قضايا وآراء

المصير التاريخي لثورة الربيع العربي (2)

ونوعيتها وكيفيتها وآثارها المستقبلية. وهذه الفرضيات هي ما يلي:

  • الثورات العربية الأخيرة هي ثورة واحدة وأولى في التاريخ العربي الحديث،
  • وأنها بمجموعها ثورة تاريخية كبرى تؤسس لطور جديد في التاريخ القومي الحديث،
  • وأنها ثورة الصيرورة الجديدة للفكرة العربية وكينونة الأمة الثقافية،
  • وأنها ثورة اجتماعية مستقبلية.

 

وشأن كل حركة تاريخية كبرى ومعقدة، فأنها لا تستقيم مع نفسها إلا حالما يرتقي مسارها التاريخي بمنطق الحق والحقيقة، أي بمنطق التاريخ العقلاني ونزوعه الإنساني. بمعنى بلوغ حالة التطابق النسبي بين المنطق والتاريخ الواقعي في شكل ومضمون الدولة، والنظام السياسي، والمجتمع. ولا يمكن بلوغ ذلك دون تضحيات هائلة وصراع مر ومرير يحتوي على كافة الإمكانيات المتناقضة من صعود وهبوط، وانتصار وهزيمة، وانكسار وتجبير، وأفراح وأتراح، باختصار على كل المتناقضات الضرورية التي بدونها لا يمكن لعود الوعي الفردي والاجتماعي والقومي أن ينمو ويتكامل في مرونة العقل النقدي والمستقبلي. بعبارة أخرى، إن التاريخ القومي الفعلي هو تذليل لزمن السلطة العابر. فالتاريخ الفعلي هو تجسيد وتحقيق لفكرة الثبات الديناميكي، بينما زمن السلطة هو اجترار وتكرار لما لا قيمة له بحد ذاته.

إن مأساة الصيرورة العربية الحديثة تكمن في مقدماتها الأولية وشروط فعلها الذاتية التي رافقت ظهورها الحديث في هيئة عوالم ممزقة، ودول ودويلات محتلة بصورة مباشرة أو مسلوبة الإرادة. الأمر الذي جعل من التاريخ الذاتي سرابا يصعب اللحاق به والمسك بأطرافه، كما أنه صار قابلا لمختلف الهيئات والأشكال والصور. لقد أدى ذلك إلى حرف المسار الطبيعي لتراكم التجربة التاريخية القومية. وجعل منها في أفضل الأحوال أجزاء في معارك التقليد والهامشية. ومن ثم حوّل اغلب معاناتها إلى وجدان لا عقل فيه.

وقد ارتبط انحراف المسار الطبيعي لتراكم التجربة التاريخية القومية وتحدد أولا وقبل كل شيء بافتقاد العالم العربي لتاريخه السياسي القومي المستقل على مدار قرون. مما أدى إلى انهيار مراكزه الثقافية الكبرى. الأمر الذي جعل من نهوضه الأولي مضغوطا بتجارب الدول الكولونيالية، بمعنى افتقاده الفعلي لتلقائية تجاربه الخاصة فيما يتعلق برؤيته لإشكاليات وجوده التاريخي الحديث. وسوف تبقى هذه الحالة ما لم يجر تذليلها عبر بلورة مرجعيات أو مبادئ كبرى متفق عليها. وليس مصادفة أن يجري جذب كمية النشارة المتراكمة في أواخر العثمانية من نهضة أدبية وانبعاث ثقافي وإصلاحية إسلامية وأفكار قومية إلى مغناطيس القوة الكولونيالية الأوربية آنذاك. من هنا دورانها في أفلاكها، مما افقدها حرية الإرادة، وجعل من اغلب جهودها مجرد تقليد على هامش التاريخ الكولونيالي (الأوربي). مع ما ترتب عليه من اغتراب وتقليد وجد انعكاسه في ضعف مناعة ونقص معاناة التجربة التاريخية للعقل النقدي العربي. من هنا غلبة الوجدان والنفس الغضبية على نوعية وطبيعة تأسيسه للوعي الذاتي. وليس مصادفة أن تتجه أغلب مكونات إنتاجه النظري والعملي لحد الآن صوب غلبة اللاهوت الديني المبتذل وهيمنة الذهنية المتشددة والتدين المفتعل.

