قضايا وآراء

المصير التاريخي لثورة الربيع العربي (4)

بأن التطور الفعلي للأمم يفترض تأسيس حريتها بمعاييرها التاريخية والثقافية الخاصة. ومع أن هذا التأسيس ما زال في طي الكمون التاريخي بالنسبة للعالم العربي الحالي، إلا أن إدراكه المتزايد سوف يلازم بالضرورة كمية ونوعية المعارك الحالية والمستقبلية. بمعنى ، أن إدراك حقيقة الحرية وتأسيسها النظري والعملي مازالت جزء من معترك تاريخي وثقافي هائل، لكن ملامحها الجلية سوف تأخذ بالحصول على إجماع شامل حالما تتحول المرجعية المشار إليها أعلاه إلى بديهية سياسية بالنسبة للقوى جميعا بغض النظر عن معتقداتها السياسية والفكرية الخاصة، أي كل ما يلازم بالضرورة إرجاع حقائق الأشياء إلى أصولها. ولا يعني ذلك بالنسبة للعالم العربي سوى الرجوع إلى أصوله الذاتية، أي إرساءه على أساس معاناته الذاتية وإبداعه الخاص. وفي هذا تكمن الطاقة الحية والخفية لثورة "الربيع العربي"، بوصفها ثورة تأسيسية رغم خفاء هذه الحقيقة لحد الآن أمام أعين الأغلبية الساحقة. وليس المقصود بالثورة التأسيسية هنا سوى كونها ثورة عربية من حيث مقدماتها وأسسها وبواعثها وقواها وأفكارها. أنها ليست صنيعة الخارج ولا تقاليده المغتربة. من هنا خلوها الأولي من ثقل مغامرات ومؤامرات الأحزاب التقليدية (والمغتربة) وأيديولوجياتها المصطنعة. وفي هذا تكمن بقدر واحد مصادر ضعفها الظاهري وقوتها الباطنية.فقد كانتاقرب ما تكون إلى احتجاج منظم هائل بلا أيديولوجية وأحزاب. غير أن هذا الضعف الظاهري يحتوي في الوقت نفسه على قوة الإنشاء والتراكم الطبيعي للفكرة السياسية وتنظيمها اللاحق بهيئة تشكيلات متنوعة.

لهذا فان من الخطأ والخطيئة أن يجري مقارنة ما حدث في الثورات العربية بمثيلاتها مما يسمى بالثورات الملونة. وذلك لأن هذه المقارنة تهدف بوعي أو دون وعي إلى سحب البساط من تحت أقدامها بوصفها ثورة اجتماعية سياسية وقومية كبرى. وبالتالي ليس الدخول إليها والهجوم المتسرع عليها ومحاولة امتطاء بعض أحصنتها المتعبة من جانب المراكز الكولونيالية (الاوروامريكية) والإقليمية الميكيافلية (التركية) والعربية المتفسخة (السعودية - القطرية) سوى الصيغة النموذجية لهذه الحالة التي تسعى لتشويه الرؤية وحرفها صوب الانطباع القائل، بان هذه الثورات هي صناعة "غربية" و"رجعية". بمعنى تصوير الثورة العربية الأخيرة على أنها مؤامرة خارجية. ووجد ذلك ذروته في "الثورة السورية" التي جعلت من نفسها مطية غبية بأيدي الغرب الكولونيالي والتركية العثمانية النفعية ودويلات الملح (السعودية وقطر بالأخص). وبهذا تكون قد حرفت مسار المعنى الاجتماعي والوطني والقومي الذي يجعل من السهل تمويه المعنى الحقيقي للثورة العربية الحالية.

