قضايا وآراء

السياق الفني لغزليات يحيى السماوي / صالح الرزوق

وهذا يتكفل بنقل الصور والتراكيب ولواعج العاطفة والغرام، من مستوياتها المادية إلى عاطفة. بعبارة أخرى إن كل ماديات المرأة - الزوجة أو الحبيبة تتقاطع مع كل ماديات الوطن حين نبذل في سبيله الغالي والرخيص.

وكان من أهم تبعات هذا الأسلوب تأنيث الوطن وتذكير المشاعر الوطنية، وبطريقة بعيدة عن الغزليات العذرية، حيث لا توجد بنات ولا نساء محصنات، ولكن تشبيب يتدرج من الوصف وحتى الهيام. وبلغة أوضح: من المقاربة العيانية وحتى المقاربة بالروح والقلب.

ولا أعتقد أن ذلك ينجم من طريقة إنتاج الذهن الحضاري، مع أن أبناء المشرق يؤنثون بالعادة موضوعاتهم، حتى في حالة المثاقفة التي عبرت عنها روايات تعود لفترة ما بين الحربين من القرن المنصرم. ولنتذكر هنا (عصفور من الشرق) لتوفيق الحكيم أو (نهم) لشكيب الجابري. ولماذا لا نتذكر الشاعر العربي الذي أسبغ على الملوك والقادة والسلاطين صفة التأنيث في مدائحه لهم!.

لم يكن العقل العربي منفردا في هذا السلوك. لقد كان الأنغلوساكسون يفعلون ذلك. وكل أدبياتهم  تأتي في هذا السياق سواء في مجال أدب الارتحال إلى الشرق أو في روايات الاستشراق المعروفة (مثل الأمريكي الهادئ لغراهام غرين وما شابه). إنها نصوص أسبغت على الراوي صفة التذكير وعلى موضوعه صفة التأنيث. حتى أن أجاثا كريستي في أهم أعمالها الاستشراقية (وفي الذهن: جريمة في وادي النيل، وقطار الشرق السريع) نظرت للموضوع من وجهة نظر الذكور.

وعليه إن إنتاج هذه الظاهرة، كما أعتقد، يعود لأسباب فوق تاريخية، لأسباب اجتماع - نفسية، تعوّدنا أن ندرجها في مضمار الأوديبيات(نسبة لعقدة أوديب).

باختصار: لقد تشاركت في هذه الظاهرة عدة أمم، ويبدو لي أنها أسلوب يشبه تصعيد الوجدان العابر للجنسيات، ويعمل في سياق فوق حضاري، ولذلك لها نماذج راقية في شعر المقاومة العالمي كله.

ولنضرب هنا مثالا بـ (أشعار الربان) لنيرودا، الشاعر المكافح الذي لم يترك سنتمترا مربعا واحدا من جسم ماتيلدا إلا وأنشد له قصيدة ذات مضون وطني وإحالات وربما رموز قومية.

ويمكن أن نذكر أيضا مثال ناظم حكمت والذي رأى في جزئيات من زوجته عموميات وطنية.

ليس هذا فحسب، ولكن تبدو العلاقة بين الشكل والمضمون  تحت تأثير تلازم وليس تتابع، والأداة الفنية تحت تأثير منطق استعارة وليس كناية.

ويكفي للتدليل على ذلك الإشارة لقول نيرودا في قصيدته (الأرض فيك):

كتفاك يبزغان كهضبتين،

بالحب أطلقت نفسك كماء البحر...

أكاد أعجز عن قياس أكبر عيون السماء اتساعا،

فأنحني نحو ثغرك لأقبل الأرض (1)

وهذا يتقاطع ماديا وعاطفيا مع تغزل ناظم حكمت بزوجته في قصيدة (أنتِ) حيث يقول:

أنت الحقل

وأنا المحراث

أنت صرخة تطلب النجدة - أعني أنت وطني

ووقع الخطوات التي تهرع إليك هي وقع خطواتي (2)

ولئن كان الفرق بين أناشيد  نيرودا وناظم حكمت عن المرأة أن الأول شاعر مدينة والثاني شاعر مجتمع ريفي، يختار يحيى السماوي أن يكون عاما، وأن يتحدث عن الحب غير المخصوص. إنه لم يخصص غرامياته لزوجته، ولكنه خاطب جوهر المرأة ومطلق معناها. وكأنه نسخة ملتزمة ومؤدلجة من العاشق المعروف دون جوان. والمثال على ذلك قوله في (مناديل من حرير الكلمات):

أيتها الرشيقة كرمح أنكيدو..

الفرعاء كنخلة..

إذا لم يكتب في دفترك

فما فائدته قلمي؟

وحتى قوله:

أنا وطن الحزن

وأنت عاصمة الفرح!. (3).