 

ولم يكن هذا بدوره غير النتاج "الطبيعي" لامتزاج غبار التخلف والانحلال الموروثين من المرحلة العثمانية بمياه الاحتلال الكولونيالي (الأوربي) الآسنة. وصنعا كلاهما طينة رخوة وضعت في أساس الصروح الهشة للدولة العربية "الحديثة"!

وقد احتوت هذه العملية البائسة بحد ذاتها على احد الدروس البليغة والعبرة التي لم يعتبر العالم العربي بها بعد، والقائلة بأن صيرورته الممكنة، بوصفها كينونة قومية عربية ثقافية، تفترض التحرر التام والمطلق من كل ارث لا تراث ذاتي حقيقي فيه. فقد دفع العرب ثمنا باهظا في مجرى الدفاع عن كينونتهم الثقافية في مجرى الحروب الصليبية. أما النتيجة فهي إنهاكه الكبير الذي جعل من الممكن سقوطه تحت سنابك الهمجية المغولية أولا، والاحتلال التركي العثماني ثانيا، ثم الغزو الأوربي الكولونيالي ثالثا، واستكماله في الهجمة الرابعة والأخيرة للصهيو - أمريكية بوصفها الخلطة الغريبة للنزعة الصليبية الكولونيالية البدائية.

أنها تكشف عن أن النزعة الغربية الاوروامريكية القابعة في أعمق أعماق الوعي الثقافي مازالت محكومة ومقيدة ومعجونة بهمجية السيطرة والغلبة والنفعية الخشنة، أي فقدانها للروح الإنساني. وهذا بدوره لم يكن سوى النتيجة الطبيعية على غلبة الطبيعة في الروح الاوروأمريكية، أي البقاء ضمن مقاييس وفاعلية الاثنية البدائية، التي لم يهذبها بعد الارتقاء إلى درجة ما ادعوه بالمرحلة الاقتصادية الثقافية في التطور التاريخي لأوربا والولايات المتحدة الأمريكية.

بينما تكشف تجربة "الربيع العربي" وآفاقه عن أن الغرب الاورأمريكي ما زال كولونياليا في نزواته وشهواته ومساعيه ورغباته، أي بقاءه في إسار النفس الغضبية وليس العاقلة.

وإذا كان العالم العربي قد صد الهجمات القديمة كما تصد أغلفة الأرض الحية وتواجه كل ما هو غريب عليها من أشعة وحجارة الأكوان البعيدة، عبر دفع ثمنها الباهظ في زلازل وبراكين وعواصف، فانه يقف الآن أمام هذه الموجة الأخيرة التي جعلت من زلازله وبراكينه وعواصفه تيارا جارفا اتخذت ملامحه الأولية في فكرة الثورة ومزاجها العربي. الأمر الذي يجعل منها موجة الطوفان الأولى لكنس كل ما يمكن كنسه من اجل أن تتبين ملامح الأرض الأمان!

وليس مصادفة أن تتسم مظاهر هذه الثورة بقدر كير من اللاعقلانية والتمرد، إضافة إلى بروز ونتوء وتكالب كل قوى الرثة العربية العابرة عليها وضدها، أي القوى المتوحشة في مجرى قرن من الزمن الفارغ. وتلاقى ذلك واستجاب لمساعي القوى الكولونيالية الاوروامريكية المحكومة بأيديولوجية الهيمنة والاستحواذ المادي، أي مختلف نماذج السرقة المتفننة بتقاليد الحداثة وما بعد الحداثة لإجهاض مشروع الصيرورة العربية الحرة!

