قضايا وآراء

في البحث عن الحبكة المفقودة .. عن فيكتور شكلوفسكي / ميادة خليل

 

"الدعوة الى الخلود أصبحت باطلة"

ثيودور أدورنو – الجماليات

 

"كان الوقت مساءاً عندما بدات بكتابةِ هذا"

فيكتور شكلوفسكي – الوتر

 

1.

في عالم الافكار، الزمن يتحرك فجأة و(كما هم مولعون بالقول في افلام الرعب السياسي) بخسائر فادحة. والانماط الادبية تخسر نفوذها. كل المذاهب الفكرية يغلب عليها الشكل الروتيني، عدم المصداقية أو الاهمال. ومن وقت لآخر، الكتاب ينجح في تخليد كاتبه، لكن مع بعض التسويات دائماً.

العبارات باقية لكن الصفحات تزداد مزينةٍ التاريخ، وأصبح من الصعب قرائتها ـــ ليس لأن الضوء قاتم، لكن لأن العالم أصبحت اضواءه تنير من بعيد. أبو كريفا(1).

في بعض الاحيان يحدث ان مؤلف يتمكن من العيش فترة كافية ليرى مصير عمله، ويَشهد بكل صبر على ذلك الشكل المميز للعجز الذي يُشجعه التأليف ويدعو له. فيكتور شكلوفسكي في "الوتر: عن الاختلاف

في المتشابه " و"طاقة الوهم" ــــ عملين عن نظرية الادب تُرجمتا مؤخراً ونشرتا لأول مرة باللغة

الانكليزية من قبل Dalkey Archive Pressــــ هما وصف استثنائي لنوعٍ من الوعي الذاتي السوداوي. الكتابة في عمر شكلوفسكي المتقدم هي رسم نظرية التاريخ الادبي حيث نمت أفكاره في زمن غير عصري. هذه الكتب أكثر من تحف أُلقي بها في ضوء الحاضر: هي أيضاً انعكاس للوعي الذاتي في علاقة الادب بماضيه، وعن أسلوب الانماط الادبية (الانواع، الحبكة، الاستعارة) لتصبح كما يصوغ شكلوفسكي ذلك، " التضحية" أوعية قديمة لا تلائم عصرها.

بالاضافة الى ذلك، نشر هذه المجلدات يعطي القرّاء الفرصة لأعادة تقييم الأرث النقدي الأستثنائي لـــ شكلوفسكي الذي تراكم عليه الغبار. شكلوفسكي ـــ الكاتب الاكثر شهرة من خلال مفهومه " التغريب"، ويعتبر أب الشكلية الروسية ـــ هو حاشية بشكل الزامي و انثولوجي بشكل متكرر، ومع ذلك، أحتلت اعماله مكانة ضعيفة في حجرة الادراج المقفلة لنظرية الادب. الشكلية، تُنفي الطابع التاريخي والسياسي للفن، وتفترض بسذاجة ان الأدب منفصل عن الحياة، وان لغة الادب تمتلك " القوانين الداخلية" الخاصة بها ، وان مضمون القصص غير مهم. الفن لايتعلق بالتواصل الانساني او الخبرات العاطفية او الوعي الاخلاقي. عوضاً عن هذه التقوى الانسانية المزعومة، اوجد الشكليون من امثال شكلوفسكي النهضة البنيوية للأدوات الادبية، كما الاستبداد في لعبة الشطرنج.

