قضايا وآراء

هيرتا مولر حياةٌ في كتب / ترجمة: ميادة خليل

 

الكاتبة مولر تتعامل مع الحوارات كأستجواب لها من قبل الشرطة السرية الرومانية. هيرتا مولر لديها ضحكة قوية ومطمئنة. عندما التقيت بــ مولر الحائزة على جائزة نوبل في احد فنادق لندن، أمسكتني من ذراعي وهمست قائلة: " انا انسانة منكسرة". حتى الآن عندما تروي الارهاب النفسي والمراقبة التي عاشتها في ظل الديكتاتورية الشيوعية لــ نيكولاي تشاوشيسكو، مرحها ومرونتها تناقضها.

 

ولدت في 1953 لأقلية ناطقة بالالمانية في رومانيا، تعرضت لمضايقات لكونها معارضة سياسية من قبل السلطات ومنبوذة من قبل مجتمع الشفابن الذي تنتمي اليه بسبب " عش القاذورات". في رواية " أرض الخوخ الاخضر" التي صدرت في 1993، والتي حصلت على جائزة ايمباك دبلن في عام 1998، وهي عن بنت قروية تنظّم لطلاب منشقين يعبرون نهر الدانوب من اجل الحرية، لكنهم يُطاردون حتى الانتحار او الانهيار.

 

مولر تعيش مع زوجها الالماني المسرحي هركي ميركيل، الذي التقت به في 1988، أي بعد سنة من فرارها الى المانيا الغربية. لحقت بها تهديدات القتل وكذلك السمعة المبتذلة من انها مخبرة لشرطة تشاوشيسكو السرية الوحشية (Securitate ). في كلمتها التي ألقتها أثناء استلام جائزة نوبل 2009، وضحت كيف انها فقدت وظيفتها كمترجمة لكتيبات في مصنع جرارات زراعية لرفضها ان تكون مستأجرة من قبل " السمكة العملاقة الجوفاء"، الذي كان يناديها بـ " كسولة، وقحة و ... عاهرة". فيما بعد، قائد الامن السري الداخلي الذي سمح بالتصنت على منزلها، ادعى بانها كانت تعاني من اضطرابات عقلية، وانها أقيلت من مهنتها كمدرسة لانها كانت تدخن في الفصل. تخطيط روايتها يقوم بدور ضعيف في مقاومة بيروقراطية شمولية سريالية من الاكاذيب، الجاسوسية والخيانات الحميمة.  "تشاوشيسكو كان مجنوناً وجعل من نصف رومانيا مجانين، انا مجنونة أيضاً بسببه". هذه التجربة هي سبب نقدها الاخير بمنح جائزة نوبل للصيني مو يان وصفت ذلك بــ " الكارثة"، والاحتفال به أشبه بـ " احتفال مراقب " لكاتب مقرب من النظام الصيني.

 

في عمر التاسعة والخمسين، وقعت في شرك حياتها الخاصة او بما أصطلحت عليه" ترجمة ذاتية". هو " واقع مختلق" قالت على لسان المترجم. " عشت خمسون تجربة او اكثر مع الاستجوابات، لكني لست مقتنعة بنقل الاحداث مباشرة. بالنسبة لي العمل مع اللغة يتطلب الجمال. أشك في أن بامكانك القيام بذلك بنفس الاسلوب في المذكرات". النثر الالماني هو تركيب غريب من الجانب الابداعي. " قلب الوحش" و " أرجوحة النسيم" كتبت بلغة رومانية " حسيّة" ـــ التي تعلمتها هيرتا في عمر الخامسة عشرة ــ  " دائماً في رأسي" قالت هيرتا.

 

" الملاك الجائع" صدر للتو عن دار بودتوبيللو للنشر بترجمة فيليب بوهيم، هي رواية لسيرتها الذاتية، بطل الرواية ، ليو أوبيرغ يستند بالاساس على شخصية الشاعر اوسكار باستيور، الذي رحل الى اوكرانيا السوفيتية وعمره سبعة عشر عاماً، في يناير 1945، بعد ان استسلم نظام الدعم النازي لـ يون أنتونيسكو للجيش الاحمر،كل الرومانيين-الالمان بين عمر 17-45 عاماً رحلوا الى مخيمات الخدمة الاجبارية لاعادة بناء الاقتصاد السوفيتي المدمر. الذين نجوا منهم كانوا قد قضوا خمس سنوات يجرفون الفحم ويحملون حجر القرميد في احدى زوايا المعسكر.

 

والدة مولر كانت من بين المبعدين حليقة الرأس، عادت الى المنزل قبل ولادة مولر بثلاث سنوات. " كطفلة كنت انظر الى امي على انها امراة عجوز". جميع سكان القرية " يعرفون كل شخص من المبعدين، لكن لا أحد كان يسمح لهم بالحديث عن ذلك". ليس الامر عداء للسوفيت، لكن للتذكير بماضي رومانيا الفاشي. نصف قرن. تحدثت مولر للمبعدين السابقين من قريتها نيتزكيدورف، وأقتربت من الشاعر باستيور الترانسلفاني الذي يعيش في برلين، أطلعها على التفاصيل القاسية للحياة اليومية، من أفران الصهر الغاضبة الى حساء الملفوف الرديء.