إلا أن كل ما جرى يبقى مع ذلك جزء من "مكر" التاريخ العربي، أي من تاريخنا الخاص. ولعل مفارقة الظاهرة تقوم في أن معاناته الكبرى تكمن في كبر تاريخه القديم وصغر عقله السياسي الحاضر! وحصلت هذه المفارقة التي أقلقت الفكر والتفكير العربي في ذروة صعوده الحضاري وبداية سقوطه الثقافي، كما هو الحال عند ابن خلدون، على تعبيرها الخاص في فكرة العبرة. وحالما ننظر إلى التاريخ الحديث ومجراه ونتائجه ومشاكله الحالية وطبيعة وكمية ونوعية الصراع الدائر فيه، فإننا نقف أمام نفس هذه المفارقة، بمعنى انعدام أو ضعف الاعتبار بما حدث ويحدث فيه. ومن الممكن إرجاعها بالعموم إلى هيمنة التقليد والتقاليد الميتة والتحلل البنيوي وانعدام المنظومة وضعف تراكم المبادئ النظرية والعملية في مبادئ متسامية أو مرجعيات ثقافية سياسية كبرى. إلا إننا نعثر مع ذلك على تراكم متعاظم فيها، لكنها مازالت اقرب إلى العادة. الأمر الذي عادة ما يجعل اجتهادها جهادا فيما بينها. مما يشير بدوره إلى أن هذا التراكم لم يتحول إلى صيغة نظرية مجردة بوصفها تجربة متسامية، أي مقبولة ومعقولة للأغلبية. بمعنى أن التراكم ما زال مجرد كمية من الأفعال والأعمال والأقوال، وأنها جميعا مازالت تختمر في ممرات الصيرورة التاريخية من اجل تذليل المرحلة الدينية اللاهوتية للانتقال إلى المرحلة الدينية السياسية الحديثة. مع ما يترتب عليها من تهذيب وتشذيب مرجعيات كبرى تناسبها.

فالتاريخ (الطبيعي) العالمي يمر في مساره الداخلي (أو تطوره) وصراعاته (الخارجية) بمراحل ست أساسية، أربعة منها "طبيعية" ومرحلتان "ماوراطبيعية" هما مرحلتا التطور الثقافي الحر والخالص، أو "التاريخ الحقيقي". مع أن التاريخ كله حقيقة. إن هذه المراحل الست هي: المرحلة العرقية الثقافية، والمرحلة الثقافية الدينية، والمرحلة الدينية السياسية، والمرحلة السياسية الاقتصادية، والمرحلة الاقتصادية- الحقوقية، والمرحلة الحقوقية – الأخلاقية. ويمر العالم الإسلامي (وضمنه العالم العربي) الآن في المرحلة الثالثة، بينما تمر روسيا والصين والهند في بدايات المرحلة الرابعة. أما الولايات الأمريكية المتحدة، فأنها تمر في وسط المرحلة الرابعة. بينما بلغت أوربا بشكل عام والغربية بشكل خاص أواخر المرحلة الرابعة.

وضمن هذا السياق، يمكن القول، بان الأحداث الجارية هي مجرد فصول أولية للثورة العربية، أي أنها مازالت عند حدود التمارين الأولية. أنها تكنس الأنظمة المتخلفة والبدائية والدكتاتورية الفجة. وفي كنسها تثير كل عجاج وعفونة الماضي. من هنا انتشار الروائح النتنة التي يختنق فيها بعض من قوى الانبعاث الحية، كما أنها مرحلة انتفاخ فئران الزمن ومرحها الصاخب! لكن وراء هذه الصورة البيانية القبيحة تتبين ملامح الجمال الفعلية التي يمكن رؤيتها بعيون المستقبل وخياله العلمي! أي كل ما يعطي للعقل النقدي والضمير الحرّ فرصة تأمل ما يجري على انه جزء من قدر التاريخ ولعبته المجهولة في إرادة الحرية الباحثة عن تجانس مقبول بمعاييرها الخاصة، ومعقول بمقاييس تجاربها الذاتية.

تفترض مهمة الفكر العقلاني والإنساني المساهمة الجدية في صنع الوحدة الاجتماعية بمعايير العقل الثقافي والحقوق المدنية والعمل من اجلها وليس بالصراخ والتلذذ العصابي في مواجهة الأعداء الوهميين. ولا بأس من التعلم من سلوك الناس في تونس ومصر واليمن وليبيا والبحرين وغيرها، الذي كشف عن تجاوز لهذه الحماقة السياسية والأيديولوجية عبر رفعه شعار الوحدة الاجتماعية والوطنية البديلة لنظام العائلة الفاسدة والظلم والجور والخروج على الحق والحقوق المدنية والوطنية. وهي قيم ليست حكرا على حركة دون أخرى. والمحك الحقيقي الوحيد هو تمثلها والدفاع عنها. أما معيار ذلك فهو قبول الناس بحملتها. ومهما تكن النتيجة فهي خلاصة التجربة التاريخية للأفراد والجماعات، بوصفه طريق المعاناة الفعلية في إعادة بناء الدولة والنظام السياسي والقيم. لاسيما وان المستقبل الحقيقي هو نتاج معاناة الحاضر والنتائج المترتبة عليه، وليس رغبات "اليسار" أو "اليمين"، أي القوى التي تقف من حيث الجوهر خارج إطار المسار العقلاني والواقعي للبدائل الكبرى في العالم المعاصر.

