قضايا وآراء

دريدا: سيرة ذاتية كتبها بينوا بيترز / ميادة خليل

قراراً للتصويت بمنح درجة فخرية للفيلسوف الفرنسي جاك دريدا، مؤسس ما يسمى بالتفكيكية. على الرغم من حملة تمكنت بشكل بارع من تشويهها من قبل المعارضين، الا ان انصار دريدا تحملوا كل الاعباء. من المثيرللاهتمام معرفة ان هؤلاء المعارضين بأسم المعرفة المتزمتة قراوا كتاباً واحداً لدريدا أو حتى بضعة مقالات فحسب.

 

الحقيقة هي انهم لم يكونوا بحاجة الى ذلك. الكلمة تخطت حدود الهراء الفرنسي المألوف: كان مشعوذاً وعدمي، الرجل الذي اعتقد ان أي شيء يمكن ان يعني أي شيء، ولم يكن هناك أي شيء في العالم سوى الكتابة. كان مفسداً للشباب الذين توقفوا في مساراته. عندما كان مراهقاً، توهم دريدا مع بعض زملائه وكانوا على وشك تفجير مدرستهم ببعض المتفجرات التي حصلوا عليها، كان هناك في كامبردج من يعتقد ان دريدا كان يخطط ليقوم بالشيء ذاته مع الحضارة الغربية. نعم فعل ذلك لكن في المقابل حصل على تعاطف بغيض، عندما منح دوق ادنبرا رئيس جامعة كامبردج الدرجة الفخرية لدريدا في السنة التي انفصل بها تشارلز وديانا، تذمر الدوق من أن التفكيك قد طال عائلته ايضاً.

 

التفكيكية ترى بان ليس هناك أي شيء هو نفسه تماماً، هناك اختلاف كامن داخل كل وحدة مؤكدة. هذه الوحدة تستولي على عنصر خارج المكان في النظام وتستخدمه لتظهر كيف ان النظام لا يهدأ اطلاقاً ويستقر كما يبدو. هناك شيء داخل أي بنية وهو جزء منها، ولكنه يهرب من منطقها. ليست مفاجئة ان صاحب هذه الافكار كان يهودياً شرقياً من الجزائر المحتلة، نصف في  وآخر خارج المجتمع الفرنسي. وان كانت لغته فرنسية، يمكنه الحديث باللهجة العامية العربية للطبقة العاملة. كان يرغب بالعودة في وقت لاحق الى وطنه الاصلي كمجند في الخدمة الالزامية للجيش الفرنسي، نموذج كلاسيكي لانقسام الهوية.

 

وعندما كان عمره اثنى عشر عاماً، أستبعد دريدا من الليسيه*، عندما قررت الحكومة الجزائرية خفض عدد الطلاب اليهود نتيجة قلقها من حماسة السلطة الفيشية اللاسامية. ومن المفارقات، ان تأثير هذا الرفض القاسي على " المتشاؤم قليلاً واليهودي العربي الاصيل"، كما يصف نفسه، ليس لشعوره بانه غريب، ولكن هذا الرفض ربى فيه كراهية المجتمعات مدى الحياة. قُبِل في مدرسة يهودية، وكره فكرة ان يُعرّف من خلال هويته اليهودية. الهوية والتماثل هما ما كان يسعى دريدا لتفكيكهما فيما بعد. ومع ذلك اعطته  تلك التجربة شك عميق في التضامن.

 

اذا كان هو دائماً الرجل اليساري، كان لديه كراهية غريبة للمعتقدات التقليدية والانظمة. كان يقوم بدور الناقد المزعج، المنشق المحترف، الجوكر في ورقة اللعب. في النهاية، كان قد كتب " التفرد المطلق" لكل انسان، ومخصصاً للاشخاص الغير اجتماعيين. المبادئ، المذاهب والحركات الجماهيرية كانت من الممكن ان تكون ظالمة، في حين كانت الهوامش والانحرافات مدمرة، حتى اليمين المتطرف الانكليزي هو هامشي. حيث أستدعى الامر حركة جماهيرية لاسقاط القذافي. احترام حرية التعبيرعقيدة والحق في التظاهر مذهب.

 

من خلفية متواضعة في الجزائر، انتقل دريدا الى الليسيه المرموقة في فرنسا، ومنها الى مدرسة المعلمين العليا. كانت مؤوسسة ستالينية بشكل كبير في تلك الفترة، والتي عززت نفوره للصراخ مع الجماهير . اذا كان دريدا وصف نفسه بانه شيوعياً فيما بعد، كان ذلك فقط  ضمن الشعور الذي جعل كينيدي يلقب نفسه " برليني" (جملة كينيدي المشهورة " انا برليني ") عند اندلاع ثورة الطلاب حوله في مايو 1968، لقد وقف عموماً في الكواليس. كذلك الحماس التحرري في 1968 كان ايضاً القوة المحفزة لعمل دريدا. السنة التي سبقتها (1967) كانت سنة المعجزات بالنسبة له، شهدت ظهور ثلاث كتب صنعت اسماً مشرفاً له وملعوناً في كل انحاء العالم. قبل فترة طويلة، المتحفظ، الصامت، الرجل الشاب الخشن القادم من المستعمرات كان يشرف مائدة العشاء لكوكبة من نجوم فرنسا: جان جينه، رولاند بارت، جوليا كريستينا، موريس بلانشو وآخرون. حتى الحكومة الفرنسية سقطت تحت تاثير سحره. عندما وصل فرانسوا ميترا الى السلطة في 1981، دعى دريدا لتأسيس الكلية العالمية للفسلفة في باريس.