شكلوفسكي نفسه تجنب الرد على تلك المجادلات، فلقد كتب في نظريته البارزة عن النثر: " في الفن، الدم ليس رهيباً. لا، انها مجرد قوافي مع التيار" ، دع طرف العبارة يغرق ـــ والفطنة ـــ وسوف ترى كيف أن حدة تفكير شكلوفسكي بأستطاعتها في بعض الاحيان ارباك الاخرين. كذلك نستطيع أن نفهم لماذا في ثقافة الدعاية السياسية الموجهة لما بعد الثورة الروسية، الانتقام امرٌ لابد منه. بسبب معارضته للحزب البلشفي، أُجبر شكلوفسكي على الاختباء، ومن ثم هرب الى المنفى. كتب عن تلك التجربة من حياته بسوداوية قاتمة، مذكرات حرب الهلوسة، التي أسماها (كما أطلق لورنس ستيرن الاسم على مذكراته من قبل) " رحلة عاطفية"A Sentimental Journey . كتب في مجلد " الجماهير " : " الهروب الى البلشفية هو الاسلوب الذي يختبئ به الرجل من العيش باضطراب عقلي"، هذه العبارة لم تترك له صديق. في 1923 رفض ليون تروتسكي الــ " المنهج الشكلي، "ــــ العلامة التجارية لــ شكلوفسكي ــــ " الكاهن المثقف" و " فرانك المتشائم"، اللذان شكلت أفكارهما " علامة واضحة في التراجع الفكري". " هنا لم يعد لدينا القفاز الذي يحمينا من التحولات التاريخية" ويتابع تروتسكي نقدهُ المدمر: " لكن الجلد يتشقق بين الاصابع، يجف الى الدرجة التي ينبغي فيها ازالته بالكامل".

 

من المؤكد أن الجدل الفكري هو علامة صحية للمفاهيم النافعة. فلقد كتب ذات مرة صديق وزميل شكلوفسكي، بوريس ايخنباوم: " قلة هم الذين أشادوا باعمال شكلوفسكي المنشورة، لان كل من يكتب ... يجب ان يحرر نفسه منه اولاً. الذين يشجبونه يقفون ضد نهاية الظلم ". لا احد يستطيع ان يقول أشياء كهذه بعد الان. اليوم، نصوص شكلوفسكي تظل تحدياً وجديرة بالتقدير، مهما يكن، لم تعد نصوصه حتمية. تراجع سمعة شكلوفسكي امر مؤسف، لكن أذكت كتاباته بالاهتمام والوضوح.

عند قراءة شكلوفسكي اليوم، لم نعد بحاجة لاثبات صحة حججه، التي فقدت مصداقيتها منذ مدة طويلة. ماتبقى هو براعته المذهلة، متغافلين عن فترة تاريخية او تابعية، وحركة المد والجزر في المفاضلة  تدفعنا الى صمت مذهل. " ينبغي على المرء ان يتطلع الى تاريخ " التصويرية" "، كتب شكلوفسكي في مقال شهير له عام 1925 في مجموعته " نظرية النثر" :

يتم تشكيل تغييرات التاريخ في صور، لكننا نجد ان تلك الصور تتغير بشكل ضئيل جداً، من قرن  الى آخر، من امة الى اخرى، من شاعر الى آخر، تتدفق الصور بدون تغيير، الصور لاتنتمي الى احد: هي " الرب" . [...] الصور تمنح الشعراء القدرة على تذكرها أكثر بكثير من القدرة على خلقها.

تصريحات كهذه هي السمة المميزة لعمل المفكر خارج حدود المستحسن من معرفته، التي تبدو تافهة لممحاكتها مع استنتاجاته. لم نعد محصورين بابداع شاعر دون آخر، مع اتجاهات او مذاهب، او الدخول في حسابات التجديد الذي يفصل الشعر الجيد عن الرديء. الأدب عوضاً عن ذلك، قدم أسطوانة مسجلة عن فضائحنا الى عالم المورثات وتاريخ الرسوبية لعجزنا عن اختياره. وردة شكسبير لا تشبه وردة شتاين، لكن كلاهما اعاد ترتيب المألوف والتحف المهملة بسبب العوائق الى حالة كينونة راسخة.

 

2.