فالتاريخ الواقعي هو القدر الفعلي للأمم. والمجهول فيه هو البقاء ضمن مساره باعتباره تيارا للزمن الساري، وليس للإرادة الحرة الفاعلة بمعايير الرؤية المستقبلية. فإذا كان التاريخ العربي الحديث في اغلبه هو زمن سار، أي لا تراكم  عقلاني فيه على مستوى الدولة والمجتمع والعلم والتكنولوجيا، فان النتيجة الحتمية لهذه الحالة تعني البقاء والمراوحة في عالم ديناميكي. من هنا وقوفه وتكسره أمام التيار الجارف للتحولات النوعية الكبرى الجارية تحت خنوعه المكبوت بغشاء السلطة وسطوتها البليدة. وليس مصادفة أن تنهار كل هذه الأبهة الفارغة والجلود اليابسة للدولة المدججة بسلاح التخريب وقوة الحثالة وزيف التقاليد أمام قوة الشباب المندفع بإرادة الحرية.

فقد تحول الاحتجاج المتراكم في مجرى عقود من الزمن، والتحديات الفعلية والمواجهات الحية التي كانت تمزق جلود الدول العربية اليابسة بين الحين والآخر، إلى قوة الغضب المتفجرة، بوصفها قوة الحرية الواعية. إذ تحولت للمرة الأولى لعبة المجهول إلى لعبة المواجهة المعقولة بمعايير الحرية. ومن ثم تطابق الحرية والإرادة الواعية للمرة في التاريخ العربي الحديث، أي اتحادهما الواعي للمرة الأولى في النية والرغبة والفعل والواقع. وشأن كل اتحاد معقول كبير ونوعي في تاريخ الأمم، لابد له من الحصول على قبول أولي. وقد حصل هذا القبول الأولي على اعتراف شبه شامل من قبل الشعوب العربية جميعا، ورفض شبه شامل من قبل أنظمة السلطة السلطوية. الأمر الذي يشير إلى صيرورة إدراك الخلاف الجوهري بين زمن السلطة وتاريخ الدولة، ومن ثم بروز أولويات المرجعية السياسية والتاريخية الكبرى في الوعي الاجتماعي بشكل عام والسياسي بشكل خاص، عن أن مرحلة قد انتهت، وأن أخرى في قد برزت إلى الوجود. وأن مضمون الأولى قد ولى إلى غير رجعة، بينما الثانية هي نذير المستقبل وبشيرها، وأن الأولى هي زمن فارغ، بينما الثانية هي مستقبل الأمم. وبالتالي، فإن للدولة والمجتمع والحقوق أولوية على السلطة واستبدادها ومصادرتها للفرد والجماعة والمجتمع والأمة والمستقبل.

وإذا كان القرن العشرين قد عرف في العالم العربي أحداث اجتماعية وسياسية كبيرة مؤثرة وفعالة، فان أكثرها ارتقاء إلى مصاف النموذجية الفعلية بالنسبة للتاريخ القومي، كانت كل من حركة التحرر التي قادها جمال عبد الناصر، وحركة المقاومة التي قادها حسن نصر الله. والخلاف بينهما هو خلاف الإمكانية والمقدمات. الأولى ظلت فردية رغم جوهريتها الاجتماعية والقومية، والثانية كانت وما تزال منظومية رغم طابعها الوطني (اللبناني) والمذهبي (الشيعي). من هنا اضمحلال وتلاشي الأولى وبقاء وفاعلية الثانية. وفي حال ارتقاءها إلى مصاف الدولة، بمعنى اندماجها في فكرة الدولة وقيادتها، عندها ستبرز إمكانية التأسيس الواقعي للبدائل الكبرى في العالم العربي بوصفها بدائله الخاصة.

