قضايا وآراء

المَرجِعِيَّةُ الدِّينِيَّةُ وَالمَوَاكِبُ الحُسَيّنِيَّةُ بَيّنَ مَسَارَيّنْ / محمّد جواد سُنبه

سبايا معركة الطّف. وبعد عوّدة السبايا، إلى المدينة المنوّرة، بدأ الرجال يأتون لتعزية الإمام السجّاد (ع). بينما النّساء كنّ يذهبن لتعزية الحوراء زينت  (ع). وبدأت المآتم الحُسيّنيّة، تنتشر بيّن محبّي أهل البيّت (ع). و ازدادت انتشاراً في عام  (65هـ)، بسبب ثوّرة التوّابين في الكوفة، بقيادة أبي عبيّدة المختار الثقفي (رحمه الله).

لقد أكّد أئمّة أهل البيّت (ع)، ابتداءً من الإمام علي بن الحسيّن، حتى الإمام الحسن العسكري عليهم السلام، على إقامة المآتم استذكاراً بفاجعة الطّف. فأصبح لهذه الواقعة، شعراء كرّسوا شعرهم لهذه المناسبة، وكان يُطلق على أدبهم إسم أدب الطّف. ومن الأسماء اللامعة من هؤلاء الشعراء، الكميّت بن زيّد الأسدي  (توفى سنة 126 هـ)، الذي سميّت قصائده بالهاشميّات، والسيّد الحميري (105- 173هـ)، وجعفر بن عفان، ودِعبِل الخزاعي (148-220هـ).

وعلى مرّ التّاريخ، ظلّت قضيّة إحياء ذكرى استشهاد الإمام الحسيّن (ع)، شاخصة في ضمائر المحبين. لكنْ إقامتها على المستوى العامّ، كان خاضعاً لميول السلطات الحاكمة. فعندما تكون السلطة، متسامحة مع إقامة هذه الشعائر، فإنّها تنشط. وعندما يكون العكس، تقام هذه الشعائر على نطاق محدود، مع اتخاذ الحذر الشديد. وهناك فترة، حصل فيها تغيير جذري، في أنشطة إقامة شعائر الاحتفال بذكرى عاشوراء، وهي فترة الحكم الصفوي  (914-940هـ/ 1508-1534م). ففي هذه الفترة، وظّفت السّياسة الصفويّة، قضيّة شعائر عاشوراء توظيفاً سياسيّاً،  (ربّما لإيجاد مبرّر لغزو العراق، وفرض سيطرتهم عليه، تحت غطاء دّيني طائفي).

في فترة الحكم الصفوي، دخلت شعائر الاحتفال العاشورائيّة، بمنعطف جديد. فتحوّلت هذه الشعائر، من دور إقامة المآتم واستعراض قضيّة الإمام الحسيّن (ع)، بشكل واعٍ مستند إلى فَهم عميق وراسخ، لمنهج مدرسة أهل البيّت  (ع). إلى دوّر مظهري استعراضي، يعتمد كلياً على التأكيد بشكل مبالغ فيه، على الجانب المأساوي لفاجعة الإمام الحسيّن (ع). والاندفاع بشكّل غير متعقّل، في بعض الاحيان، لاستمالة البسطاء والجهلة من الناس، للمشاركة باحتفالات، لها طقوس غريبة. هذه الطّقوس أخذت تضفي على قضيّة الإمام الحسيّن (ع)، الكثير من المبالغات التي تؤثر سلباً، على جوهر هذه القضيّة الحسّاسة. لقد ورث الوجود الشيعي، هذه الطّقوس، التي أَفرغَت موضوع النّهضة الحسيّنية، من محتواها الثَوّري والتّغييري، وأحالتها إلى ممارسة طقسيّة، خالية مِنَ الكثير مِنْ مضامين هذه القضيّة النّهضويّة.

والآن، عنّدما نقارن بشكْل علميّ وموضوعيّ، وبموجب رؤيَة متنوّرة، بعيداً عن التّأثيرات العاطفيّة، بيّنَ الهدف الذي رسمه أئمّة أهل البيّت (ع) لاستذكار فاجعة كربلاء، وبيّنَ ما يجري حالياً على أرض الواقع، نجد أنّنا نسير في طريق تقليديّ، خالي من المضامين التغييريّة، التي تعتبر الهدف المباشر لقضيّة الإمام الحسيّن (ع). والبقاء على هذا الحال، يعني أنّنا ماضون لتطبيق، أجواء طقسيّة قشريّة عاطفيّة، تلتهب في وقتٍ معيّنٍ للذروة، ثمّ تبرد بسرعة، بعد انتهاء المناسبة مباشرة، وهذا خطأ يجب إيقافه.