شكلوفسكي رائد هذا النوع من البصيرة لكن لا تخلو فطنته من بعض التخمين، حيث تبدأ الحياة كما وصفها علم التصنيف وتنتهي كأسطورة. تلك المهارة ظهرت في كلا الكتابين " الوتر" و " طاقة الوهم"، وقد نُشرا أساساً في 1970 و 1981 على التوالي، كتب شكلوفسكي هذين الكتابين في وقت كانت فيه مبادئ الشكلية الروسية مجرد وجود أُستبدل مع ظهور نهج نظري جديد مثل البنيوية وما بعد البنيوية. ولكن هذه الكتب هي ليست كما يعتقد البعض بانها كتب أختزال نظري، كل واحد منها هو ذاتي بصورة مدهشة وتجريبي في الشكل، اعمال نادرة الكثافة مع صياغة تلك العربدة بمتعة محسوبة للعبارات الساخرة والمماطلة ،التكرار والاستعارة. كل النصوص في الكتابين، لكن في كتاب " الوتر" بصورة خاصة، هي تمارين كثيرة في القص كانها اختبارات مجردة من قوانينها.

السرد بالنسبة لشكلوفسكي ليس اسلوباً لتوصيل الافكار، لكنه أسلوب لتعرية الافكار بالقياس الى التناقضات التي يعمل عليها من كل الجوانب. وبالتالي، في " طاقة الوهم" يمكن التغاضي عن جماليات تشيخوف بسرد الحبكة في قصته " المنتقم" لتكون على هيئة هيكل عظمي. منطق تشيخوف كما كتب شكلوفسكي هو : " منطق رجل لديه زوجة خائنة " :

 

يريد قتل زوجته.

يذهب لشراء مسدس.

يعرضون عليه أنواعاً من المسدسات.

لكن عندها يبدأ في التفكير.

أَقتُلُها ؟.

او ربما من الافضل ان يقتل نفسه ؟

أو ربما يقتل الاثنين معاً ؟

لكنه يبدأ بالكلام مع البائع.

ثم لا يعرف كيف سيترك المحل.

ونتيجة لذلك ينتهي به الامر ان يشتري شبكة ليصطاد طيوراً لا يحتاجها.

 

القصة اختزلت الى عشر جمل هزيلة، يبين لنا هذا كيف فسر تشيخوف المأساة حيث تقبل متردد جبان اهانة لا يمكن التعايش معها. شكلوفسكي لم يحلل القصة كثيراً ــــ على سبيل المثال، لم يوظّف ما نسميه بـــ" القراءة الوثيقة" ـــ مثل وصفه المجرد لبنيوية الحبكة وتجريد قصة تشيخوف من هالة الواقعية لكشف بنية القصة ظاهرياً ، أي: " نفي المألوف من خلال المألوف ".

هذا العنف، هو وسيلة ابداعية في القراءة حيث ان احداث الرواية باكملها تُوَجه بشكل روتيني الى جمل قليلة وخشنة. كما لو كان هدف تشيخوف هو ترجمة مشاكل الادب الحديث الى اختزال مصطلح كلكامش المجازي. والنتيجة هي بساطة لاذعة يمكن ان تصنع، في كثير من الاحيان، من أفكاره حول تَغيُّر الاشكال الادبية عبر الزمن الى مجرد قصةِ ما قبل النوم البغيضة. حكاية تولستوي الخرافية المفضلة، يقول لنا شكلوفسكي، هي محاولة وصف الضوء لأعمى:

قالوا ان الضوء يشبه الحليب. اجابوا: هل يعني ذلك أن الضوء ينساب كالحليب.

قالوا ان الضوء يشبه الثلج. أجابوا: هل يعني ذلك ان الضوء باردٌ كالثلج.

قالوا ان الضوء يشبه الورق. اجابوا: هل يعني ذلك ان الضوء له خشخشة مثل الورق.

درس شكلوفسكي هنا هو ان هنالك عنف جذري في قلب السرد. التجربة الابسط لايمكن تفسيرها، وتاخذ ابعاداً غريبة عند محاولة ايصالها الى شخص لايمتلكها بالفعل في عقله، فيبدا برسم سحابة من الاوهام حولها. الاحداث في الادب هي " صواعق" للفطرة. هذا بسبب، كما لاحظ شكلوفسكي " المقارنة توجه العالم للتقارب والعالم ككل يصبح معروفاً". [...] وكما يحدث دائماً، الاختلاف يدفع المواضيع القابلة للمقارنة بعيداً. " الأدب زاخر بالضوء" خشخشة كالورق، " حيث التجربة تصلبت وأضطربت ـــ قال شكلوفسكي :  " التغريب" ـــ بسبب اتجاه الغرابة السحرية للمصطلح.