إذا كان من الصعب الآن تحديد ماهية الثورة بمعايير العرف التقليدي للثورات ونماذجها السياسية، فأنها لا تخرج من حيث حقيقتها وغايتها عن مساعي الأمم في حل إشكاليات وجودها الطبيعي والماورااطبيعي. وهو الجانب الأكثر جوهرية بالنسبة لفكرة الحرية وإرساء أسس التطور الذاتي. وبالتالي، فان الحدس الصادق هنا يمكنه الإقرار دون أن تكتحل بصيرته بارتعاش الأجل، ولا احمرار حماسته من حيرة الخجل، ولا اصفرار شكيمته من خوف الوجل، بان ما جرى ويجري هو إرواء النفس اللاهثة وراء سراب الزمن العابر للقرن العشرين وما قبله من قرون مظلم، من غليل العطش التاريخي للحرية والتكامل الذاتي. وفي هذا تكمن ما أسميته بمقدمة تجانس الحرية والإرادة، أي الإمكانية الأولية والضرورية لجعل التجربة التاريخية للعالم العربي تجربة ذاتية تلقائية متحررة من اجترار تجارب الأغيار (الآخرين) العملية والنظرية. وليس مصادفة أن تحصد قوى الماضي (الإسلامية) زهور الثورة الأولى كما لو أنها في أعراس ليس أعراسها. بينما القطاف التاريخي الحقيقي، أي قطاف المستقبل هو حرث وزرع أولا وقبل كل شيء، أي حصاد الأرض التاريخية والجهود المستقبلية.

إلا أن ذلك يشير إلى الحالة الأولية والظاهرية لما ادعوه بفاعلية المركزية الإسلامية التي تجعل من صعود التيارات الإسلامية السياسية أول مراحلها الضروريةمن اجل أن تندثر لاحقا في سماد الحركة الطاحنة لبقايا الماضي التقليدي وزخارف المعاصرة التقليدية (المزيفة). وهو القدر الذي لابد منه بوصفه جزء من مسار التطور التاريخي.

فالعالم الإسلامي (والعربي جزء منه) يمر بمرحلة ادعوها بالمركزية الإسلامية. بمعنى محاولات الرجوع إلى النفس من خلال تنشيط مرجعياته الذاتية أو إبداع الجديد منها، بوصفها جزء من معترك البدائل. الأمر الذي يجعلها مركزية ذاتية من حيث علاقتها بنفسها وبالآخرين، أي أن نياتها ومساعيها وجهودها المدركة وغير المدركة، العقلانية والوجدانية موجهة صوب تنشيط مكوناتها التاريخية الثقافية الخاصة. .إننا نقف أمام إجماع خفي متراكم في الوعي الاجتماعي والسياسي المعاصر في العالم الإسلامي على ضرورة تأسيس نظم للحياة تستمد مرجعياتها الفكرية والروحية من التاريخ الثقافي للحضارة الإسلامية وأممها المتنوعة. ومن ثم تحويل جهادها واجتهادها في مختلف الميادين إلى "قطب روحي" فعال في الصراع الحضاري. وهو جهاد واجتهاد يؤدي بالضرورة إلى تنشيط سياسي لمكونات الحضارة الإسلامية. وبالتالي، فان كل ما جرى ويجري في "العالم الإسلامي" على امتداد القرنين الأخيرين هي أشكال ومستويات مختلفة ومتباينة لهذه الظاهرة. ذلك يعني أن هذه المركزية هي تعبير تاريخي ضروري وعابر أيضا، أي حلقة في سلسلة أو تاريخ المركزية الثقافية الإسلامية. أنها تعكس في تناقضها وديناميكيتها زمن القرن التاسع عشر – العشرين الميلادي، وتاريخ القرن الرابع عشر – الخامس عشر الهجري. ذلك يعني أن حقيقتها الباطنية تعبر عن تاريخ وعي الذات القومي والثقافي، أما صورتها الظاهرية فتعبر عن زمن القرن التاسع عشر – العشرين. وبما أن المقياس الزمني الظاهري هو مجرد قشور لا قيمة لها بالنسبة لتاريخ المركزية الثقافية، من هنا قيمة تتبع المسار التلقائي الذاتي القائم في تنشيط الظاهرة الإسلامية المعاصرة، بوصفها احد مظاهر المركزية الإسلامية الجديدة.