وإذا تُرك موضوع الاحتفال بذكرى عاشوراء، يسير على رؤيَة أصحاب المواكب وبعضّ الرواديد، وبعض  (الروزه خونيّه) دون ترشيد. سيصل الأمر في يوم ما، إلى أنْ يكون الاحتفال بهذه المناسبة، مجرد ممارسة ساذجة سطحيّة، لا معنى لها في نظر الاجيال القادمة. مما سيؤدي إلى الانصراف عنها، أو اهمالها كما أهملت الكثير من الأنشطة، التي كانت تمارس في مجتمعات معيّنة، وفي زمن معيّن، لعدم جدواها في حياة المجتمع.

إنّي أَجدُ نفسي والكثير من المثقّفين المتنوّرين، والكتّاب والاعلاميّين والصحفيّين، بأنّ هناك تشويهاً، يعتري الاحتفالات بذكرى عاشوراء، وغيرها من مناسبات أهل البيت (ع) أيضاً، وإنّها تُعرض بطريقة لا تواكب تطلعات العصر الحاضر. وحجّتنا في ذلك، أنّ التطوّر في كلّ شيء حولنا، يفرض علينا أنْ نواكب الزمن، حتى لا نبقى خارجه، وننفصل عن الآخرين. فنحن في زمن العولمة، وعصر الحوّسبة الرقميّة، وزمن الميّديا  (الإعلام العابر للقارّات). إضافة لذلك، وجود التّيارات التّكفيريّة، التي تَستخدم الإعلام والمال، بشكّل فعّال، لتشّويه صورة مذهب أهل البيّت (ع)، من خلال رصد الممارسات الخاطئة، لأتباع المذهب، وتسويقها للآخرين، على أنّها بدعة وظلالة، وخروج عن الدّين.

لا بدّ من التّعاطي مع قضيّة حسّاسة، كقضيّة الإمام الحسيّن (ع)، التي تعتبر قضيّة محوريّة، عند المسلمين عموماً، وفي الفكر الشّيعي خصوصاً، بطريقة أكثر فَهماً، لأبعادها وتأثيراتها عند العامّة والخاصّة. لذا لابدّ من طرح الموضوع، على بساط المناقشة والبحث، وأنْ نتناول مشكلة البحث، برؤية مستنيرة حريصة على واقع الإسلام، مسّتشرفة الأبعاد السلبيّة، التي تضرّ بقضيّة الإمام الحسيّن (ع)، فأقول:

إنّ وجود مذهب أهل البيت (ع)، يعتمد اعتماداً مباشراً، على كيان المرجعيّة الدّينيّة، بحيّث يُمكن القوّل؛ أنّ مصير هذا الوجود               سيضمُر ويتلاشى، إذا ما ألغي دوْر المرجعيّة، أو تمّ تهميشها  (لا سمح الله). فالمرجعيّة الدّينيّة، هي التي وجّهت الأمّة، في مطلع القرن المنصرم، لمناهضة الإحتلال البريطاني للعراق. وعلى أساس هذا الموقف، تأسّست الدّولة الدّستوريّة في العراق. وبناءً على فَهمي لدوْر المرجعيّة الدّينيّة، وواجبها في الحفاظ على بيّضة الإسلام، والمحافظة على ركائز المجتمع المسلم. أجدُ أنّ كلّ من ينادي بتصحيح، مسار سلوكيّات المواكب الحسيّنيّة، لابدّ أنْ يكون خطّ سيّره، متطابقاً مع رؤية المرجعيّة، في هذه القضيّة. فهي التي ستُرشد الجماهير، لتوظيف القضيّة الحسيّنيّة، لمصلحة بناء الإنسان الصالح. وبناء المجتمع المؤمن، بقضيّةٍ ناضلت من أجلها، أجيال وأجيال. فقُطّعت دونها الرّؤوس، والأرجل والأيدي، عندما كان يصدر الحكّام الظلمة والمستبدّون، قرارتهم بمنع إقامة شعائر عاشوراء، وحظر زيارة مرقد الإمام الحسيّن (ع).