ومع ذلك يبقى التشوه النسبي في مجرى الثورات الكبرى هو النتاج الملازم لاحتكاك وتصادم مختلف المنازع والمشارب والآراء والمواقف والرؤى والموروث المتنوع والمتباين والمتعارض تجاه ما هو موجود في كينونة الأمم وكيانها السياسي. الأمر الذي يعطي لنا إمكانية القول، بأن الثورة العربية الحالية هو ثورة من طراز جديد، يقوم في كونها جزء حيوي لا يتجزأ وفعال في الصيرورة العربية الموحدة، وبالتالي فهي حركة واحدة من حيث الأصل والغاية والإمكانية. وإذا كانت الثورات الكبرى لا تختلف من حيث الأساليب والغايات، فلأنها في بدايتها جهاد متفان من اجل تغيير الحالة القائمة، وآخرها اجتهاد مضني من اجل تجسيد الأهداف الكبرى وتحقيق المثل الكامنة في شعاراتها الأصلية. أما الصيغة الشائعة والآخذة بالانتشار عما يسمى "بثورة الانترنيت" و"ثورة البلوغات الاجتماعية" و"الفيسبوك" و"التويتر" وما إلى ذلك، فأنها ترجع الكلّ للجزء، والحقيقة إلى احد مظاهرها، والمضمون للشكل، والماهية للأدوات. وذلك لان كل ما له علاقة بتكنولوجيا الاتصال هو مجرد أداة اتصال لا غير.

أما الشيء الجوهري الذي يجعلها تختلف عن أدوات الماضي فهو سرعتها وسعتها. ولا يمكن إهمال ما في هذه الصفة من قيمة كبرى لكنها تبقى في نهاية المطاف عرضية وثانوية. أنها مجرد أداة من أدوات العمل والتنظيم. ومن ثم لا علاقة جوهرية لها بماهية الثورة. أنها تشير إلى زمن الحدوث وبعض أساليبها فقط، أي حدوثها في عصر التكنولوجيا المتطورة. لكن التكنولوجيا بحد ذاتها لا تصنع ثورة اجتماعية. أنها مجرد أداة من أدواتها في العالم المعاصر. ومن ثم تساعد وتساهم في تغيير البنية الذهنية وتوسيع مداها وحركتها السريعة وديناميكيتها المؤثرة. وهنا يكمن دون شك احد الأسباب المساعدة للثورة. تماما بالقدر الذي يمكن لهذه التكنولوجيا أن تكون مضادة بالقدر ذاته. فالدولة والأموال اقدر على صنع بدائل مزيفة. ومن ثم اقدر على التأثير الدعائي خصوصا في ظل غياب أو ضعف للمجتمع المدني الحديث. إلا أن مفارقة هذه الظاهرة في الحالة العربية الحالية تكمن فيما يمكن دعوته بانعدام النسبة الضرورية بين النزعة النفعية والحقيقة في أنماط السلطة السياسية السائدة، والتي أنتجت نظاما لا نظام فيه بالمعنى الايجابي للكلمة. من هنا وقوعها في شرك التاريخ الذي أرادت أن تجعل منه مجرد زمنا لاجترار وتكرار وجودها في السلطة، أي العمل والعيش والتفكير بمعايير الجسد الميت وغريزة النفس البدائية. بمعنى العيش والتفكير بطريقة لا يمكنها البقاء والديمومة فترة طويلة في ظل ديناميكية التحول والتطور المعاصرة.

فقد أدى هذا التناقض إلى صنع سدود خربة. وذلك لأن مهمتها لم تعد تنظيم مجاري الحياة بالشكل الذي يجعل حتى من سيولها الجارفة قوة إضافية للإرواء، بل كومة ركام مهمتها عرقلة كل ما يمكنه السير والحركة. من هنا انهيارها السريع أمام ضغط سيول الاحتجاج المتراكمة في مجرى عقود الموت الراديكالي والدكتاتوريات الفجة، أي كل ما حصل على تسمية "الربيع العربي"، بوصفه إحياء جديدا لكينونته الذاتية. وبالتالي، ليس "الربيع العربي" في الواقع سوى بداية الثورة الاجتماعية العربية الكبرى. انه الفصل الجديد في صيرورته التاريخية الجديدة. وإذا كانت "بداية" الأفراد والجماعة المنظمة والشعوب الحية والأمم الكبرى عادة ما ترتبط ببداية زمنية هو "يوم ميلادها"، فان نوعية الاحتفال به مرتبط بأثره الفعلي في التاريخ. وكلاهما جزء من وعي تاريخي ذاتي تتحدد قيمته بالإبداع الفعلي لهذه الولادة وأثرها بالنسبة للتاريخ نفسه. وبالتالي، فان بداية "الربيع العربي" هو بداية الولادة التاريخية الجديدة للروح الاجتماعي والقومي والمستقبلي.

