قضايا وآراء

فلسفة الخيال والوهم عند ابن سينا وتحريف الغرب لمفهومها الاصلي

فالقوى المدركة تنقسم بدورها إلى قسمين: ظاهرة وباطنه . والظاهرة هي قوى الحس الخمسة المعروفة من نحو حاسة البصر والشم والسمع والذوق واللمس؛ أما الباطنة التي هي موضوع البحث التالي، فهي حسب ابن سينا، تنقسم إلى خمس أيضا: القوة الخيالية والقوة الوهمية والتي تدرك المعاني والمراد بالمعاني ما لا يستدعي وجوده جسماً على العكس من الصور التي لابد لوجودها من جسم. أما الثالثة فهي القوة التي تسمى في الحيوانات متخيلة وفي الإنسان مفكرة . ولذلك يقدر الإنسان على أن يتخيل فرساً يطير وشخصاً رأسه رأس إنسان وبدنه بدن فرس إلى غير ذلك من التركيبات. ثم هناك القوة الحافظة وهي التي تحفظ صور المحسوسات وأخيرا القوة الذاكرة وهي التي تحفظ المعاني المنطبعة في القوة الوهمية . لم يرد ذكر للقوى الباطنة في الفلسفة الإغريقية، وعلى وجه التحديد في كتابات أرسطو في كتابات أرسطو، بل هي من إبداع العقل الفلسفي المسلم الذي لم يكن مقامه كما يدعي كثيرون أنه ليس أكثر من ناقل وشارح لفلسفة من سبقوهم.

ومصطلح المعاني (سويا مع مصطلح القوة الوهميةEstimation) هو من إبداع ابن سينا وفي الإنجليزية يعرف (Intentions) وليس meanings [رغم إن مترجمي تهافت الفلاسفة للغزالي يترجمون مصطلح المعاني ب meanings لان الغزالي تناول الرد على أراء ابن سينا في القوة الوهمية في المقالة الثامنة عشرة من كتابه الأنف الذكر] لأن فلاسفة الغرب في القرون الوسطى عند نقل وترجمة كتب الفلسفة العربية، أعطوه مصطلح Intentio اللاتيني ومنه انتقل للإنجليزية بالصيغة الحالية Intentions.

لقد تناول ابن سينا قوى الحس الباطني في معظم مؤلفاته مثل النجاة، الإشارات والتنبيهات، القانون في الطب، عيون الحكمة غير انه ذكرها بالتفصيل في كتاب الشفاء في فصل النفس .

الفقرات بين " " تمثل الاقتباسات في النص الأصلي أما تلك الواردة بين () فتمثل إضافة المترجم لغرض التوضيح .

المترجم

...............

 

مدخل

من المسلم به إن فلاسفة الغرب اللاتيني قد استقوا تصورهم عن قوى الحس الباطنة من الفلسفة الإسلامية، إلا إن عرضهم لها أغفل عن إدراك الطبيعة المعقدة لوظائف هذه القوى بمعنى انهم لم يتمكنوا من سبر غورها إلى الحد الذي أدى بهم إلى التقليل من شأن الاختلافات بين علمين من أعلام الفلسفة الإسلامية وهما ابن سينا وابن رشد، فضلا عن سوء فهمها (أي الاختلافات). وأحد تلك المسائل هي الفهم الغربي للقوة الوهمية التي كانت من بنات أفكار ابن سينا حيث رفضها ابن رشد معتبرا إياها على أنها إضافة وزيادة لا قيمة لها على المفهوم الارسطي للخيال(فنتازيا). وكان للقوة الوهمية، في إطارها السيناوي، مقاما مهما في تعليل وشرح خصائص الإدراك البشري والإدراك الحيواني. وبخاصة أن ابن سينا سلم بوجود قوة وهمية بشرية إضافة للعقل لغرض تفسير وتعليل مجموعة من الأحكام البشرية المعقدة السابقة على العقل ولكنها اكثر من كونها مجرد محسوسات. غير إن الغرب تجاهل وجود مظاهر بشرية للقوة الوهمية، معتبرا إنها في الحيوان هي نظير ومكافئ العقل العامل أو أنها يعوضها عند الإنسان القوة المفكرة التي لها عند ابن سينا(أي القوة المفكرة) وظيفة إدراكية مختلفة تمام الاختلاف عن الوهم. وبنفس المأخذ، فقد نظر لرفض ابن رشد للوهم السيناوي على انه اختلاف تقسيمي حول عدد قوى الحس الباطنة (هل هي أربع أم خمس) ولم ينتبهوا للفروقات الجوهرية بين فهم ابن رشد فهم ابن سينا للوظائف الادراكية للحواس الباطنة. تتناول هذه الدراسة عرض تفسير البرت الكبير وتلميذه توماس الاكويني في ضوء الأصل العربي لها وسبب تحوير المصادر العربية والنتائج الفلسفية لهذا التحريف .

 

- 2 - الأصل السيناوي

رغم أن وجهة النظر السائدة في القرون الوسطى، عن الحواس الباطنة كانت قائمة على أساس وظيفي (فسلجي) وأساس وصفي، إلا أن ابن سينا، يعتمد الأسس المعرفية الثلاثة التالية الخاصة بتمييز الملكات أو القوى،لاستنتاج عدد قوى الحس الباطنة:

-أ - لابد من وجود، لكل نوع من أنواع المحسوسات، قوة خاصة تدركها. إذ تتضمن الحواس الباطنة نوعين من الأشياء هما صور المحسوسات المشتركة منها والخاصة ومعاني هذه المحسوسات .

-ب - يجب التفريق بين القوى التي تصرف بأشيائها المحسوسة بصورة فعالة وبين القوى التي تنطبع أشيائها المحسوسة عليها سلبا لان السلب والإيجاب متناقضان .

-ت- أخيرا لا يمكن للقوة الواحدة (أي القوة نفسها) أن تستقبل الشيء المحسوس وتحتفظ به لأن الاستقبال يستدعي مادة غير مستقرة على العكس من الحفظ الذي يحتاج مادة ثابتة .