 

" ولما كانت أمي زوجة مزارع، كنت محظوظة لان اوسكار باستيور كان مفكراً، قادر على التفكير. لكنه تعرض للاذى كثيراً". الشذوذ الجنسي لباستيور كان " عزلة أضافية. الآخرون في المخيم لديهم علاقات جيدة مع بعضهم على قدر ما يستطيعون، لكن لا أحد يستطيع ان يعرف شيء عنه: تم سحله من قبل السلطات في المخيم وزملاءه المعتقلين. هذا ما جعله وحيداً جداً، ومقيّد". قاموا بزيارة اوكرانيا معاً، بهدف ان تشارك في كتابة سيرة ذاتية لــ باستيور. لكن عندما توفي نتيجة ازمة قلبية في 2006، اعادت كتابة الرواية من الصفر، اصبحت ذكرى من قلبها للشاعر. عندما نشرتها في المانيا 2009، احد النقاد اعترض قائلاً: فقط من عاش تجربة المخيمات من حقه الكتابة عنها. "أي شيء في الادب، يحتوي على ذاكرة، هو شيء مستهلك " ردت مولر:" الجيل الثاني يشارك من خلال الاضرار التي لحقت بآبائهم." وللذين قالوا بان ادب المعسكرات الاجبارية ليس جميلاً: " اذا حرمنا المبعدين شخصيتهم الفردية، فاننا نضع انفسنا في موقف مشابه لما حصل في المخيمات". مولر قالت ان والدتها الآن تعيش في برلين وعمرها سبع وثمانون عاماً، قرات الكتاب وقالت لها: " هذا ما حصل فعلاً".

 

الـ بانات، المقاطعة التي ولدت بها مولر، لغتهم الالمانية وينتمون الى الامبراطورية النمساوية – المجرية التي انفصلت الى رومانيا ويوغوسلافيا بعد الحرب العالمية الاولى. والدها، عامل في ارض زراعية وسكير، كان من بين العديدين من المتطوعين المحليين لــ فافن اس اس * هتلر. " كان امراً رهيباً ان اعثر على والدي في جانب القتلة، كان رجلاً بسيطاً، وعنيداً. عندما اتحدث عن جرائم النازية كان يقول دائماً: " حسناً، انظري لما فعل الروس ". عنما يبصق على حذائه لتلميعه، اقول: نعم، هذا ما يفعله النازييون. لم اجعل الحياة سهلة بالنسبة له". والدها كان بنفس كتيبة الدبابات مع غونتر غراس. عندما انكشف في 2006 ان المراهق غراس كان عضو في الــ اس اس، مولر وبخته لالتزامه الصمت حيال ذلك، : " اذا هاجمت أبي على ما فعله، فيجب أن اهاجم غراس، المثقف، أيضاً" . قالت مولر: " لقد حمل الاخلاق العالية لعقود، صمته كان كذبة".  وجدت الامر غير عادلاً: " كان هناك مدنيين فقط في معسكرات الخدمة الاجبارية. أبي لم يكن في المخيم، بل كانت أمي. كان ابي لا يزال أسير حرب في انكلترا. الجنود لم يكونوا قد عادوا بعد الى منازلهم، لذلك اخذوا المدنيين الشباب ايضاً للحرب، والكثير من النساء. لو اخذوا والدي، كان يمكن ان يكون ذلك مفهوماً. "

 

كان عمر مولر أثنى عشر عاماً عندما جاء تشاوشيسكو الى السلطة عام 1965. انضمت الى مجموعة الكتاب المعارضين Actionsgruppe Banat ( مجموعة العمل بانات)، بينما كانت تدرس الادب الالماني والروماني في تيميس جامعة أوارا في بداية السبعينيات. خلفيتها ربما حصنتها ضد ضغط التعامل مع العدو. " كان هناك تحذير واحد، والدي كان عمره سبعة عشر عاماً عندما انضم الى الـ اس اس. فكرت، وانا بما يقارب عمره واعيش في ديكتاتورية اخرى مختلفة، اذا انا استوعبت ذلك، لا أستطيع الاعتراض على ما فعله. كانت وقفة واضحة وجميلة، لقد استعملت مرآة الرؤية الخلفية".