فقد كانت الثورات العربية السابقة محلية قطرية جزئية مغامرة. بمعنى أنها كانت تختمر في عقول وأفئدة النخبة المحلية الفتية التي لم يتقو صلبها بمعارك النظر والعمل. من هنا كان ضعفها نتيجة ملازمة لضعف أسسها الاجتماعية والثقافية. وقد كان ذلك بدوره يحتوي على أحد الأسباب الرئيسية الكامنة وراء مغامرة الجيش في منافستها للقيام بانقلابات عسكرية سرعان ما تحولت إلى "ثورات شعبية". وقد كانت تلك منافسة لا علاقة لها بمنطق التاريخ ولا تاريخ المنطق والعقل العملي. من هنا محاولاتها اللاحقة للاستحواذ على التاريخ والمنطق والعقل والمستقبل أيضا! وقد أثار ذلك حمية وحماسة الوجدان المعذب في رغباته الراديكالية لبلوغ أقصى ما يمكن تخيله من أحلام وأوهام عند طرفي المعادلة الغريبة: الشعب والجيش! فالتاريخ لم ولن يعرف التقاء بينهما باستثناء معايير الدفاع والهجوم (القوة). وحالما جرى تحويل هذه المعايير إلى عقل الأمة ومنطق التاريخ، عندها تحولت القوة العسكرية إلى طاقة سارية في معاني السمو والتمام والعالمية، أي إلى نموذج ومثال لا يعادله إلا العلي القادر العليم! واحتوت هذه العملية المحزنة لمكر العقل التاريخي على ملهاة ومأساة أنتجت ما يمكن دعوته بمنظومة القلق الدائم وانعدام الاستقرار والتجريب الخشن للجهل والغباء والبلادة السياسية. وسواء كان ذلك الوجه العملي للراديكالية السياسية، أو أنه النتاج الملازم لصعودها، فان توحدهما الفعلي قد أدى إلى تشويه أسس الدولة الحديثة واعوجاج مسارها. أما النتيجة فهي غلبة السلطة على الدولة، والقبيلة على المجتمع، والفرد على الجماعة، أي إرساء أسس هرم مقلوب، وتوازن قلق، وخراب دائم للدولة والمجتمع، وتبذير دائم لكل تراكم عقلاني محتمل.

لقد أدى كل ذلك إلى نخر أسس الدولة والمجتمع والوعي، مع ما ترتب عليه من إمكانية انهيار الجميع أو إحدى مكونات هذه المعادلة الخربة أو البقاء لفترة زمنية أخرى في مرحلة لا حدود فيها ولها. ولا يعني ذلك سوى المراوحة فيما ادعوه بمرحلة الزمن، أي مرحلة هلامية الوجود، وبالتالي انعدام الخصوصية والإمكانية والآفاق. وهي أتعس حالات الوجود وأرذلها. لكنها شأن كل ما يفتقد إلى مكوناته التلقائية وقدرته على صنع التاريخ وتوسيع مدى مرجعياته الذاتية، لابد له من الانهيار والزوال إلى غير رجعة. وهي النتيجة التي بهرت العقل العربي ووجدانه في تلك الهبة التي ألهبت الجموع التونسية لهيب المواجهة الحرة، أي تلك اللحظة الحرجة التي كشفت عن أن الحرج الفعلي للتاريخ يقوم في عدم قدرته على التمام في فعل له حدوده المعقولة. وقد كانت هذه الحدود الأولية تقوم في "إسقاط النظام"، أي إسقاط حالة الخراب والمراوحة وهلامية الوجود. بمعنى كسر حاجز الزمن والانتقال عبره إلى رحاب التاريخ، وإشكالات الحرية غير المتناهية. وهي بداية الطريقة العربية الحديثة التي سوف تصنع شريعتها وحقيقتها بمعايير تجربتها الذاتية.

ليس المقصود بذلك إضفاء صفة الصوفية المتعالية والمتسامية على الأحداث، بقدر ما تجري محاولة تصوير الثورة، بوصفها روحا أيضا. فالثورة الحقيقة في جوهرها هي تبدل روحي هائل مهمته صنع "أنا الحق" الفردية والاجتماعية والوطنية والقومية والإنسانية، من خلال صنع الإرادة المبدعة بمعايير معاناتها الدائمة وتجاربها الخاصة. ولهذه طريقتها وشريعتها بوصفهما حدود وأساليب بلوغ الحقيقة. وحقيقة الثورة هي ديمومة البدائل العقلانية وتوسيع مدى الاحتمال الإنساني فيها.