 

وبتطبيق هذه المبادئ أعلاه، تمكن ابن سينا من طرح نموذجه التالي(المتميز بثنائية قوى الاستقبال – الحفظ المقترنة عبر القوة المتخيلة) عن الحواس الباطنة وفيه: (1) الحس المشترك يستقبل الصور المحسوسة من الأحاسيس الخارجية بينما تقوم القوة المصورة أو الخيال بحفظ هذه الصور و(2) القوة الوهمية تستقبل المعاني التي تقوم القوة الذاكرة بحفظها. وأخيرا تقوم القوة المتخيلة بتركيب وتقسيم الصور المحسوسة ومعانيها مع بعضها البعض. ويبدو أن ابن سينا يرى نشاط القوة المتخيلة على انه نشاط عشوائي وغير موجه بذاته وربما حتى دون وعي. وبقدر كون القوة المتخيلة فعالة بالفطرة، فلا يبدوا أنها تتوقف عن النشاط(العمل) ولهذا نجد وظائفها تستمر بصورة الأحلام عند نوم الحيوان. ولهذا ففي حالة الوعي، يكون لكل من القوة الوهمية أو العقل سلطة التحكم بوظائف القوة المتخيلة وفي حالة تحكم الأخير(أي العقل) فأنها لا تعمل بوصفها قوة متخيلة بل كقوة مفكرة . ولهذا بينما توجد قوة متخيلة واحدة فقط في أي روح حاسة، سواء أكانت حيوانية أم بشرية، إلا إن هذه القوة المفردة، في حالة الروح الإنسانية لديها مظهرين أو صورتين مختلفتين اعتمادا على كيفية النظر إليها من حيث جهة التحكم بها يعني تحكم العقل أم القوة الوهمية .

 

واهم ما يميز أطروحة ابن سينا في القوة الوهمية هو قوله بوجود خواص ترتبط بالصور المحسوسة وبالخيالات المحسوسة ولكنها تختلف عنهما بالنوعية ويسميها المعاني. وحين يسعى أبن سينا لتفسير المقصود بالمعاني يفسرها بالقول أن المعاني ليست هي بحد ذاتها مادية رغم أنها تلتصق بالصور المحسوسة المادية وتدرك مقترنة بها دائما. والأمثلة التي يضربها – واشهرها كيف أن الشاة تدرك عداوة الذئب- تشمل خواصا متعلقة بالانفعالات كاللذة والألم وكذلك خواص متعلقة بالحركة. وعلى أساس هذه الأمثلة يقرر أبن سينا إن المعاني لا يمكن أن تكون مادية لان الصور المحسوسة كاللون والشكل وغيرها تخص المادة وحدها بينما خواص الميل الغريزي كالخير والشر إنما توجد عرضيا في الأجسام لان العقل يدركها بتجرد تام عن المادة .

 

إن منطق أبن سينا في تعليل وجود المعاني مستقلة عن الصور المحسوسة هو الأتي: بما أن كل حاسة من الحواس الخارجية تقترن بخاصية محسوسة مفردة- النظر واللون، السمع والصوت وهكذا مع بقية الحواس-فان الإحساس الخارجي ككل يمكنه فقط أن يدرك المحسوسات الخمس والخواص المادية الأخرى التي تعبر عنها مباشرة وهي المحسوسات المشتركة للحركة والشكل والمقدار. ومن هنا يتبين لنا انه لا يمكن القول حرفيا إن الشاة " تشم الخطر" في رائحة الذئب أو إنها " ترى العداوة" في عيون الذئب لان حاسة الشم تدرك الروائح فقط وحاسة النظر تدرك الألوان والأشكال. بل يمكن القول بالأحرى أن الشاة سوية مع رؤية الذئب وشم رائحته، يجب أن تدرك "معاني" العداوة والخطر في عيون الذئب مباشرة عبر ملكة أخرى وهذه الملكة أو القوة هي القوة الوهمية. ويستطرد أبن سينا القول بان هذه القوة بلا شك موجودة في بني البشر والتي يعزو إليها عددا من الوظائف والتي بعضها محض بشرية وتنتج من الوجود المشترك لقوى عقلية ووهمية بشرية في الروح البشرية بينما الوظائف الأخرى تكون مشتركة بين الإنسان والحيوان. وتكون جذور هذه الوظائف الإضافية متأصلة في القوة الوهمية التي يعتبرها ابن سينا أنها أسمى قوة في الروح الحيوانية بل أنها القوة المتحكمة فيها ويعبر أبن سينا عن مقامها بمصطلحات الحكم والسيطرة وهذا يقود ابن سينا أحيانا إلى أن يعزو للقوة الوهمية مسؤولية كل القابليات الادراكية في الروح الحاسة .

 

ومن بين الأحكام المسنودة للقوة الوهمية هو الإدراك العرضي الأرسطي والذي يربطه ابن سينا بالقوة الوهمية لكي يوسع فكرة المعاني لتشمل أي خاصية والتي أثناء حملها إلى(العضو) المدرك بأي قوة حسية،لا تؤثر على أي عضو من أعضاء الحس " عند وقت الحكم"، مثلا عندما "أرى" إن ذلك الشيء الأصفر هو عسل وحلو. ويتطلب هذا الإدراك العرضي استدعاء المعاني وذلك لعدم وجود أي شئ في الفعل الإدراكي الحادث يعلل ويبرر الحكم الحسي الصادر منه. فالعين لا ترى العسل ولا الحلاوة ومع هذا يستطيع(العضو) المدرك أن يدرك بصريا إن " الأصفر حلو". وفي مثل هذه الحالة رغم إن مادة الإدراك هي طبيعتها شئ محسوس، إلا أنها ليست شئ محسوس بالنسبة لعضو الحس المعين. ولذلك فان هذه المحسوسات، مثلها مثل الخواص غير المحسوسة بذاتها، يجب أن تحمل(الشيء) المدرك لا من حيث كونها محسوسات، بل من حيث هي معاني غير محسوسة تصاحب الصورة المحسوسة .