 

لذا إنّني أناشد المرجعيّة الدّينيّة، في النجف الأشرف، والعلماء الأفاضل، لبيان وجهة نظرهم، بصدد ما يقوم به، الكثير من أصحاب المواكب الحسيّنيّة، من نشاطات أراها لا تمتّ للقضيّة الحسيّنيّة بصلة مثل:

  1. 1.التّطبير، وضرب الزنجيل، وحمل  (أعلام الزنكي)، والهوادج المضاءة بمئات المصابيح. فيمكن ترشيد هذه الممارسات، بشكل حضاريّ، يجذب القلوب والنّفوس، لقضيّة الإمام الحسيّن (ع). فالتّطبير يتحوّل، إلى حملة للتّبرع بالدم، لإسعاف المرضى. وضرب الزنجيل، يمكن ترشيده ليكون على شكل مسيرات، تردّد  (الردّات الشعريّة) الهادفة، التي تُنمّي الشعور الوطني، والإحساس بالمواطنة الصالحة، والافتخار بالانتماء لمنهج الحسيّن (ع)، الذي يعتبر منهج الإسلام المجيد برُمَته.

 

  1. 2.طبخ  (التمّن والقيمة) بشكل مبالغ فيه، وتوزيعه على مَنْ يستحقّ ومَنْ لا يستحقّ. أعتقد مِنَ الممكن، تحويل نصف مصاريف الطّبخ، ومبالغ التبرعات الأخرى، وإيداعها في صندوق لجمع التبرعات، يطلق عليه اسم  (صندوق تبرعات أنصار الحسيّن (ع)). ويكون هذا الصندوق، تحت إشراف وتصرّف المرجعيّة. وتُستَثمَر أمواله لإنعاش الفقراء والأيّتام، عن طريق مساعدتهم، بإيجاد فرص عملٍ لهم، عن طريق إقامة مشاريع حرفيّة صغيرة، توفّر لهم الرزق المناسب، وتحقق لهم حالة الاكتفاء الذاتي.

 

  1. 3.قيام الكثير من أصحاب المواكب، بنصب السرادقات في الطرقات، والشوارع، والساحات والحدائق العامّة، الأمر الذي يلحق بها ضرراً كبيراً. إضافة لذلك، تقوم المواكب بوضع مكبرات الصوّت بطريقة عشوائيّة، مثيرة للضوضاء أكثر من كونها معبّرة، عن مضمون معيّن.

 

فاذا كانت المرجعيّة لا ترى مصلحة وضرورة، في إجراء مثل هذه الإصلاحات، فينبغي أنْ تُعلن رأيها صراحة. حتى يكُفّ عن الحديث، المثقّفون والكتّاب والصحفيّون والاعلاميّون، المتحمّسون لإحداث التغيير، في ممارسات المواكب الحسيّنيّة. لا بلّ سيكون ذلك حافزاً لهم، لينخرطوا في أنشطة المواكب الحاليّة، أو يؤسّسوا لهم مواكبَ خاصّةٍ بهم، ويقوموا بالتّطبير، وضرب الزنجيل، وطبخ التمّن والقيمة، بدلَ اتخاذ المواقف المناهضة لسلوكيات المواكب،  (فحشر مع الناس عيد).

أمّا إذا كان للمرجعيّة الدّينيّة موقفاً غير ذلك، فأتمنى عليها، عقد ندوة نقاشيّة بإشرافها ورعايتها. وتدعو للمشاركة في الندوة، كلّ المثقّفين والكتّاب، والصّحفيين والإعلامييّن، الذين ينظرون إلى ممارسات المواكب، بأنّها ممارسات سلبيّة. لغرض تنسيق الجهود بيّن الطرفين، ووضع خطّة عمل تثقيفيّة وإعلاميّة، تنطلق لتصحيح مسار المواكب الحسيّنيّة. فمن المعروف أنّ عمليّة التصحيح، تحتاج لتخطيط مسّبق، وجهد منسّق ومتواصل ودؤوب، حتى يأخذ التغيير تأثيره في المجتمع.  (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ) (صدق الله العلي العظيم).

 

 

 

تابعنا على الفيس بوك  وفي   تويتر

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2287 الثلاثاء 27 / 11 / 2012)

في المثقف اليوم