لم تكن "الثورة العربية" حدثا طارئا ولا آنيا ولا جزئيا. على العكس! أنها كانت وما تزال وسوف تبقى لعقود عديدة حدثا ضروريا وبنيويا وكونيا يعكس من حيث بواعثه وآفاقه تأسيس المقدمات التاريخية لإحدى مراحل الانتقال الكبرى في الصيرورة العربية الحديثة على مستوى الدولة والقومية والنظام السياسي والثقافة العامة. ففي مظهرها تبدو شبيها ببركان هائج، أي اقرب ما يكون إلى هياج لاعقلاني. ومن حيث حقيقتها أشبه بالحياة والبدائل الكبرى.

فالحياة بركان هائج. وبالتالي لا يهدأ كل منهما إلا بعد إفراز كل ما في أعماقه السحيقة من قابلية وكوامن. وإذا كان للطبيعة حدودها الذاتية فيها وبذاتها، فان للطبيعة البشرية حدودها الإنسانية، أي القوة القادرة على تنظيم كوامن الإنسان والمجتمع بمعايير الحق (الحقوق) والأخلاق، ومقاييس السبيكة العقلانية والواقعية. الأمر الذي حدد وسوف يحدد لفترة طويلة ديمومة الصراع وحدته وقسوته وتعرجاته وتخريجاته المفرحة والمأساوية. لكنها تحتوي في هذا الكلّ المتناقض على آفاقها المتفائلة رغم كل ما يبدو فيها من صعود للقوى الإسلامية السياسية التي تثير حمية "العلمانية" المزيفة. فالأخيرة ليست أفضل من سلفية متزمتة. مع إنهما كلاهما يعيشان ويعملان بمعايير ومقاييس "الفرقة الناجية" أي المتعصبة والمنغلقة على نفسها والغافلة عن رؤية الواقع كما هو والعمل على تغييره استنادا إلى قواه الذاتية.

إن صعود "القوة الإسلامية" (وهي قوة ذاتية وعربية واجتماعية) يعكس الحالة التي ادعوها بصيرورة المركزية الإسلامية بوصفها حالة سياسية ثقافية ضرورية وعابرة في الوقت نفسه، شأن كل حركة سياسية عقائدية كبرى. بمعنى أنها تمثل مرحلة الانتقال من الوعي الديني اللاهوتي إلى الوعي الديني السياسي. ومن ثم المساهمة في توسيع مدى الرؤية والمشاركة الاجتماعية لصيرورة الدولة والقومية. وهو أمر جلي في اشتراك الجميع فيها، شعوبا ودولا ونخبا.

ونعثر في هذه الحالة على إشارة ضمنية إلى أن العالم العربي كلّ واحد، وان الثورة الجارية فيه هي ثورة واحدة أيضا. وإذا كان من مفارقات هذه الظاهرة "الثورية" اشتراك حتى دول الخليج العربية فيها بحماسة مفرطة، وبالأخص في ليبيا وسوريا، فانه مؤشر على بروز طبيعة وحقيقة الإمكان القائمة في الفكرة القائلة، بان العالم العربي هو كل واحد رغم تجزئته الحادة وصراعاته البينية الكبيرة. وضمن هذا السياق يمكن فهم طبيعة الحمية المفرطة لوقوف اغلب الدول العربية الحالية وعلى رأسها مملكة آل سعود ودويلات الخليج إلى جانب "الثورة السورية". ففيه نعثر أولا وقبل كل شيء على وقوف ضد سوريا. وذلك لأننا نستطيع تصور كل شيء، باستثناء دعم دويلات الخليج ومراكز الكولونيالية القديمة (والجديدة) لفكرة الثورة الاجتماعية والتحرر القومي الفعلي. بل على العكس، أن حميتها النشطة واستماتتها في الصراع حول سوريا هو نتاج الوعي السياسي بحقيقة سوريا وليس بحقيقة الثورة. فالثورة "السورية" الحالية هي ليست "حقيقة سورية". وبالتالي، فان دعم القوى الكولونيالية والاطرافية "للثورة" هو شكل من أشكال الانتقام التاريخي للتاريخ السوري الحديث وسوريا بوصفها بؤرة الكينونة العربية القومية الحديثة.أما من الناحية العملية المباشرة، فأنها ترمي إلى جعلها منطقة الخلل الدائم والاحتراب غير المتناهي للطوائف، ومن ثم جعل هذه البؤرة القلقة والخربة في خاصرة العراق. فمصدر الخوف العميق لمملكة آل سعود هو العراق وليس الثورة أولا، أو الثورة الحقيقية وليس العراق أخيرا! وضمن هذا السياق يمكن فهم المفارقة الغريبة والمريبة التي جعلت وتجعل من نخب آل سعود وآل حمد (أو الأسرة الحاكمة) الأكثر "ثورية" ودفاعا عن قيم الحرية والديمقراطية والإنسانية واحترام حقوق الإنسان، أي كل ما لا وجود له عندها أو فيها. لكننا نعثر في هذه الحالة الغريبة والمريبة على إشارة جلية لطبيعة المضمون الواقعي لما يجري بشكل عام وديناميكية الصراع وارتفاع درجات حرارته أولا وقبل كل شيئا آخر.