 

و الإدراك العرضي هو أيضا إحدى وظائف القوة الوهمية المشتركة بين الإنسان والحيوان، على ابن سينا لم يصرح بذلك. وان تلك الوظيفة- أي الإدراك العرضي- شديدة الصلة بمجال أخر للقوة الوهمية المتمثل بكونها -أي القوة الوهمية- ملكة الإدراك الترابطي في الروح الحيوانية وعلى أنها الناقل الوحيد لأي نوع من الوعي الذاتي في الحيوانات غير البشرية .لان القوة الوهمية في الإنسان تمتلك أحكام خاصة والتي تكون أحيانا بسبب طبيعتها الوهمية، في صراع وتناقض مع أحكام العقل. وقد شخص أبن سينا هذه الاعتقادات إلى أنها تلك الاعتقادات التي تنتهي بالإنكار المطلق لأي حقيقة خارج إطار الحقائق المادية الموصوفة ضمن الصور المحسوسة. ويؤكد ابن سينا أن هذه الاعتقادات تكون موجودة في الإنسان لأنه رغم امتلاك القوة الوهمية لمعاني غير محسوسة كأشياء خاصة بها لأنها – أي القوة الوهمية- تمتلك فقط تلك المعاني التي تقترن مع الصور المحسوسة الموجودة في الخيال وبذلك تجبر الوهم على "إعاقة وجود الأشياء التي لا يمكن تخيلها والتي لا تنطبع في [ الخيال] فضلا عن عدم قبولها ".

 

وقد تحدث هذه التناقضات، في عالم الواقع بين الوهم والعقل فمثلا عندما نستجيب بصورة طبيعية فسلجية إلى إيحاء مقرف حتى عندما يتجاهله العقل،حيث يتغلب رد فعل حساس على قدرتنا على الاستجابة المنطقية لانفعالاتنا العاطفية. وباستخدام الاستعارة يوضح ابن سينا كيف إن الأحكام الوهمية تؤثر رد فعلنا لشيء حتى لو يتجاهله العقل: فمثلا قد يبدو العسل لشخص ما مقرفا لان أحدا ذكر له انه يشبه المرارة. ومعلوم إن ا لمرارة والعسل يتشابهان مظهريا عند عرضهما على الأحاسيس وعندما تقرن القوة الوهمية مظهر العسل بمعنى المرارة (القرف) فان الروح الحيوانية ترد برد فعل عكسي . في حالة الإدراك البشري، حتى لو يزيف العقل الارتباطات الوهمية(يعني إنني اعرف حقا أن الشيء الذي أمامي هو (عسل) إلا أن رد فعلنا الغريزي لا يزال يتبع آليا حكم القوة الوهمية (افقد شهيتي للعسل) لان الشهية هنا هي شهية أحاسيس وتظهر غريزيا عند إدراك معنى ما .

 

وسبب حدوث هذين النوعين من أحكام الوهم الخاطئ هو وجود الوهم في الإنسان، حسب ابن سينا، سويا مع وجود العقل. ولان الوهم يعمل " كمرشد وحكم" في الحيوان، نجد أن الإنسان يمتلك حقا قوتين للأحكام متصارعتين والتي كل منها لها سلطتها في محيطها الخاص بها. وبقدر كون القوة الوهمية مستقلة ذاتيا في الروح الحيوانية، فإنها تعامل كل من الأشياء المحسوسة والأشياء المتخيلة على أنها مقياس للواقع والحقيقة وتميل طبيعيا لإنكار وجود أي شئ غير خاص وغير مادي. ومع ذلك، بما أن الوهم ليس عقلا، فان حكمه ليس قطعيا ويمكن تجاهله ولكن إذا تحكم في الروح البشرية فانه سيصدر الأحكام الخاطئة. وقد تصبح القوة الوهمية في الإنسان منطقية" وفي مثل هذه الحالات يوفر التعاون بين الوهم والعقل عند الإنسان إلى تعميق فهمه النظري عن العالم المادي وإضافة منظور جمالي على العالم المحيط به وتحويل نزوعه الحيواني إلى عواطف بشرية خالصة والتي من بينها الخجل والضحك والبكاء .

 

-3- أبن رشد وفهمه لوجهة النظر السيناوي:

يمكن تلخيص وجهة نظر ابن رشد حول ما أتى به ابن سينا في مسالتين:

3-1- يرفض ابن رشد جملة وتفصيلا قوة الوهم التي أتى بها أبن سينا سواء في الحيوان أم في الإنسان إذ يرى أنها في حالة الحيوان ليست سوى إضافة لا طائل منها لوجهة النظر الارسطية عن الخيال التي يرى أنها كافية لتفسير كيفية إدراك الحيوان للذة والألم ولهذا فأنها تكفي لتفسير سلوك الحيوان في حالتي طلب الشيء أو النفور منه. وفي حالة الإنسان يرى أبن رشد أن القوة المفكرة تحل محلها .

 

وبناء على ذلك يختزل عدد القوى الباطنية إلى أربع فقط وهي: الحس المشترك، الخيال، القوة المفكرة والقوة الذاكرة. وفي الواقع فان أبن رشد بتقسيمه هذا قد حذف قوتين من قوى الإحساس وليس واحدة وهما المتخيلة والقوة الوهمية ناسبا وظائفهما أما إلى الخيال أو الوهم في الإنسان ويتأسس على ذلك انه يترك الحيوانات غير البشرية بقوتين فقط من قوى الحس الباطنة وهما الحس المشترك والخيال .