 

3.

ليس هناك من صدفة في ان كتابات شكلوفسكي تمثل مزيج من النظرية الادبية والحكاية الخرافية في أغلب الاحيان. الناقد الماركسي فريدريك جيمسون في كتابه " سجن اللغة: الحساب النقدي للبنيوية والشكلية الروسية"، أشار الى ان النزعات الفلكلورية في الشكلية الروسية كانت قد وُلدت لضرورة انشاء عالم وقوانين خالدة لنشاط الحركة الادبية. الحكايات الشعبية هي اهداف سهلة لمثل هذا النوع من التحليل، ثم يكتب مضيفاً، لأنها : " تمتلك نوعاً من السرمدية وموضوع متماسك، على العكس من الروايات، التي وُلدت من فوضى التاريخ ". هذا النقد مقبول، لكن لم يوضح لنا تماماً وظيفة لغة الفلكلور في كتابة شكلوفسكي التي على الرغم من نبرتها التي عفا عليها الزمن الا ان لها علاقة بصلته مع البنيوية والطليعية الروسية. هذا ما قصده شكلوفسكي في رواية " المعمل الثالث " 1926 عندما تبنى ظهور أدب بدون حبكة : " غني عن القول ان حبكة النثر الموجه لاتزال موجودة وسوف تستمر في وجودها " ،كتب ذلك في لحظة من التفاؤل الغير مبرر " ولكن تكون قد انتقلت الى العلّية ".  ما اعتقده شكلوفسكي هو بان التجديد الحديث للقصة قد يحل محل الحبكة : " القصة تتكون من حقائق منفصلة متصلة بخيط رفيع. [...] [ في الحكاية،] صراع ـ او بالاحرى تناوب ـــ الادراك من جانب واحد للعمل الى جانب آخر ـــ يمكن تتبعه بسهولة ". التفكير الحكائي متحيز وغير متواصل لذلك يسمح للاحداث والافكار بالوقوف ضد بعضها البعض، لاصلاح ومنافسة بعضها البعض من خلال التصادم. في هذا التوظيف الشكلي للحكاية قد يقترب شكلوفسكي من المعاصر فالتر بنيامين، الذي يعتبر مأثوره خليط من الخرافة والفلسفة، سحرت قرّاءه لفترة طويلة. ومع  ذلك فان نثر شكلوفسكي قد أُفرغ من التصوف الذي جعل كتابة بنيامين غنية بالغموض. رد الفعل المناسب لعبارات شكلوفسكي، هو ليس التأويل ولكن التجميع والتركيب ــ يجب على احدهم أن يجمعها باتباع أسلوب المحققين السريين بجمع القصاصات من صحف مختلفة. نصوص شكلوفسكي مبعثرة ومنفصلة، عَلَّمَ على صفحة بــ " تعنت، صعوبة وتناقض لا حل له "، هذا ما عرّفه ادوارد سعيد ( ومن قبله أدورنو) كعلامة بارزة لــ " الاسلوب المتأخر". الـــ " التوقف، الانقطاعات المفاجئة" للأفكار الذي عرّفه أدورنو في عمل بتهوفن الاخير كان بالنسبة لشكلوفسكي أستراتيجية بنيوية لمدى الحياة، وأسلوب لتهويل علاقات الصراع في التاريخ الادبي من خلال وضعها الى جانب بعضها لابراز التضاد بينها، بالاضافة الى ذلك هي تعبير عن هذيان العصر. " الشباب يخططون طرقهم بكل جرأة نحو المستقبل، " كتب شكلوفسكي في مقدمة كتاب الوتر، " ثم نجدهم، لكن ليس في المكان نفسه [...] أنا أفكر ملياً، أكتب، أجمع الاشياء مع بعضها، ثم اترك لهم اعادة ترتيبها، افعل فقط ما أستطيع فعله، هذه هي الطرق القديمة. اتمنى ان لا تتقاطع معهم " . اسمحوا لي ان أبدي ملاحظة فظة : معظم النقد الادبي تأويلي في طبيعته غالباً، يحرص على اظهار كيفية استخلاص النتائج الدقيقة من متابعة الادلة بعناية شديدة. كلا الكتابين  " الوتر" و " طاقة الوهم" لم يعملا بهذا الاسلوب. شكلوفسكي اعترض مع نفسه باستمرار، جمع الادلة بكل شكوكه، ولكن امتنع عن تحليلها. استنتاجه تدنى خلال النص مثل عملة ضائعة اي محظوظ بما فيه الكفاية سوف يعثر عليها عن طريق الصدفة. في احدى الامثلة، يبحث عن تفسير مسالة عن تولستوي وذلك بسرد مشهد من " حمى البحث عن الذهب" لشابلن، لكنه توقف قبل ان يكمل وصفه للمشهد ( المشهد الذي يدعو فيه شابلن امراة للعشاء، ولكنها لا تظهر في المشهد). بعد مائة صفحة، يلتقط ماتوقف عنده كما لو لم يمر وقتاً  على ذلك. كان فكر شكلوفسكي مهتم بكسر أفكاره مثلما مهتم باثباتها. يقطّع نقاشاته الى مقاطع ومواضيع خلال الكتاب، بحيث عندما نقرأ، نعبر على تقاطعات كثيرة غير متوقعة. هذا النهج يكسب النظرية الادبية كثافة أستطرادية فيما يتعلق بالادب نفسه. بيد ان مبدأ التنظيم يحاذي الاستبداد. أحياناً، يبدو لنا ان شكلوفسكي يسخر من القارئ : " أستطيع ان أضع هذه العبارة في كتابي حيثما اريد" هو يكتب عن نقطة واحدة ، " في الحقيقة، سأضعها هنا مباشرة أو في أي مكان ـــ مثلما يترأس شخص مكان ما دون ان يكون له عنوان ".