فقد كان "الدرس الليبي" أو التجربة الليبية "للتدخل السريع" في شئون العملية السياسية الدرامية أكثر إثارة لشهية القوى الأجنبية والخليجية بالنسبة للحالة السورية. وقد كان العامل الحاسم لهذه الرؤية المشتركة بينهما يقوم بقدر واحد في التخوف المرعوب مما تسميه بشبح "الهلال الشيعي" بالنسبة لمملكة آل سعود والدويلات الخليجية من جهة، وللثأر التاريخي من سوريا القومية من جهة أخرى. وكلاهما يخدمان مشاريع المصالح الإقليمية (التركية) والعالمية (الأمريكية والأوربية) ويتناغمان معهما. وفي هذا يكمن السرّ الفعلي لتحول سوريا إلى بؤرة الصراع الإقليمي والعربي والعالمي. وتداخلت مستويات هذا الصراع وتجمعت في سوريا بسبب كونها المنطقة الأخيرة التي يتوقف على كيفية حلها طبيعة ونوعية المسار اللاحق للصيرورة العربية الجديدة ومزاجها الثوري، أي صوب الإصلاح الفعلي أو التنشيط المدمر للصراعات الجزئية وغير العقلانية بمختلف أشكالها ومستوياتها. وذلك لأن تحويل سوريا إلى بؤرة خربة للصراع غير العقلاني لا يعني فقط تحطيم سوريا الدولة والوطن والمجتمع والقومية، بل وجعل منطقة الهلال الخصيب منطقة حرائق جدباء. وفي نهاية المطاف إعادة ترتيب "سايكس بيكو" اشد تخريبا. وهو هدف وجد تعبيره في احدى العبارات النموذجية التي تفوه بها احد أفراد العائلة السعودية في رغبته "بإرجاع سوريا إلى العصر الحجري"(!) كما لو انه يزايد على ما قاله بوش الأب في تخطيطه وتنفيذه لحرب "عاصفة الصحراء" عن رغبته في إرجاع العراق إلى المرحلة ما قبل الصناعية!!

ومع ذلك فإن للتاريخ وأفعاله غير العقلانية مكرهما الخاص. ومن ثم فإن هذه الحالة الغريبة والمريبة تساهم بوعي او دون وعي في إدخال الجميع دولا وشعوبا ونخبا وقوى اجتماعية وسياسية وفكرية وعقائدية مختلفة في دوامة الصراع الفعلي. فعندما نتأمل حالات "الثورات العربية"، فإننا نقف أمام مظاهر مختلفة لحالة كبرى واحدة، ألا وهي ضرورة الإصلاح السياسي. من هنا تخوف الدول جميعا من هذه الصيرورة الاجتماعية والسياسية القومية الكبرى والتاريخية المثلى. وبالتالي اشتراكها جميعا بمؤازرة "الأسر الحاكمة"، ثم محاولة الالتفاف عليها بطرق مختلفة من خلال نقل "الحريق" بعيدا عنها، بما في ذلك اشتراكها الفعال من اجل جعل القوى الاستعمارية السابقة سباقة في دخول "المعركة الثورية"، كما جرى في ليبيا. فقد استطاعت تونس ومصر واليمن خوض المعركة بقواها الخاصة. كما أنها جرت بسرعة مذهلة لم يكن بإمكان القوى الأجنبية (الاوروامريكية) والاطرافية (الخليجية) رؤية مسارها، كما أن قوى الثورة لا علاقة لها بنمط القوى السياسية والأحزاب التقليدية. من هنا صعوبة التعامل السريع معها، وذلك لأنها كانت خارج الأنماط القابلة "للتقويم" بمعايير التدخل المحتمل من القوى الخارجية والاطرافية. من هنا تهالك هذه القوى السريع من اجل دخول "معركة الثورة" الليبية.