 

3-2- يقبل أبن رشد بوجود المعاني على إنها أشياء إدراكية منفصلة عن الصور المحسوسة، غير انه يقرنها ويربطها بالعمليات الادراكية للقوتين المفكرة والذاكرة. ولكن نجد إن ارتباط هذه المعاني بخواص مثل الصداقة والعداوة يختفي تماما من تحليل أبن رشد. ورغم انه يعتبر المعاني ذات مضامين روحية أكثر من الصور، إلا انه لم يعد يعتبرها على أنها خواص غير محسوسة . وبدلا من ذلك، يعرف المعنى على انه الشيء الذي يحمل وينقل وعيا ومعرفة عن الفرد من حيث هو فرد وهي وظيفة أو تعبير موجود تلميحا في أطروحة أبن سينا عند ربطه المعاني بالإدراك العرضي. وفي راي ابن رشد فان هذه المعاني الجزئية تؤدي مقاما ذي شان في تفصيل وتوضيح أمرين مهمين في الإطروحات النفسية عند أرسطو وهما الإدراك العرضي والذاكرة .

 

يقدم أبن رشد، في تعليقه على الإدراك العرضي في كتابه الشرح الكبير على كتاب النفس لارسطو، المعاني على أنها الأشياء التي "تعزلها" القوة المفكرة عن الصور المتخيلة " تجردها" من الأحاسيس الخاصة والمشتركة. والأمثلة التي يوردها أبن رشد هي " هذا الإنسان الفرد " وهذا الحصان الفرد". ويؤكد ابن رشد،على خلاف أبن سينا، إن إدراك مثل هذه المعاني يقتصر على حواس البشر ولذلك فانه يمكن عزو تجريدها-أي المعاني- لقوة بشرية مختلفة والتي تكون بطبيعتها تحت سيطرة العقل ويعني بها الملكة المفكرة .

 

وفي أعمال ابن رشد المبكرة عرض لفكرة المعنى التي يحللها ويعرضها سويا مع تكوين الذاكرة-الصورة. وفيها تتكون (الذاكرة- الصورة) من صورة الشيء الذي يتم تذكره سويا مع معناه حيث تدرك ملكة الخيال الصورة بينما تدرك ملكة الذاكرة المعنى. ويوضح ابن رشد الفرق بين الصورة والمعنى بالمثال التالي عن ذاكرة- صورة شخص ما وليكن زيد. فصورة زيد تمثل وتشير للخواص الخارجية المحسوسة والتي يمكن لمصور أن يصورها أما المعنى فيشير إلى زيد على انه " الشخص المشار إليه. ويصف المعنى، مجازيا،على انه " ثمرة" الشيء المتذكر وان الصورة هي" القشرة". وفي النهاية تحتاج الذاكرة إلى فعل تفكري ثالث إضافة لإدراك الصورة والمعنى والذي يكون على وجه التحديد تركيب الصورة والمعنى معا وبذلك تعطي الاستنتاج بان كليهما يشيران إلى شئ واحد وفي مثال زيد، تشير إلى صورة زيد وليس فقط شخص ما. ويعزو هذا الاستنتاج إلى الملكة المفكرة .

 

ورغم انه يوضح بهذا العرض عمل الذاكرة إلا انه يؤكد بذلك لابد من وجود كل العناصر الثلاثة في أي فعل من أفعال الإدراك الحسي والتي يتم فيها فهم أي شئ محسوس على انه فرد معين يطابق الوصف المادي المعين. وهذا يعني عدم اقتصار وظائف ملكة الذاكرة على تذكر أو حفظ الأمور التي تحدث في الماضي بل أن أهميتها تتعدى مجرد التذكر لتشمل مشاركتها في عملية التحليل الحسي والتي يتم خلالها الحصول على كل المعرفة التي تخص أفراد معينه. وفي هذه العملية التجريدية تقوم الحواس الخارجية أولا بإدراك الشيء الخارجي ثم تنقل بياناتها إلى الحس المشترك وبعدها تقوم القوة المصورة أو قوة الخيال بتكوين صورة للشيء المحسوس ومن ثم تقوم القوة المفكرة أو المميزة بفصل معنى ذلك الشيء عن وصفه المادي الذي تتضمنه الصورة وأخيرا تقوم القوة الذاكرة باستلام المعنى مجردا .

 

توضح من العرض أعلاه أن الوظائف الأساسية للحواس الباطنة مختلفة تمام الاختلاف عما عرضه ابن سينا. وتوضح أيضا كيف أن القوة المفكرة عند ابن رشد لا تحل محل القوة الوهمية ولا تعوضها بمفهومها السيناوي، لان المفهوم السيناوي يرى أن قوة الوهم تدرك المعاني مباشرة – عدم وجود عملية تجريدية قبل استلام المعاني من قبل القوة الوهمية لان المعاني وفقا لابن سينا ليست "ثمار" فردية يتم بلوغها حال إزالة القشرة التي تغطيها. إنها –أي المعاني- تصاحب الصور المحسوسة لا من حيث كونها موادها الضمنية الأساسية بل كخواص عارضة والتي تفلت من ملاحظة الحواس الخارجية نفسها. فضلا عن ذلك، نعرف ان القوة الذاكرة في المفهوم السيناوي ليست سوى مستودع للمعاني الوهمية وليست لها قابليات إدراكية خاصة بها، بينما نجد أن ابن رشد يضفي عليها القابلية الوحيدة لاستقبال وإدراك المعنى المفرد المجرد من كل قشوره. بمعنى أنها-أي الذاكرة- ليست مستودعا بل ملكة إدراكية لها معانيها الخاصة بها. وبنفس المأخذ، فالقوة المفكرة ليست عند ابن رشد، هي القوة التي تفسر وعينا عن المعاني بل ببساطة هي عبارة عن قوة تجريدية أو قوة دمج تهيئ استقبال المعنى من قبل قوة الذاكرة. وعليه، وفقا للفهم الرشدي، انه فقط من خلال الذاكرة نتمكن من إدراك الأفراد وأنها- أي الذاكرة- هي أهم قوة روحية لان إدراك فردية الشيء هو حد التجريد في الروح الحسية وهي النظير الحسي (المحسوس) لتجريد الجوهر العام .