فإذا كان صعود التيار الإسلامي يبدو في مظاهره نكوصا إلى الوراء من حيث الظاهر، فانه في باطنه خطوة كبرى إلى الأمام، أي خطوة في طريق المسار الطبيعي وليس الاصطناعي الذي عبدّته تيار الراديكالية الدنيوية (العلمانية) بأحجار الأيديولوجيات المسروقة وحطام التقليد البائس وألوان البهجة الغجرية!

وبالتالي، فإذا كان صعود التيار الإسلامي يبدو مفاجأة لكل من تعوّد على النظر إلى التاريخ بمعايير الرغبة الخاصة والإلزام العقائدي، أي بمعايير الوجوب والإلزام، أي حسب عبارة "ينبغي أن يكون" و"لزاما عليه" وما شابه ذلك من مواقف تستجيب للطموح النفسي الخالص المشبع بالرغبات والتصورات والأحكام الخاصة، فانه من حيث موقعه الفعلي يمثل الدرجة الضرورية للمسار التاريخي. ومن ثم يؤدي ما ينبغي أن يؤديه، مطبقا حذافير الفكرة القائلة، بان الوجود والعدم توأمان. لهذا كان (وما يزال) اشتراك أهل الحداثة المزيفة و"العلمانية" المشوهة وأصحاب "العقلانية" المأجورة للسلطات في مجرى الأحداث التاريخية للعصيان والانتفاضة التونسية، في هوس العداء للإسلام والإسلاميين والأمن والأمان هو مجرد احد الأمثلة الواقعية بهذا الصدد. لكنه مثل يشير إلى وجود حالة عدائية خربة في الموقف السياسي والعقائدي والأيديولوجي والاجتماعي والثقافي. بل يمكن القول، بأنه استعداء أكثر مما هو عداء. من هنا امتلاءه بنزعة الاتهام المسبق والمجافي للحق والحقيقة والواقع. الأمر الذي يشير ليس إلى "ثورية" البعض و"عقلانية" الآخر، بقدر ما يشير إلى مستوى وطبيعة الانغلاق والانحطاط المادي والمعنوي لهذا النمط من المواقف. أما النتيجة المترتبة على ذلك فتقوم في تخريب بوصلة الرؤية الواقعية عبر إثارة أشكال ومستويات للصراع تهدف إلى حرف الأنظار والمسار السليم تجاه واقع وآفاق ما قام به الانقلاب التونسي الكبير آنذاك، بوصفه حالة ونموذج ومرحلة للثورة الاجتماعية والسياسية، أي تجربة لها حدودها.

فالعلم العربي لم يمر بمرحلة الصيرورة الدينية السياسية حتى النهاية من اجل الانتقال إلى مرحلة الدنيوية العقلانية، أي المرحلة السياسية الاقتصادية في تطور الأمم. وذلك لأن "العالم الإسلامي" (والعربي في الحالة المعنية) يمر ضمن السياق التاريخ العالمي الثقافي في مرحلته الثالثة. لكنه يتسم أيضا بتباين كبير متنوع المستويات والأشكال. ففي داخله عوالم متباينة من حيث مستوى تطورها التلقائي. والعالم العربي متباين أيضا من حيث مناطقه الثقافية الكبرى ضمن هذا السياق. وأنا اقسمه إلى أربعة مناطق أساسية وخامسة محتملة وإضافية، وهي على التوالي منطقة الجزيرة العربية، ومنطقة المشرق العربي (الهلال الخصيب) ومنطقة مصر والسودان، ومنطقة المغرب العربي. وفي كله هو عالم واحد. ومنطقة الاحتمال الإضافي (موريتانيا والصومال وجزر القمر وزنجبار ودول افريقية محتملة). ويختلف العالم العربي من حيث مستوياته في هذه المرحلة الثالثة. إن هذا التحديد يوجه بدوره الرؤية النظرية والعملية صوب تأسيس البدائل أو "المشاريع" المستقبلية.