 

من أكثر النماذج المتاحة لهذا النوع من التجميع هو بكل تاكيد المونتاج السينمائي، ولن يتفاجا القارئ اذا علم أن خلفية شكلوفسكي السينمائية واسعة النطاق. ألف العديد من المقالات النظرية عن الفيلم، بالاضافة الى دراسة واحدة هي " الادب والسينما". شكلوفسكي عمل أيضاً لسنوات ككاتب سيناريو لمخرجين أمثال ليف كوليشوف وابرام رووم. ويا للسخرية، شكلوفسكي كان متشككاً في البداية من المونتاج. في " الادب والسينما" حاول القول ان طبيعة الانقطاع لحركة السينما غير مؤهلة لها كفن. بعد خمسين عاماً، وفي " الوتر" عرّف الفن فقط من خلال مبدأ الانقطاع. نظرية الفلم صوّرها من منطلق انها ليست له، لكنها للمخرج العظيم سيرجي آيزنشتاين، الذي كتب ان مونتاج الفلم هو : " بُنية، ولدت من تصادم التناقضات، القوة الآسرة التي ازدادت قوتها من خلال مجالات جديدة من ردود الافعال العاطفية من المتابع. ". في " الوتر" حوّل شكلوفسكي تعليقات أيزنشتاين عن التباين السينمائي الى بديهية جمالية توجيهية : " ان أساس كل فن هو دائماً الصراع، " كتب في احدى فقرات الكتاب، وفي فقرة أخرى: " الاساطير لا تتدفق من خلال انابيب التاريخ، انها تتغير وتتفرع، هي تناقض وتدحض بعضها البعض. التماثل يتحول الى التباين"

 

