قضايا وآراء

غوميليوف - الشاعر الروسي المخضرم / ضياء نافع

واعدمته السلطة السوفيتية في آب/ اوغسطس عام 1921 في نفس تلك المدينة والتي كانت تسمى آنذاك بيتروغراد، اي انه ولد في الامبراطورية الروسية واعدم في الاتحاد السوفيتي،ولهذا يمكن ان نسميه شاعرا مخضرما،لانه عاصر  عصرين مختلفين تماما،على الرغم من انه عاش 35 سنة لا غير.

السيرة الذاتية لغوميليوف غنية بالاحداث،فقد ولد في عائلة نبلاء،وكان ضعيف البنية ومعتل الصحة، الا انه كتب اول قصيدة له عندما كان عمره 6 سنوات عن نياغارا الرائعة (هكذا كتبت زوجته الشاعرة الروسية الشهيرة آنا أخماتوفا فيما بعد في مقالتها الموسومة –اعمال وايام ن.غوميليوف)،و بسبب المرض اضطر ان ينتقل من المدرسة الى التعليم البيتي،ثم انتقلت العائلة من بطرسبورغ الى القوقاز،بعد اكتشاف مرض السل عند اخيه الاكبر، وذهب غوميليوف الى المدرسة في مدينة تفليس،وهناك في عام 1902 نشر اول قصيدة له وكانت بعنوان (انا الى الغابة هربت من المدن...)، ثم عادت العائلة الى بطرسبورغ،ورجع غوميليوف الى مدرسة تسارسكويه سيلو في ضواحيها،وكان يدرس بشكل سئ للغاية، وارادوا فصله من المدرسة، الا ان المدير (وهو الشاعر آنينسكي) لم يوافق وابقاه في صفه لسنة اخرى قائلا(كل ما تقولونه صحيح،ولكنه يكتب الشعر)، واستطاع ان يكمل المدرسة عام 1906،وكانت درجة الامتياز الوحيدة في شهادته امام مادة المنطق،ولكنه اصدر ديوانه الاول قبل سنة من اكمال المدرسة،اي في عام 1905، والذي حظى بتقييم بريوسوف،احد الشعراء المعروفين آنذاك،وعلى الرغم من ان هذا التقييم لم يكن مدحا،الاانه اشار الى ان هذا الكتاب هو بداية لابداعات في المستقبل.وقد بدأت بعد صدور هذا الكتاب مراسلات بينهما، وكان غوميليوف يعتبره استاذا له، وكان بريوسوف يرعاه بشكل ابوي ويميزه بين تلامذته. بعد انهاء المدرسة،اي في عام 1906،سافر غوميليوف الى باريس للدراسة في جامعة السوربون،وعاش في باريس واستمع الى محاضرات في الادب الفرنسي، ودرس الفن التشكيلي، وسافر الى ايطاليا، واصدر في باريس مجلة ادبية (صدر منها ثلاثة اعداد فقط)، والتي بدأت آنا أخماتوفا بالنشر فيها، وزار المعارض الفنية، واختلط مع الادباء الروس والفرنسيين، وكان يتراسل مع بريوسوف بشكل مكثف ويرسل له اشعاره ومقالاته وقصصه.ثم يعود الى روسيا، ويتعرف على آنا اخماتوفا ويعشقها،ويصدر ديوانه الموسوم (ورود رومانسية)عام 1908،ثم يسافر الى افريقيا ويصبح فيما بعد متخصصا بفنها، وفي عام 1909،يصدر مجلة (ابولون)، وهي مجلة مصورة تعنى بالفن التشكيلي والمسرح والادب، وينشر فيها سلسلة مقالاته المعروفة ( رسائل عن الشعر الروسي)، وفي عام 1910 يصدر ديوانه الجديد الموسوم (اللؤلؤ)، وفي 25 نيسان/ ابريل من العام نفسه يتزوج من آنا اخماتوفا، وفي عام 1911 يساهم بشكل فعٌال بتأسيس (ورشة الشعراء)، والتي كانت تضم ماندلشتام وأخماتوفا وغوروديتسكي وزينكوفج وشعراء اخرين، وفي عام 1912 يعلن ميلاد تيار ادبي جديد في الشعر الروسي هو (الاكمايزم) من الكلمة الاغريقية ( آكما) ومعناها – الذروة او القمة او الازدهار او الحد الاقصى للاشياء، وقد ترجمها المترجمون العرب باشكال مختلفة منها – القمية،او القممية، او وقت الازدهار، ويمكن ان نضيف اجتهادنا هنا ونسميها بشكل تفسيري ب –تيار الذروة في الشعر الروسي،ومن الواضح ان كل هذه الاجتهادات صحيحة،مع التأكيد باننا لا نستطيع ان نسميها ب (الاكمايزمية) مثل الرومانسية او الليبرالية او الكلاسيكية وبقية المصطلحات ذات الاصل الاجنبي، والتي دخلت الى العربية واصبحت شيئا مألوفا فيها بمرور الزمن،وهذا موضوع لا يدخل ضمن هدف مقالتنا عن غوميليوف بالطبع. ان هذا التيار الادبي الذي اعلنه غوميليوف يعد كلمة مبتكرة وجديدة في مسيرة الادب الروسي وتاريخه، ولا زال لحد الآن يمتلك قيمته الفنية الاصيلة، اذ ان هذا التيار يدعو الى رفض الضبابية والكلمات والتعابير المبهمة في الشعر، ويؤكد على ضرورة الدقة في التعبير عن الموضوع ورسم الصورة بابعادها الملموسة والمفهومة ولكن باعلى واقصى مستوياتها الفنية. واسس غوميليوف مع زملائه في (ورشة الشعراء) دار نشر ومجلة للتعبير عن تلك الافكار، ولا زالت هذه المواضيع تشغل القراء والمتابعين لمسيرة الادب الروسي وظواهره الاساسية، بل ويمكن القول، انها لازالت ساخنة وحيوية في الاوساط الادبية الروسية، ولا زال القارئ الروسي يتلقف الكتب والدراسات التي تتناول بالتحليل هذه المواضيع.