لهذا كان صعود التيار الإسلامي وانتصاره الأولي الكبير في كل دول "الربيع العربي" هو بداية الخريف الضروري لها من اجل الانتقال إلى صيرورة السياسة العقلانية. فقد كان التيار الإسلامي بمختلف أشكاله وأصنافه ومستوياته مختبئا في اغلب مسامات الجسد العربي الذي لم يتنفس هواء الحرية الفعلية، أي عدم ارتقاءه بعد إلى مصاف تذليل المستوى النفسي والتقليدي في الوعي الثقافي بشكل عام والسياسي بشكل خاص. من هنا عاصفة البهجة البهية "للنصرة الإسلامية"، ومن ثم انتفاخ رئة العوالم الرثة وهياجها الطبيعي بتنفس الصعداء على انه صعود! لكن جذر الكلمة هنا لا يتطابق مع ثمارها، خصوصا وان انعدام الذوق العقلي والجمالي يجعل من حقائق الأشياء وعوارضها أشياء متداخلة بالنسبة للحس البليد والعقل السقيم السائدين في الوعي الاجتماعي العربي الحالي. الأمر الذي يحدد بالضرورة سرعة الصعود وسرعة الاندثار. وذلك لان حلول الصعود المفاجئ ستكون مفاجئة بالضرورة، أي جزئية وعبرة. إذ لا منظومة فيها. ونظامها ليس أكثر من اجترار لنصوص ميتة. وبالتالي، فان أقصى ما يمكنها بلورته في مجال الفكر السياسي هو بهرجة أيديولوجية. بينما لا يتعدى سلوكها أن يكون مجرد وجدان صاخب لا يخلو من نفعية فجة. وذلك لان كل ما فيها هو مجرد جسد مغّبر بخيال الجنائن اللاهوتية! وسوف يسكرها كل ذلك ويطرحها على فراش المتناقضات الميتة مثل أن تتغنى بانبهارها الجميل في عالم قبيح، وان تتمايل في طربها الباطني بمفاجأة القدر وتجعل من التجويد والأذان غناء اللسان السياسي!

إن كل هذه المتناقضات وما لا يحصى لظهوره منها في مجرى الحياة الطبيعية، سوف يجعل من قدر صعودها المفاجئ جبرا لزوالها. بعبارة أخرى، أنها ستؤدي دورها الطبيعي في المسار الطبيعي الذي جرى بتره زمن الصعود الغريب للراديكاليات الدنيوية، أي تلك التي سحقت تجارب الماضي الذاتي بتصوراتها وأحكامها التي لم تكن أكثر من رغبات حالمة وأوهام أيديولوجية متبجحة بذهنية الحثالة ومتمثلة لما فيها من قيم اجتماعية وأخلاقية ليست في حقيقتها غير أعراف وتقاليد نفسية، أي لا علاقة جوهرية لها بفكرة البدائل العقلانية والرؤية العلمية والمستقبلية. الأمر الذي يكشف بدوره عن القيمة الضرورية والمتناقضة للصعود الإسلامي بوصفها بهرجة دينية ضرورية للانتقال من سياسة اللاهوت إلى لاهوت السياسة، وعبره إلى صيغة عقلية وعقلانية أرقى للرؤية الاجتماعية والسياسية.

إن صعود التيارات الإسلامية إلى ريادة "الحركة الثورية" ليس إلا إحدى الصيغ العابرة والضرورية في مرحلة الانتقال التاريخية للعالم العربي من المرحلة الدينية السياسية إلى المرحلة السياسية الاقتصادية. مع ما يترتب عليه من حلول خاصة لإشكاليات الوجود الطبيعي للأمة لكي تخرج منها صوب عوالمها الماوراطبيعية، أي صوب وحدة بنيتها الضرورية في مجال وعي الذات السياسي والتاريخي والقومي والثقافي. بمعنى المرور الطبيعي بطرق الآلام الفعلية من اجل تذليل العقبات القائمة أمام بناء الدولة الحديثة والمجتمع والثقافة والعلم والقومية والأمة. وهو مرور تاريخي وضروري، أي متدرج ومتعرج. وبالتالي تصبح الحلول الناجحة والفاشلة جزء من مسار وعي الذات وتكامله الضروري في كافة الميادين من اجل تطوير بنية التطور التلقائي. وفي هذا يكمن سرّ هذه الثورة الجديدة وقيمتها التاريخية الأولى بوصفها ثورة تأسيسية.

***

  

تابعنا على الفيس بوك  وفي   تويتر

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2292 الأحد 02 / 12 / 2012)

في المثقف اليوم