غير أن هذا "الدخول" الذي يبدو نزهة بمعايير الطائرات الحربية، سوف يتحول بالضرورة إلى متاهة فعلية في دهاليز المكر العقلي والعقلاني للتاريخ. ولعل الخروج من القطرية والجهوية والانعزالية والتقوقع صوب عالم أوسع من اجل الحفاظ على القطرية والجهوية والانعزالية نفسها، هو الشرك الأولي لهذا المكر العقلي للتاريخ الفعلي. بمعنى أن الهلع القابع في أعمق أعماق البنية التقليدية يجبرها على الهياج في عالم لا تدرك معناه وحقيقته وقواه وآفاقه. الأمر الذي يرميها بالضرورة فيما أسميته بمتاهة السير في دهاليز المكر العقلي والعقلاني للتاريخ، أي يجبرها على خوض غمار "معركة المستقبل". ولا يمكن للأخير أن يكون حكرا او مصادرة لبنية تقليدية، لأنه يتناقض معها بصورة قطعية وشاملة وتامة في ظروف العالم المعاصر. وذلك لأن المعاصرة والمستقبل في العالم الحالي هو صيرورة واحدة.

فالمستقبل هنا هو الحركة الفعلية والغاية النهائية التي تتراكم في مجرى الخطأ والخطيئة الملازمة لصعود النخب وطبيعتها في الدولة العربية الحديثة. وإذا كانت نخب الدول الخليجية في العالم العربي جزء من عالم الخليج المعدوم الهوية العربية بالمعنى القومي الدقيق للكلمة، فإن التطور التاريخي للدولة الخليجية والمحيط الإقليمي العربي العام والعالمي يسحبها بالضرورة للخروج من حدود الضيق القبلي - العرقي وثقافة الرشوة الشاملة إلى ميدان الوطنية المحصورة بالعروش والكروش. ومن خلالها تتراكم بعض عناصر الفكرة القومية العربية بوصفها حركة اجتماعية سياسية وثقافية متنامية وموازية لتقاليد العائلة والقبيلة السارية في جسد التقاليد المورثة والبدائية للسلطة ونوعية الحكم في الدولة الخليجية. من هنا تراكم شحنة العداء الخفية والقوية في المجتمع العربي تجاه "نظام الحكم" فيها. وهي عملية لابد لها من الصدام أو الانفجار. وقد تكون أحداث البحرين هي من بين أكثرها نموذجية الآن. ومن ثم يمكننا أن نرى فيها "مستقبل" الأحداث في الدول الأخرى. وفي هذا يكمن احد الأسباب الجوهرية التي دفعت وتدفع الدولة الخليجية للانهماك في "ربيع" لا علاقة له بها ولا تفقه معناه وحقيقته التاريخية. لكنها تتحسس بقوة الغريزة خطورته الفعلية القادمة. من هنا خروجها للمرة الأولى بعد قرن من الزمن، من واقع الجزيرة شبه العربية إلى واقع شبه الجزيرة العربية، ومنه إلى العالم العربي. وإذا كان اهتمامها الحساس بالعراق فلأنه عرق الأعراق أو عصب الأعصاب المثيرة لهلع وخوف "الأسر الحاكمة". من هنا لم يكن دعم "الثورة السورية" سوى محاولة دعم الخراب "المستقبلي" في العراق ومن ثم إبعاد شبح الثورة من الدخول إلى ربع الملوك والأمراء الخالي (الربع الخالي) من كل ما يمكنه أن يصنع "ربيعا" فيه!