 

التفكيكية اثارت موجة غاضبة من سيدني الى سان دييغو، بينما دريدا نفسه كان يحتفل كنجم. منذ وقت قريب، كان هناك كتاب امريكي كوميدي يتحدث عن طبيب شرير مفكك، والمجلات الخاصة بديكور المنزل كانت تجذب قرائها لتفكيك مفهوم الحديقة. اظن ان هناك سبب واحد جعل دريدا يتمتع بالسفر كثيراً حول العالم، وهو ان السفر يسمح له بالابتعاد عن المشاكسة، الطعن بالظهر، بيئة الخدش للحياة الفكرية الباريسية، التي دونت بكل امانة في كتاب السيرة الرائع هذا. لكن ما فشل الكتاب في خطهِ بصورة واضحة هو كيف يمكن أن يلدغ الانسان نفسه.

 

لحظتان مأساويتيان تبرزان في مهنة دريدا. السفر الى براغ الشيوعية 1981، ليحاظر في ندوة فلسفية نُظمت سراً، ألقي القبض عليه ووجهت له تهمة تهريب المخدرات. يبدو ان رأي السلطات مثل سائر الاراء المعارضة للتفكيكية، اعتبرت التفكيك تهديد للسلطة. ضابط الشرطة الذي وضع المخدرات في حقيبة دريدا كان نفسه قد القي القبض عليه بتهمة تهريب المخدرات في وقت لاحق. بعد ست سنوات، تعطلت حياة دريدا مرة أخرى، هذه المرة نتيجة تصريح ضد صديقه الذي كان متوفياً، باول ديمان،  بان ديمان قد ساهم بمقالات معادية للسامية الى الصحافة البلجيكية – الالمانية خلال الحرب العالمية الثانية. تحطم من خلال الاخبار، لذلك كتب دريدا مقال طويل في الدفاع عن ديمان ـــ الذي يجب ان يحتل مرتبة النصوص الاكثر خداعاً وبلا خجل في العصر الحديث.

 

بينوا بيترز نهب الارشيف الضخم لدريدا واجرى مقابلات مع العشرات من اصدقاءه وزملاءه. والنتيجة رصيد مقنع بشكل رائع، ترجمه للانكليزية اندريو براون. الرجل الذي يخرج من هذه الصورة هو روح معذبة مع سرور مفاجئ، مفكر مبدع ومدهش واكثر من مندفع مغرور، ومع ذلك جعل نفسه في خدمة طلابه بكل تواضع.

 

في محادثة شخصية كان من اكثر المثقفين روعة، شخص واضح وهادئ ولا يهمه الحديث عن المسائل الفكرية. كان واحداً من آخر الفلاسفة الشرفاء ـــ من كيركيفارد، نيتشه وماركس الى فرويد، ادورنو، فيتجنشتاين وفالتر بنيامين ـــ الذين يمكن ان يقولوا ما قالوه فقط من خلال اختراع اسلوب جديد في الكتابة والفلسفة.

 

كتابات دريدا لم يتقبلها الجميع. لديه أسلوب مزعج في الافراط باستخدام السؤال البلاغي، الذي يضفي وبكل سهولة الى محاكاة ساخرة: " ماذا جرى، تكلم؟، كيف يمكنني الحديث عن هذا ؟، من هذا؟ " أنا" من يتحدث عن الحديث؟ " . ومع ذلك، المنعزلون في كامبردج كانوا على خطئ. دريدا الذي مات مصاباً بالسرطان في 2004 يحث أصدقاءه لتأكيد الحياة، لا العدم. ولم يرغب على الاطلاق بتفجير الحضارة الغربية بعصا من المفاهيم الديناميتية. هو بكل بساطة تمنى ان يجعلنا أقل غروراً وعندما نتحدث عن الحقيقة، الحب، الهوية والسلطة، نعرف بالضبط ماذا نقصد.

 

تيري ايغلتون: ناقد ادبي وكاتب ومحاضر في قسم الادب الانكليزي في جامعة لانكستر .

 

.............

المصدر: The Guardian  ( الكارديان البريطانية)

 

تابعنا على الفيس بوك  وفي   تويتر

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2295 الاربعاء 05 / 12 / 2012)


في المثقف اليوم