حفزتها وفاة والدها بمرض في الكبد الى كتابة كتابها الاول، 1982 Nadirs (الدرك الاسفل). مقالات قصيرة كتبت بعينيّ طفلة كشعر سوريالي. صنعت أسمها في المانيا عام 1984، لكن ادى بها الى قطع علاقاتها بعائلتها الممتدة. في The Passport  " الجواز" 1986، روايتها الاولى التي ظهرت باللغة الانكليزية، السكران ميلر، الذي كانت زوجته في روسيا، تتوق لفوهرر*، عندما القرويين خانوا جيرانهم من اجل اوراق الخروج.  تقول هيرتا ان رومانيا زوّرت تاريخها النازي، كانت كبش فداء عرقها الالماني. لحد الان هذا الظلم لم يردعها عن فضح اخطائها: ضرب الزوجة، الفساد، التعصب ضد اليهود والغجر والرومانيين الذي يسموه "Wallachians" (فالاشيا). " المعاناة لا تطور البشر، اليس كذلك ؟" قالت هيرتا: " هذه القرية لا تزال قائمة في الزمن، العزلة والاستعلاء العرقي للاقلية الالمانية لاكثر من ثلائمائة سنة، لا تختفي لمجرد ان الجزء الاكبر من هذه الفئة قد رحلت."

أفضل أصدقائها، من بين كثيرين آخرين، تجسس عليها. مولر قدمت للهجرة مع زوجها آنذاك الكاتب ريتشارد فاغنر. لكن نموذج الطلب الوحيد المتاح كان لَمّ شمل الاسرة. " قلت: لا احتاج عمي في رومانيا، ولن احتاجه في المانيا ايضاً. شطبنا كل شيء". بعد ثمانية عشر شهر من " المغالطة"، حصلت على الهجرة بتاريخ 29 فبراير 1987، " التي لم تكن موجودة، كان لدي الكثير من المشاكل مع السلطات الالمانية". المانيا الغربية بعدها سالت: " " هل انتِ مضطهدة سياسياً أم من عرق ألماني ؟، قلت: كلاهما. قالوا: ليس لديك النموذج المناسب لذلك ". على الرغم من أنها وجدت الامر مضحكاً، عادت لتقول: " بكيت، كان عائق لا نهاية له ".

 

مولر شعرت بالارتياح عندما سقط جدار برلين 1989. اجهزة الامن الالمانية حذرت من دخول المانيا الشرقية. " أعتقدوا باني قد اتعرض للاختطاف وأعود الى رومانيا". عندما اطاحت الثورة بـ تشاوشيسكو في 1989، " قلت لنفسي: ساعيش أكثر منه ". حتى بعد محاكمته الصورية وتنفيذ حكم الاعدام في عيد الميلاد ، " بكيت طوال اليوم، جزء من بكائي ربما كان ارتياح لما حدث، لكن لا يمكنك ان تشاهد شخص ما يُقتل. حتى ولو كنت أمنيتي لعشرين سنة. لا اريد حقاً رؤيته". بعد سنوات من المطالبة بملفها الامني لدى الامن الروماني الــ Securitate، الملف تم تحريره بشدة في 2009. " هناك المئات من الصفحات لنصوص هاتفية. لم اكن لأتخيل باني كنت مهمة جداً بالنسبة لهم. لا احد يعيش في الشقة التي تحت شقتي. كانت هذه الشقة مركزاً للتصنت، بميكروفونات وصلت خلال الارضية". وقد أتضح ايضاً بعد نشر The Hunger Angel ( الملاك الجائع)، ان باستيور قد تم تجنيده كجاسوس في بوخارست في 1961.

 

بعد الصدمة والغضب، تعمقت عاطفتها نحوه. " تقاريره القليلة خالية من المحتوى. لقد حاول كل شيء حتى لا يؤذي أحد ـــ كل هذا كان بسبب ست قصائد كتبها عن المخيمات التي تم العثور عليها في الخمسينيات وقدموه على انه معادٍ للسوفيتية. لا يستطيع التعامل مع السجن لعشرين سنة" . الامن الروماني لا يزال في الخدمة. تقول مولر: " 40% من الموظفين القدامى كانوا في السلطة من قبل خدمة المعلومات الرومانية الجديدة، والباقي هم كل الاثرياء من خلال سيطرة الخصخصة" .من وجهة نظرها الاتحاد الاوروبي الذي انضمت اليه رومانيا في 2007، غير فعال امام أنصاف الديموقراطيات للكتلة الشرقية السابقة. " الحزب الاشتراكي الروماني منح نفسه شعارات جديدة ــ انه الحاكم الآن، الحزب الاشتراكي الديمقراطي. والبلاد تدحرجت الى الوراءـــ  انهم ستالينيون. "

 

مثل الخيانات الشخصية، بعدها لن تعود الثقة مرة أخرى. " اعرف لم يكن الجميع كذلك، " قالت بعد صمت. " ستتعلم وجهة النظر. اذا كنت تعيش وانت مهدد بالقتل، تحتاج الى الاصدقاء، وبهذا يكون لديك خطر بانهم ربما يتجسسون عليك". يبدو ان الثقة ــ مثل الضحك ــ نوع من المقاومة.

 

 

المصدر: The Guardian

 

..........................

 فافن اس اس: منظمة عسكرية نازية أسست في الثلاثينات من القرن الماضي.

فوهرر: كلمة المانية تعني القائد، استخدمت كلقب للقائد النازي ادولف هتلر.

 

 

تابعنا على الفيس بوك  وفي   تويتر

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2300 الأثنين 10 / 12 / 2012)

في المثقف اليوم