وليحيى السماوي، غير هذه الإسقاطات العامة التي تماهي بين القضية والشهوات المكبوتة،  ميزة إضافية،  تتلخص في ضبط إيقاع المفردات مع تسلسل المعنى. فالصور بالنسبة له أشبه بموجات متعاقبة تتراكم وتبني دائرة المعنى العام بالانطلاق من دائرة الأفكار الشاملة. ويتم الانتقال من صورة لأخرى بسرعة. ولكن الانتقال في المعنى من فكرة إلى غيرها يكون بطيئا، ليغطي بيت الشعر كامل المعنى ويعطيه حقه. ولذلك كان المعنى يتطور بشكل تيار مستمر، من الصورة إلى الفكرة، ومن العاقل لغير العاقل، وربما من المحسوس إلى العاطفة غير المحدودة.

وأبلغ مثال على ذلك قصيدته (وجهي لا يشبهني) والتي تبدأ بوقفة على أطلال الذات المتهدمة ونصف الميتة من الغربة والتشرد في أصقاع الأرض والغرام المكبوت كقوله (منذ نعومة حزني - والمنافي تقلم أفراحي) ، ثم الانتقال لتصوير المأساة الوطنية العامة كما في قوله (أعذاق نخيله يابسة كأثداء أمهاتنا- ماؤه أجاج - فما الذي أغوى بالعراق - ذئاب البنتاغون؟). (4).

وهكذا كانت له طريقة فريدة من نوعها في التعامل مع الطريقة العربية الأصيلة لكسر سلبيات السكون والفراغ.. في تخطي مشكلة الرتابة التي تعكس ذهنيا تضاريس قوامها كثبان الرمل المتكررة والمتشابهة والتي تضع الشاعر في عالم لا حدود له، وبلا وعود في التخطي والاستبدال. وأدين بالفكرة الأخيرة لأدونيس كما وردت في كتابه المبكر (مقدمة في الشعر العربي).

بهذه الطريقة احتفظ يحيى السماوي ببلاغيات لغة الضاد دون التضحية بإنسانوية الشعر كشعر.. كأسلوب تواصل مع خالق الذات، قبل الانفتاح على هموم الذات المجردة.

والإنصاف يقتضي أن نقول إنه ليس وحده في ذلك. ولكن معه ، وربما مهد له ، الشاعر المبدع والمناضل سليمان العيسى.

فقد رفد بدوره أيضا الشعر العربي بنفائس غنائية. والفرق الوحيد والبسيط بينهما أن الموضوع النضالي عند السماوي يتشكل من وراء ستار غزلياته ووجدانياته، من خلف تحريض للمكبوت. ولذلك هو شعر مهموم ويغرق في سحابات من الحزن الفادح . بينما اختصر قرينه، سليمان العيسى، الطريق، ودخل مباشرة في فلسفة الذات العامة، وفي مسائل ولواعج وطنية مكشوفة، وغالبا تنم عن أعلى درجات الثورة والغضب، وكلها ذات قيمة تربوية، ولكنها، في نفس الوقت ، بعيدة عن الشعائر والمزايدات.

وأكاد أرى في قصيدته (أناديك باسمك العريان) (5) نموذجا مثاليا على ذلك. فقد استعمل فيها المفردات والألوان النارية الحارة، وعناصر الطبيعة المقهورة. والغاية هي استنهاض الهمم والتعبئة. غير أنه ربط تجييش العواطف بتعبئة الأسلوب، واستخدم مقاطع تفعيلة تتداخل مع فقرات شعر عمودي، وبينهما بعض الجمل الاعتراضية النثرية القريبة بأدائها من شكل المونولوج، وهو ما نقول عنه في النثر الفني: تيار الشعور. لقد كانت القصيدة الواحدة تقوم على تكنيك المخاطبة والتفكير في وقت واحد.

وإن هذه النقطة تسجل لصالح الشاعرين بلا ريب: أن توظف الرموز بشكل مباشر، أو عن طريق محاكاة غير مباشرة، للكشف عن المنابع، عن حقيقة الأصول في ارتباطاتها مع العالم.

  

......................

هوامش:

1- أشعار الربان . ص8. ترجمة هالة نابلسي. دار المسيرة. بيروت. 1979.

2- منشورة في صحيفة المثقف الإلكترونية. ترجمة صالح الرزوق. عدد 2279 . تاريخ. 19 - 11- 2012 .

3- مناديل من حرير الكلمات.  ص23، ص37 على التوالي .دار التكوين. دمشق. 2012.

4- المجموعة السابقة . ص 145، ص147 على التوالي.

5- منشورة في مجلة الثقافة العربية. ليبيا. (في أواخر السبعينات).

 

كانون الأول 2012

 

تابعنا على الفيس بوك  وفي   تويتر

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2292 الأحد 02 / 12 / 2012)

في المثقف اليوم