عندما تبدي الحكومة استعدادها الفوري لإستظافة المؤتمرات العربية والدولية والعسكرية، لحكومات لا تمثل شعوبها ولا تجمعها معها أية قضايا أو مصالح مشتركة.

وهي دولة ثرية عندما تخصص للمسؤولين الحكوميين والبرلمانيين رواتب كبيرة ، ثم تعود لتقدم لهم الأراضي والسيارات وتخصص لهم المخصصات عن النقل والسكن وغيرها، وكأن الراتب يقصد به تجميع الثروة فقط!

ومن المثير للإنتباه أن البنك الدولي، المؤسسة التي تأتمر بالأمر الأمريكي أساساً، والذي فرض نفسه على السياسة الإقتصادية والمالية العراقية بحيل وابتزازات تتعلق بشروط تخفيض الديون وغيرها، يعترض على هذه الحصة للفقراء، مثلما يعترض على دعم الوقود وكل دعم موجه للشعب، وقد يكون هو السبب الرئيسي من وراء الستار، الذي دفع الحكومة لتغييرها إلى بدل نقدي تحضيراً للتخلص منها.

لكن هذا البنك لا يعترض أبداً على دعم الأثرياء من المستثمرين والتجار بالتسهيلات والغاء الضرائب، ولا على دعم البرلمانيين بدفع مخصصات سكنهم مثلاً، ولا على دعم الوقود عندما يوجه للحكومة العربية العميلة لإسرائيل، ولا تفكر الحكومة العراقية هي الأخرى في مراجعة هذا الدعم، حتى عندما تشعر وتقر بحاجتها الكبيرة إلى المال من أجل البنية التحتية المنهارة لبلادها، مثلما تتكشى عندما يتعلق الأمر بخدمات الناس، التي تتركها للقروض والدفع بالآجل!

 

لقد تراجعت الحكومة عن القرار، فما الذي يجب أن تفعله الآن؟

لقد وجه هذا الفشل ضربة شديدة للحكومة وسمعتها في وقت حرج للغاية، تصطدم فيه مع خصوم لا يتوانون عن استغلال أية فرصة للقضاء عليها، من الداخل والخارج. وإن استمر الحال هكذا فلن تتحمل هذه الحكومة ضربتين أخريتين حتى تضطر إلى الإستسلام والتراجع عن مواقفها والذي لن يؤدي إلا إلى سقوطها في نهاية الأمر، وهي فرصة لن يتردد خصومها في استغلالها فوراً.

 

لكن الحكومة تستطيع في رأيي، إن لم تكن منخورة بالفساد بشكل ميؤوس منه، ان تحول هذه المشكلة إلى انتصار لها. فيجب أن تعتبر الحكومة قضية نجاحها في إدارة الحصة التموينية، معركة تحد مصيرية  بينها وبين الفساد وتصمم أن تكسب هذه المعركة التي يفترض أنها بسيطة نسبياً، وأن تبرهن للشعب أنها ليست حكومة مشلولة تماماً أمام الفساد وليست منخورة به حتى الرأس. ولا هي أسيرة لضغوط البنك الدولي أو صندوق النقد الدولي، كما توحي تصرفاتها حتى هذه اللحظة. وفي هذه الحالة عليها أن تعيد تنظيم شراء وتوزيع الحصة التموينية ليكون مركزياً حكومياً تماماً، وتضع له الظوابط اللازمة للشراء والتوزيع وتصمم على أن تكون قادرة على فرض عقوبات رادعة على الفاسدين بغض النظر عن انتمائهم. وهذه سمعة أساسية لم تستطع هذه الحكومة ان تحققها إطلاقاً حتى الآن، ومازالت قضية وزير التجارة السوداني على سبيل المثال، تمثل المقياس الذي يرى الناس به هذه الحكومة، والذي تبتلعه وتنكس رأسها خجلاً كلما تم التطرق إليه. فإن تمكنت الحكومة من النجاح في هذه النقطة، تكون قد حولت هذه المشكلة إلى نجاح وأزالت بعض ما لحقها من سمعة سيئة وأعطت المواطن بعض الأمل بأن هناك تحرك نحو الأمام في هذه المعركة المفصلية، معركة الفساد.

 

إن تمكنت الحكومة من الإنتصار في هذه المعركة، وكسبت بعض ثقة الناس، وكانت ماتزال ترى أن تعويض الحصة التموينية بمبلغ نقدي، أكثر كفاءة وأقل كلفة، فيمكنها أن تلجأ إلى نظام تدريجي مختلط يتيح للمواطن أن يختار بين الحصة والتعويض. فتبدأ أولاً بتقدير مناسب لقيمة الحصة، وأن تضع ثانياً نظاماً يربط قانونياً بين مبلغ التعويض النقدي وأسعار المواد الغذائية، بحيث يتغير مع تغير الأسعار، ويكون كافياً لشراء تلك الكميات الغذائية في أي وقت في المستقبل. وأن تشجع الحكومة الناس على التغيير نحو المبلغ النقدي، من خلال فتح الخيار للمواطن للعودة إلى الحصة، إن لم يجد التعويض النقدي مناسباً له في المستقبل، وأن تعمل تدريجياً لكي توازن هذا المبلغ لكي يفضله الناس على الحصة، وينتهي العمل بها هكذا بشكل سليم وبدون قلق واحتجاجات، وتكون الحكومة قد حققت نجاحاً ربما يكون الأول من نوعه، وانتصاراً على الفساد.

 

...............

(1) http://www.almothaqaf.com/index.php?option=com_content&;view=article&id=68788

  

 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2275 الخميس 15 / 11 / 2012)

في المثقف اليوم