ومن المكن اختصار كل هذه العملية المعقدة والمتناقضة من حيث غاياتها في الفكرة القائلة، بأن الصراع الحقيقي في العالم العربي بين دوله وقواه الاجتماعية والسياسية يتحول للمرة الأولى من صراع سياسي اقتصادي إلى صراع من اجل الحرية والعدالة. ومن ثم ليس الصراع السياسي الحاد فيه سوى الوجه الظاهري للصراع الباطني من أجل تحقيق فكرة الحرية العدالة. وليس مصادفة ألا نعثر في اغلب الشعارات العفوية على أية مظاهر "ايجابية"! على العكس أن الروح الطاغي هو شعار "إسقاط النظام"، أي «الإسقاط". ولا يعني هذا من الناحية الفعلية سوى إسقاط النظام السياسي الساقط، أي إننا نقف أمام نفي ايجابي فعال يوجه كامل احتجاجه ضد نظام وجود الأشياء والمفاهيم والقيم، أي مجمل البنية السياسية والاجتماعية والاقتصادية والروحية.

وليس مصادفة أن تحصل كل هذه العملية الجارية في عروق الاحتجاج الشعبي، والسارية في أعصاب التحدي الحر، والمتحركة في قلب الحياة السياسية، والباحثة في وجدانها عن إخلاص في البدائل، والمؤسسة في عقلها عن رؤية مستقبلية، على أوصاف مغرية للخطابة والبلاغة والبيان مثل ثورة الياسمين والربيع العربي! ولكل منهما وغيره مذاقه وأصله وجذره ورمزيته. وذلك لأن الياسمين فيها كان يعادل معنى الربيع، وفي كليهما مذاق ورائحة التجانس الجميل للنسب المثلى. فهو ربيع الحياة ما بعد شتاء الاستبداد والانحطاط.

وقد أحتوى هذا الوصف في رمزيته أيضا على أن التمرد والعصيان فيه يعادل معنى التحدي العميق من اجل الحرية. وبالتالي فهو عصيان على الطغيان، وثورة على الاستبداد، وتمرد يرتقي إلى مصاف التصنيع الحي لنظام المستقبل، أي للفرضية أو الفرضيات الكبرى والحية الكامنة في فكرة الاحتمال والكفاح من اجلها. وقد حدث على خلفية وفي مجرى العقد الأول للقرن الحادي والعشرين، أي في تقويم الزمن الغريب بالنسبة للعالم العربي. الأمر الذي جعل منه أيضا قوة روحية وجدت صداها فيما يمكن دعوته بالبعد الكوني لروح لتمرد الذي بدا كما لو انه قد ذاب منذ زمن بعيد في دهاليز الاستهلاك والهيمنة الكولونيالية الجديدة وألعاب الفيديو والكومبيوتر. إلا أن مفارقة الظاهرة هنا تكمن في أن هذه العوالم الافتراضية قد تحولت في عالم افتراضي كالعالم العربي إلى قوة فعلية! من هنا العبارة القائلة بان الربيع العربي هو الفصل أو العام الذي غيّر العالم!

وفيما لو جرى طرح هذا الغلو الأدبي والصحفي في توصيف ما جرى ويجري وسوف يجري جانبا، فإن الحقيقة الكامنة في صلب هذه العلمية وآفاقها تقوم في أن البعد الكوني للربيع العربي يكمن في توسيعه وتجسديه وتحقيقه لقيمة التمرد بشكل عام وفي العالم العربي بشكل خاص.

بعبارة أخرى، أن الربيع العربي هو الانتعاشة الجديدة والحية لروح التمرد الإنساني تجاه النفس أولا وقبل كل شيء. الأمر الذي جعله يحتوي أساسا على فكرة المستقبل. فالثورة أشعلت أولا وقبل كل شيء شمعة المستقبل. فالربيع هو فصل الفتوة والمستقبل. ومنهما وفيهما ومن خلالهما كانت تتضح معالم الحقيقية الكبرى والمرجعية المستقبلية القائلة بان فلسفة المعنى الذائبة في كل ما جرى ويجري وسوف يجري بهذا الصدد تقوم في بلورة الشعار الباطني لمرجعية الحرية والنظام.

***

 

 

تابعنا على الفيس بوك  وفي   تويتر

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2297 الجمعة 07 / 12 / 2012)

في المثقف اليوم