 

-4- البرت الكبير: الوهم عقل الحيوان العملي

إن أهم ما يميز وجهة نظر البرت عن الحواس هو فهمه للوهم والفانتازيا (القوة المتخيلة) على انهما نظائر الروح الحسية للعقل العملي والعقل النظري الظني: "اذ ان تحصيل المعنى بوساطة الحقيقة الظنية وحدها يختلف عن تحصيله بوساطة – عن طريق- فكرة مرغوبة أو مبغوضة حيث تقوم الفانتازيا اولا باستقبال المعنى ثم تليها القوة الوهمية". وهو بهذا يرد على الاعتراض القائل بان وظيفة الوهم في توفير الميل الحسي تجاه الأشياء المرغوبة أو المكروهة يجعل الوهم باعثا اكثر منها قوة إدراكية. ويتمثل حل البرت لثنائية الباعث-الإدراك بإضفاء،على كل جانب من جانبي الثنائية، بعض الشيء بطريق التحليل الهجين (الثنائي) للإدراك العملي. تتميز خواص القوة الوهمية مثلها مثل العقل العملي، بكونها مدركة وباعثة. وبقدر تضمين عمليات الوهم لاستقبال بعض الأنواع " كمبدأ للإدراك" فيسلك الوهم سلوك القوة التنبؤية حتى لو كانت المعرفة البسيطة بالشيء ليست الغاية الأساسية لفعل القوة الوهمية. وعلى العكس من ذلك، باستخدام المعنى الدقيق للباعث, فتلك القوى التي تبدي وتحدث حركة مادية في الحال في عضو من أعضاء الجسم، يعني قوى الميل الغريزي، وحدها تعتبر بواعث. ومع ذلك فان القوى الادراكية العملية مثل العقل العملي، والفانتازيا العملية والوهم تعتبر كلها بواعث بالمعنى العام غير المتخصص بقدر أحداث عملياتها الادراكية حركة عبر قوى الميل الغريزي المصطفة معها .

 

إن إحدى نتائج فهم البرت للوهم على انه النظير الحيواني للعقل العملي هي اعتماد الوهم على الخيال (فنتازيا) بالطريقة نفسها التي يعتمد فيها العقل العملي، حسب وجهة نظر البرت، على الفهم النظري المسبق لمادته:" الوهم قوة تتبع الفنتازيا وتختلف عنها لأنها- أي الفنتازيا - هي التي تقرر طلب الشيء(تعقبه) او تجنبه بالقياس للمعاني المسبقة التحصيل والتي تكون- أي المعاني- مقترنة مع تركيب الفنتازيا وانقسامها رغم أنها لا تتحصل من جهة الأحاسيس. وفي الترتيب الزماني، فالفنتازيا هي التي تكون قريبة الصلة بالمعاني بعد أن تكون الفنتازيا قد عملت على الصور بهدف " تركيبها وتقسيمها لأجل استحثاث المعاني الحقيقية والكاذبة" يأتي دور الوهم لاستخدام هذه المعاني لتوجيه حركة الحيوان. يتبين مما عرضناه حتى ألان كيف أن البرت يبتعد عن الفهم السيناوي لأنه – اي البرت- يعكس تسلسل وترتيب الأسبقية بين قوى الفنتازيا والوهم . في الفهم السناوي، نجد أن المعنى هو مادة الوهم الخاصة به وحده، وان الوهم متميز بقابليته الوحيدة على إدراك المعنى بينما القوة المتخيلة تتعامل مع المعاني للحد الذي تكون فيه المعاني داخلة ضمن المواد التي يكون فيها للقوة المتخيلة تصرف بها(سيطرة حرة عليها)- علما إن التصرف يكون أيضا عرضة لتحكم الوهم فيه .

 

وفي مكان أخر من كتابات البرت في تعليقه على كتاب النفس لارسطو يعيد ذكر الوهم على انه النظير الحيواني للعقل العملي،ولكنه الآن يضع القوة الحافظة على أنها المكافئ الحيواني للعقل الظني .وهذا التحول في تفسير البرت لطبيعة الخيال يؤثر على فهمه لوظائف الوهم المتمثلة بتجريد المعاني وتقرير حركة الحيوان تبعا لها. وهذا بالمقابل يسمح لالبرت أن يعرض منطقا جديدا لوجهة نظره بان الخيال وليس الوهم هو الذي يحمل مرتبة الإدراك العظيم الذي تملكه الروح الحسيه. يمكن تعليل الترتيب النسبي لهذه القوى على أساس أن كل الحيوانات تمتلك الوهم والخيال غير أن تلك الأكثر كمالا- من بينها- تمتلك الفنتازيا أو القوة المتخيلة. واعتمادا على تحريفه لوظائف الخيال والقوة الحافظة والوهم، يؤسس ترتيبا جديدا لهذه القوى على أساس درجة التباين بين السلب والإيجاب في عمليات هذه القوى. فالقوة الوهمية هي أعلى مرتبة من القوة الحافظة لان الأخيرة هي قوة سالبة بينما الوهم عبارة عن قوة موجبة من حيث أنها تجرد المعاني. ومع هذا ففي الوهم نجد أيضا بعض السلبية من حيث " انه لا يعمل بنفسه بل عبر معنى ما يستخلصه من الصورة المكتسبة". بينما نجد أن الخيال فعال بذاته. والأمر الجدير ذكره هو أن البرت لا يكتفي بتغيير مرتبة القوة الوهمية بل يتعداه إلى تجريد وظيفتها وإعطائها للفنتازيا. بينما نجد أن ابن سينا يؤكد تكرارا بان الوهم، كحاكم رئيسي في الروح الحيوانية، يستخدم كل الأحاسيس الباطنية الأخرى كأدوات له فضلا عن نشاطاتها أيضا .ويعوض البرت الفنتازيا بالوهم على أنها القوة الأصل في الروح الحسية:" يبدو أن الشكل العام للقوة الحسية يكون موجودا في الفنتازيا..? ويبدو أيضا أن قوى الإحساس الباطنة كلها تكمن في جوهر مشترك واحد وفي مادة مشتركة واحدة ولكنها تختلف حسب كينونتها المادية في أجزاء الدماغ المختلفة حيث مكان وجودها .