في الاساس هذه الفكرة ليست معقدة كما قد يبدو، شكلوفسكي يقول ببساطة ان الثقافات والقيم تغيرت، وقريباً ستزدهر أدبيات الماضي لتصبح غير مقروءة. ان أساليب الماضي لازالت قائمة حتى عندما ازدهرت اُهملت. " الادب القديم يعيش في الادب الجديد بدون أستئذان، " كتب شكلوفسكي في " طاقة الوهم"، " هو موجود كحيز مغناطيسي أُخضع للتغييرات بعد كارثة فوق سطح الارض. ". حتى الكتّاب أخطاوا قراءة أسلافه، عندما أحيوا نوع قديم، او وجدوا تناقضات في حبكة قد أُلفت سابقاً.، شكلوفسكي أقترح، وهم سقطوا فوق الطابع التاريخي للشكل.  تولستوي حلم برواية قصة يوسف من الكتاب المقدس، توماس مان فعل ذلك في " يوسف واخوته"، لكن أُسيء فهم معناها ( " أحياناً من الصعب قلب الصفحة" يرثي شكلوفسكي الحال) لأنه نسي ان يبدع اي شيء جديد أو مختلف. لتكيف ديناميكي أكثر مع الماضي، مثل " الاسلوب الاسطوري" لجويس في عوليس، لا تخافوا من ازعاج قداسة العرف بتدنيس الحياة العصرية. كل اعادة تشكيل شاملة للشكل الادبي هي ايضاً اعادة ترتيب لــ " امكانيات العلاقات الانسانية المقترحة ":

 

الحركات الانسانية في تناقض. ترتقي من خلال التغيير، تغيير الانظمة، تغيير الوظائف ذات الطقوس القديمة وبناء المجتمع. الحركات الانسانية والتغيّرات الواعية. تاريخ الادب هو سجل لتغيير الوعي.

 

سيكون من الصعب عليك ان تتجادل مع العبارة الاخيرة. بكل تاكيد، حزم وبساطة أطروحة شكلوفسكي مذهلة، ونادراً ما فعل احد قائمة بهذا الطول عن آثار أدب ما وراء التاريخ، وما وراء الثقافة.

 

4.

ربما للمقارنة فقط في اطار محاورة اريك اورباخ " المحاكاة" ، يتبع " الوتر" نهجها من خلال مجموعة مذهلة من الامثلة، تلامس كل شيء من هوميروس وتولستوي، بوشكين وأفلاطون، دانتي و المستقبليون الروس، وصولا الى الحكاية الخرافية وأفلام انطونيوني، "الدلالات اللفظية" لرسومات الاطفال، والبنيوية الشكلية للنكات المضحكة، " التي تضحك عليها من باب الواجب فقط" . وبعد،  فان هناك ايضا انواع من المذكرات، ( من اكثر المذكرات التقليدية، " ماياكوفسكي ودوره"، التي كتبها شكلوفسكي في 1941، ونشرت باللغة الانكليزية في 1972). غارقٌة في شعر الغموض وكذلك الشعر المألوف، " الوتر" لشكلوفسكي هو اختبار حياة وموت للاشكال الادبية التي هي ايضاً انعكاس لعمره المتقدم : التاريخ الادبي بمعناه الاكثر نفضية. كتب شكلوفسكي في التمهيد: " الشباب والاصدقاء قد رحلوا، تقريباً لا يوجد احد أستطيع كتابة الرسائل له او عرض مخطوطاتي. لقد تساقطت الاوراق، ليس في الخريف الماضي فقط. الاوراق تساقطت خلسة. هنا، من دون ان يلاحظها احد. كما تتغير الكلمات في اللغة. "

 