 

ولمعرفة فهم البرت للمعاني نجده يبتدأ من الفهم السناوي لها ولهذا فالمعاني تعامل على أنها خواص غير منطبعة أو متحصلة من قبل الأحاسيس نفسها ومع ذلك فأنها تصحب الأحاسيس دائما.والأمثلة التي يضربها هي من جنس تلك الأمثلة المتعلقة بالميل الغريزي من نحو الصداقة وحسن المعاشرة وأضدادها، ويورد البرت أمثلة أخرى عن الإدراك العرضي نحو قولنا" هذا هو أبن فلان وهذه هي شاة أو هذا هو إنسان ولكن ذلك هو ذئب أو أسد". ويؤكد البرت أن هذا النوع من المعرفة يتضمن دائما الإدراك المصاحب " للصور الجوهرية" المتحصلة بوساطة الأحاسيس ولهذا لا تحدث أبدا " دون وجود الوهم والمقارنة "

 

وفي مكان أخر نجد أن البرت يجعل الوهم وحده مسوؤلا عن تحسس كل المعاني سواء أكانت موجهة عمليا ام لا ولم يذكر الخيال على انه القوة التي تتعامل مع المعاني بطريقة ظنية محضة وهو ما يناقض تأكيده المستمر على تعريف الوهم على انه نظير العقل العملي. وهذا يوحي بان البرت يعتقد بوجود خيط جامع يشكل أساس تحسس صفات الميل الغريزي والتحسس العرضي وهذا يتطلب تفسيرهما معا كحالات لإدراك المعاني ويبدو أيضا أن ذلك الخيط الموحد الجامع يكون موجودا في (افتراضهما المشترك) قابلية ما لفهم شي ما على انه فرد حيث ان البرت يحاجج لاحقا من أنه " ليس هناك ذئب رءوم عطوف على ذريته (صغاره) ما لم تتحصل لديه معرفة هذا الفرد ومعرفة حقيقة كون هذا الفرد هو من ذريته ".

 

ولكن كيف يفهم البرت هذا الترابط المزعوم بين المعني والفردية؟ هل إن المعنى هو صورة للفرد بما هو فرد حسب الفهم الرشدي؟ يبدو إن الأمر ليس كذلك لان البرت يعلن بوضوح أن معاني الوهم مساوية تماما للمعاني بمفهومها العام كأشياء مشار إليها من حيث وجودها في أي قوة إدراكية. وبخلاف أبن سينا، لا يفهم البرت " الشكل" في هذه السياق، بتناقضه مع المعنى، بأنه محسوس خاص أو مشترك بل يفهمه ويتخذه بمعناه الميتافيزيقي ليدل على" ذلك الشيء الذي،بالإخبار، يهب العمل للمادة ولمركب المادة والشكل". وعلى نقيض المعنى الميتافيزيقي للشكل، فان معنى ما (من المعاني) ليس إلا صورة الشيء التي تبدو لبعض قوى الإدراك: "والتي من خلالها يسمى الشيء [الذي يعرف فرديا او كليا وفقا لدرجات التجريد المختلفة] معنى ."

 

ونتساءل كيف ان هذا الفهم للمعاني يسهم في تفسير عزو كل من قابلية الحس العملي والادراك العرضي للقوة الوهمية؟ رغم ان البرت يسلم بهذا جدلا، الا انه يمكن ان نستجمع من خلال ملاحظاته عن كيفيةان الادراك العرضي يتضمن تحصيل الشئ بكامل جوهره.ويحاجج البرت بما ان المعنى يتحصل باستقبال علامة الشئ في بعض القوى الادراكية، فانه، خلاف الشكل الذي يحمله، يمثل الشئ بكامله وليس جزءا منه:

 

ولهذا فالمعنى ليس جزءا من الشئ كما هو حال الصورة بل هو المعرفة الكاملة للشئ. وعليه، بما ان المعنى مجرد من الكل ومعزول عنه وهو مغزى الكل، فيمكن التنبؤ به من الشئ لان معنى الشئ الملون الموجود في العين،يعلن عن الشئ كله تماما مثلما المعنى الموجود في التخيل يعلن عن الخاص غير الموجود .

 

وهذا يعني بما ان العين نفسها قادرة فقط على رؤية شكل اللون، فانها تفعل ذلك بفضل الشئ الملون كله. وتأسيسا على هذا فان اي قوة ادراك، بما في ذلك قوة الحس الباطنة، يمكنها ان تحس المعنى المحمول عبر الصورة المحسوسة وبذلك تتمكن من تحصيل كامل الشئ المفرد كما هو مصور في المعنى .

 

يمكن النظر الى معالجة البرت للمعاني الوهمية وقصرها على تحصيل كينونة المعنى على انه جمع هجين لاراء ابن سينا وابن رشد عن وظيفة المعنى في العمليات الادراكية للروح الحسية. وقد وجدنا ابن سينا يقرن وظيفة الادراك الترابطية لقوة الوهم ضمن روح الحيوان بالمعاني وانه يعرف بعض انواع المعاني على انها خواص وصفات تمثل الفرد بكليته.غير ان ابن رشد يرى ان المعاني ليست سوى ما تجعل الفرد يعرف بانه ذلك الشخص المشار اليه. ورغم ان البرت لايخبرنا بوضوح كيف ان تصوره عن المعاني يفسر ارتباطها بالخواص الانفعالية وبخواص الميل الغريزي، إلا انه- البرت- يعتبر الوهم اساسا كموجه ومخبر اكثر منه ادراك حسي. وهكذا تتوضح اخيرا الصورة التي نخرج بها عن فهم البرت للمعاني وهي ان القوة الوهمية تتخلل وتنتشر مع قوة تمييز اي محسوس على انه تمثيل وصورة للفرد الكامل، وهي قوة لها قابلية ادراك المحسوس بانه يمتلك كينونة معنوية(= كينونة معنى) او كينونة ادراكية اكثر منها كينونة حقيقية. وحال تحصيل وادراك ذلك الفرد بتماميته، فانها قادرة على ان تحكم هل هو عدو ام صديق وبالتالي اتخاذ الموقف المناسب تجاهه .

 

-5-توماس الاكويني: نظرة توليفية

رغم انه لم يكتب سوى بضع مقالات حول قوى الحس الباطنة، وبمجملها قصيرة، الا ان شهرته كفيلسوف وكمتكلم جعلت من كتاباته من اشهر النصوص المعروفة عند مؤرخي الفكر الفلسفي ودارسي القرون الوسطى .

 

وفي عرضه لنظرية الحواس الباطنة يقبل الاكويني الاطار الاساسي لفكرة ابن سينا ومع ذلك يرفض بعض مظاهرها الخاصة منحازا ومفضلا البديل الرشدي. يحاول الاكويني مثل ابن سينا، تبرير رؤيته عن الحس الباطني عن طريق استنتاج تميز القوى الداخلية وفقا لمجموعة مبادئ مقررة. ولكن بخلاف ابن سينا لايستعين بالمبادئ المعرفية مباشرة بل بالمبادئ الغائية للطبيعة، بمعنى اخر: بماان الادراك الحسي الداخلي منه والخارجي، يلبي حاجات الحيوان اي حيوان، ولكونه جزء اساسيا من طبيعته المميزة، فلابد ان تتزود الحيوانات بالقابليات الحسية المناسبة لتؤمن لها ان تحيى الحياة الحيوانية الكاملة .

 

وفي استنتاجه النهائي لقوى الحس الباطني، لايزال الاكويني يؤمن بدور الملكة الوهمية على نقيض ابن رشد ولكنه يرفض مثله(يعني مثل ابن رشد) وجود ملكة منفصلة للفنتازيا او القوة المتخيلة. ويبتعد الاكويني اكثر من ابن سينا حين يرى ان الوهم موجود فقط في الحيوانات الواطئة. ولكنه، مجاراة لوجهة نظرابن رشد وعلى نقيض البرت يرى ان وظيفة القوة المفكرة في الانسان هي نفس وظيفة الوهم في الحيوانات وتصبح تلك المسألة هي النقطة المركزية في اهتمام الاكويني بقوى الحس الباطنة في تفسير الادراك البشري. ولهذا فالاكويني وابن رشد يشتركان في اختزال العدد الكلي لقوى الحس الباطنة الموجودة في الحيوانات الكاملة(او في الاقل في الانسان) الى اربع قوى .

 

ومما يميز قبول الاكويني للقوة الوهمية في الحيوان هو استعانته بالغائية الطبيعية كأساس منطقي يبدأ دفاع الاكويني عن القوة الوهمية، المتضمن في افتراضاته عددا من مبادئ ابن سينا، بايراد الامثلة التي يوردها ابن سينا عن الشاة والذئب ويرى انها –أي الامثلة- أدلة قاطعة عن وظائف القوة الوهمية ومدركا في الوقت عينه عدم وجود مظهر بشري اطلاقا للقوة الوهمية. ويستمر مبينا ان الوهم هو قابلية الحيوان ليميز في بيئته اي الاشياء هي اعداء له واي هي اصدقاء له واي الاشياء ملائمة لاستخدامها كمواد خام في توفير الملجأ وضرورات الحياة الاخرى. والوهم بالنسبة للاكويني هو قوة عملية كما هو الحال عند البرت، ولكن في حال الاكويني هي نتيجة اقتصارها- القوة الوهمية- على الحيوانات غير العاقلة لان الاكويني افترض ان الحيوانات فقط تدرك المعاني بقدر صلتها ببقائها- اي مساهمة المعاني في استمرارية بقاء الحيوان حيا -.

 

وتأكيد الاكويني في دفاعه عن تميز المعاني وعلاقتها بملكة الحس الباطني يخص تاثير بيئة الحيوان على حركته ورغباته.ويشاطر الاكويني ابن رشد رايه في كون الوهم اضافة طائلة على ماأتى به ارسطو عن الخيال.وعلى نقيض ابن رشد، يرى الاكويني ان رد فعل الحيوان المباشر لاحساس الشئ من حيث اللذة او الالم يختلف تماما عن رد فعله الغريزي في الابتعاد عن عدوه او الانجذاب الى قرينه.ان ادراك(شئ) محسوس او صورته على انه يحتوي لذة او ألم هو ببساطة أدراكه كمقبول او غير مقبول لعضو الحس، بالطريقة التي يبدو بها صوت ما مفرح واخر مزعج. ويمكن ان نسمي مثل هذا الرد بانه رد جمالي. ويسلم الاكويني انه" لو تحرك حيوان ما بفعل أشياء مسرة (= مبهجه) غير مقبولة مؤثرة على الحس فقط، فليس هناك حاجة للافتراض بان الحيوان يمتلك قوة ما إضافة الى قوة تحصيل تلك الصور التي تدركها الحواس والتي فيها يشعر الحيوان باللذة او يمتلأ بالخوف."غير ان الشاة لا تهرب من الذئب لانه قبيح بل بالأحرى لان الذئب عدو طبيعي لها. إن تمييز الصور المحسوسة كمفيدة اكثر منها مقبولة هو تمييز بالنوع ولذلك يحتاج الى وجود قوة وهمية مختلفة عن الخيال .