ذكريات شكلوفسكي الشخصية، نُبذت في مكان ما بين السير الذاتية، التراجم الذاتية، والنقد الادبي. تشير مذكراته الى ان القراءة والصداقة هي مهام ذات صلة يصبح من الصعب ان تتراكم في سجل. " هناك أسماء لأشخاص في دفتري القديم لارقام الهواتف لا أستطيع الاتصال بهم بعد الآن. ولكن الاسماء لا تُمحى. "  في حساباته لاصدقائه الذين ماتوا، الذاكرة تمزج التجارب البغيضة بدون قصد، وتكشف نقاط غريبة للتواصل بين الحياة الادبية وقائمة التسوق. " كان لدينا القليل من الطعام،" نقرأ في مقطع عن تعاونه مع أيخنباوم، " الخبز كان ملّون، نوع أشعث، ممزوج بتبن. يمكنك اكله اذا كنت شارداً في مكان آخر. ". عن شبابه مع تاينجانوف، يتذكر ان شقة يوري كانت : " واسعة، خالية، ومليئة بالضوء. لا يمتلك أي كتاب لحد الان [...] وعندما جئت لزيارة صديقي، كنت اريد تعليق معطفي على مفتاح الانارة ــ لم يكن هناك شماعات." . تتطفل ذكريات اخرى، لكنها انقسمت وتبعثرت في جمل مقصوصة، خلقت لحظات لاعترافات غير عاطفية: " ألتحقت كمتطوع [ مدرب في الجيش] بسبب الفوضى، كنت أستخدم رخصة الاجازة لكي انام في البيت" .

 

المرجعية الذاتية لكتابات شكلوفسكي تعطي نظريته عن عصر الادب وخزة اضافية، لانه فهم ان من المستحيل الوقوف بعيداً عن التاريخ. هذه المعرفة المعتزلة تشير ايضا الى ان شكلوفسكي لا يخجل اذا كانت بعض أفكاره غير عصرية. يختم " الوتر" بنقد غير متوقع لـ " الرواية المضادة"، فئة ضمّنها شكلوفسكي روايات كافكا فضلاً عن أفلام أونتونيو وفلليني. مثل خاتمة فيلم " الخسوف" L’Eclisse ( وفيه " العالم المادي يلتهم الكائنات الحيّة") . او كما نهاية فيلم `Blow-Up` ( اثناء مباراة التنس، ضعف " اللعبة بدون كرة"). مخاوف شكلوفسكي هي ان السرد الحديث تخلى عن الارث التقليدي لــ " العمل البطولي": " السخرية لا تساعد احد بعد الان" ، كتب شكلوفسكي، " البطل [...] يُقتطع من العالم. يوضع في برميل مغلق، مثل الامير جفيدون، ويلقى به في البحر. سوف يشعر بايقاع الامواج، لكن لا يستطيع ان يرى أي شيء."  لا داعي لتقبل هذا الشجن، شكلوفسكي نفسه يشعر كم من المضحك بالنسبة له تفسير وجهة نظر عن مثل هذه الاشياء : " سوف يأتي زمان في حياة كل رجل سيُنبذ كل ما هو أنيق معتبراً انه خطأ، ويبقى في سرواله القديم الضيق وقبعته ذات الطراز القديم [...] التنانير العصرية قصيرة جداً بالنسبة لي ". بعبارة اخرى، من خلال الاعتراف بالرضا عن نقده للحاضر، شكلوفسكي يهدف الى تقديم دعم وأضافة الى نظريته في التاريخ. ربما كان على حق في التخلي عن فرضية النقد في الوقت المناسب. نحن الآن بعيدين بما فيه الكفاية لازالة فرضيته من المناقشات التي قدمت شكلوفسكي على ان مناظراته تحتاج حاشية لتصبح مفهومة. بسبب هذه المسافة، الصواب والخطأ بالنسبة لافكاره لم تعد ذا اهمية. من حسن الحظ ان الكلمة الاخيرة عن افكار شكلوفسكي المعمرة تكتب لحد الآن. كما زعم شكلوفسكي بأستمرار أن : اعمال الماضي تزداد قدماً فقط اذا توقفنا عن استخدامها.

 

...................

جوناثان فلوتز: استاذ مساعد في قسم اللغة الانكليزية في جامعة بوسطن، يدّرس الادب الحديث وجماليات الفلم.

(1) ابو كريفا: كلمة يونانية قديمة تعني " أشياء تم أخفاءها"، وفي السياق الديني يشار بها الى نصوص دينية غير موثقة.

  

المصدر: لوس أنجلوس ريفيو

 

 

تابعنا على الفيس بوك  وفي   تويتر

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2280 الثلاثاء 20 / 11 / 2012)

في المثقف اليوم