 

يقر الاكويني أن القوة الوهمية في الحيوانات تدرك المعاني ولكن تفعل ذلك غريزيا بينما في حالة الإنسان يتم اكتشاف المعاني بوساطة مقارنة معينة وبالتقصي والروية. وهذا هو السبب في تسمية القوة المفكرة البشرية احيانا بالعقل الخاص ratio particularis لأنها تقارن المعاني الفردية مثلما يقارن العقل المفكر المفاهيم العامة. ومايريد الاكويني ان يؤكده هنا هو انه عندما يعي الحيوان معاني العداوة والحب وماشاكلهما، فانه يفعل ذلك بدون تامل وروية ربما حتى بدون وعي تام بان ذلك هو عدو او صديق.ورغم دفاعه عن وجود القوة الوهمية في الحيوان، الا انه يتفق مع ابن رشد بان الحيوانات تمتلك في احسن الاحوال احساس جزئي بالفردية والذي يظهر في ردودأ فعال ميلها الغريزي لما يحيط بها بينما الانسان وحده الموهوب وعيا كاملا للمعاني التي تشير الى فردية ماتم تحسسه وادراكه .

 

وفي عرضه لمسألة الادراك العرضي نجد ان الاكويني يتناول الفروقات بين القوة المفكرة والقوة الوهمية. ومتبعا خطى ابن رشد والبرت، يعتمد الاكويني على القوة المفكرة ليكمل التحليل الارسطي للادراك العرضي عند الانسان وانسجاما مع مبادئه الخاصة يعطي الاكويني للقوة المفكرة دورا لتعليل نوعا محددا من الادراك العرضي عند الحيوان .

 

ويرفض الاكويني وجهة النظر التي ترى ان كل الخواص التي تصاحب اي محسوس بذاته هي عرضية له. ان الاكويني يريد ان يستبعد الادعاء بانه اذا انا ارى شئ ابيض عند زمن معين وليكن(ز) فانني عند ذلك الزمن(ز) يمكن القول بانني ايضا ادرك عرضيا كل الخواص الاخرى التي تصدف ان تعود للفرد الذي توجد عنده صفة البياض.ولنقض هذه الفكرة يفترض الاكويني انه لاجل ان يتم اعتبار صفة ما بانها محسوس عرضي فلا يكفي انها تصدف ان تصاحب محسوس بذاته بل ان (العضو) المدرك يجب ان يدرك بوعي (الشكل)المدرك العرضي عند زمن تحصيل المحسوس بذاته والذي يصاحبه .فاذا انا لا ألاحظ عند زمن(ز) ان هذا الشئ الابيض هو زيد، فان زيد ليس (شكلا) مدركاعرضيا عند زمن(ز). غير ان هذا يتضمن حسب ما يحاجج الاكويني، انه في كل عمل من اعمال الادراك العرضي لابد من وجود دائما قوة ادراكية ثانية والتي يبدو لها (الشئ) المدرك العرضي هو شئ بذاته وذلك لغرض تفسير لماذا ان بعض الصفات بعينها وليس صفات اخرى يتم ادراكها عرضيا. والاكويني ? مثل ابن رشد، يشخص نوع الادراك العرضي الذي يستلزم القوة المفكرة والقوة الوهمية المتضمنتين ادراك محسوس ما على انه"هذا"(هذا الحيوان\ هذا الانسان) اكثر منه على انه حالة او تصوير للطبيعة نفسها المدركة على انها كائن(انسان، حيوان، حي).

 

و يعرف الاكويني بدقة الادراك الحيواني للمنفعة والضرر على انه حالات وتصوير للادراك العرضي متبعا بذلك اراء استاذه البرت . وعلى هذا الاساس فالحيوانات غير الناطقة قادرة فقط على تحسس وادراك المعنى المفرد" بوساطة الوهم الطبيعي والذي من خلاله ترى الشاة بالسمع او الرؤية، صغارها او شئ ما من هذا القبيل". غير ان تفسير الاكويني لكيفية تضمين الوهم لتحصيل المعاني المفردة يبين وبوضوح تردده في ان يعزو للحيوانات اي معرفة واعية او حقيقيةعن الفردية بما هي .

 

ويمضي الاكويني بالقول بانه حتى في الانسان فان ادراك الفردية هي وظيفة مشتركة بين القوة المفكرة والعقل بقدر كون العقل قادرا على تحصيل الكليات. لان القوة المفكرة نفسها تدرك فقط الفرد بانه" موجود أسفل الطبيعة المشتركة والتي تخطر لها بقدر كونها مقترنة بالقوة العقلية في نفس الموضوعٍ ومن هنا فانها تعرف هذا الكائن البشري من حيث كونه هذا الكائن البشري وهذه عصا من حيث كونها هذه عصا" وعلى نقيض ذلك بما ان القوة الوهمية غير قادرة على ادراك الفرد من حيث هو حالة أو صورة لطبيعة ما، فانها قادرة فقط على ادراك الفرد " من حيث كونه طرف في فعل ما او انفعال". ومن هنا" فالشاة تدرك هذا الحمل لا من حيث هو هذا الحمل بل من حيث حاجته لرضاعتها له وتدرك أيضا هذا النبات من حيث هو غذاءها". وكما هو الحال مع البرت فان الوهم الحيواني يختزل تماما إلى وظائف وافعال عملية لتكون النظير الحيواني للعقل العملي. وحقا فالاكويني يذهب بعيدا هنا لاجل ان ينكر اي معرفة او وعي للحيوان بالفردية مالم تكن مقترنة بحاجة عملية تخدم بقاء الحيوان. ليس هناك وظائف" نظرية" للوهم وعلية لاادراك للفردية بهذا المفهوم في الحيوان الذي يمتلكها. وغاية الامر هو ان الحيوان يدرك الافراد من جهة كونها اشياء تسهم في رفاهيته وتساعد على بقاءه .

 

ترجمة واعداد: زيد العامري الرفاعي

 

 

تابعنا على الفيس بوك  وفي   تويتر

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2286 الاثنين 26 / 11 / 2012)

في المثقف اليوم