يصدر غوميليوف في نفس هذا العام /1912/ ديوانه الجديد الموسوم- (سماء غريبة)، وفي العام الذي يليه يستأنف نشاطه في اكتشاف افريقيا، ويسافر الى مصر ومنها الى جيبوتي ثم الى الحبشة، ويتعرف في هارار الى هيلاسيلاسي – محافظها آنذاك (والذي سيصبح فيما بعد امبراطور الحبشة)، ويقدم له الهدايا ويلتقط معه الصور،ثم يسافر الى القرى،ويخوض مغامرات مرعبة، ويجمع الكثير من التحف الافريقية ويهديها عند عودته الى المتحف الانتروبولوجي والاثنوغرافي في بطرسبورغ.  وفي عام 1914 تبدأ الحرب العالمية الاولى، وتتوقف (ورشة الشعراء) نتيجة لذلك، ويتطوع غوميليوف للقتال في صفوف الجيش الروسي، رغم ان معظم الشعراء فضلوا كتابة القصائد الوطنية على التطوع في الجيش، وبعد شهرين من التدريب يشارك في المعارك ويحصل على وساما لشجاعته،ثم يتمرض ويعالجوه في بطرسبورغ لمدة شهر ويعود ثانية الى الجبهة ويحصل على وسام آخر عام 1915، وكان يتفاخر به، اما زوجته أخماتوفا، والتي كانت على خلاف معه، فقد سخرت من ذلك، وكتبت ابياتا الى ابنها تقول فيها ( ...أهدوا لابيك  صليبا ابيضا صغيرا..)،( ولد ابنهما ليف عام 1912 وتوفي عام 1992 واصبح عالما كبيرا في علم الاجناس، وعانى من السجون والمعتقلات في الاتحاد السوفيتي لانه  ابن عدو الشعب).

حصل غوميليوف  على وسام ثالث اثناء الحرب، وعلى ترقية في المنصب، وانتقل للعمل الى باريس والحكومة المؤقتة هناك، ثم عاد الى روسيا عام 1918 واصدر ديوانا جديدا بعنوان ( الشعلة)، وفي آب / اوغسطس يطلق آنا أخماتوفا ويتزوج عام 1919 من امرأة ثانية، ولم يكن هذا الزواج ناجحا ايضا، وفي عام 1920 تأسس اتحاد الشعراء لعموم روسيا، ويفوز في الانتخابات ليكون رئيسا تنفيذيا له، ويصدر عام 1921 كتابين، الاول بعنوان (الخيمة)عن انطباعاته اثناء سفره الى افريقيا،وهو جزء من  كتاب جغرافي بالشعر عن( كل الارض)، وكتابا ثانيا بعنوان (العمود الناري)، والذي يعد قمة ابداعه، وكان يلقي محاضرات على الشعراء الجدد حول الشعر.  وفي 3  آب / اوغسطس من عام 1921 تم اعتقاله نتيجة الشك في مشاركته بمؤامرة ضد الثورة، وفي 24 آب/ اوغسطس (اي في الشهر نفسه) صدر حكم الاعدام ب (61) شخصا كان هو من ضمنهم، وتم نشر هذا الحكم في 1 ايلول / سبتمبر 1921، واشار البيان الى ان الحكم قد تم تنفيذه، ولا زالت طبيعة الاتهام وتاريخ الاعدام ومكانه ومكان دفن الجثث مجهولا لحد الآن. لقد جاء في موقع (روسيا اليوم)، وفي مادة خاصة بغوميليوف اعدها وترجمها يفغيني دياكونوف انه –( الشاعر الكبير الوحيد في سلسلة شعراء العصر الفضي للشعر الروسي الذي اعدم بقرار محكمة بلشفية ... وقد لقى حتفه على ايدي عناصر المخابرات البلشفية محتفظا بشرفه كضابط عزيز النفس لم يخن القسم الذي اداه للقيصر، الامر الذي حير رجال المخابرات الذين نفذوا فيه حكم الاعدام والذين قالوا عنه – من المؤسف انه ر بط نفسه بمعسكر المعارضة. لو كان قد انتقل الى جانبنا لافتخرنا به كبطل)، ويختتم دياكونوف مقالته بالاشارة الى ان غوميليوف كان شاعرا محظورا في الفترة السوفيتية. هذا وقد اعيد له الاعتبار عام 1992 رسميا، على الرغم من صدور بعض مؤلفاته قبل هذا التاريخ.

من المهم جدا ان نشير الى ان غوميليوف قد ساهم في مسيرة الادب الروسي ليس فقط في مجال الشعر، اذ انه كتب المسرحيات والملاحم والقصص وشارك في النقد الادبي، وكان مترجما كبيرا، وهو اول من ترجم ملحمة كلكامش الى اللغة الروسية، ونتمنى ان تسنح الفرصة لنا بالكتابة عن اول ترجمة شعرية قام بها غوميليوف لملحمة كلكامش عن الفرنسية، هذه الترجمة التي تجعلنا نطلق عليه اسم (طه باقر الروسي)، رغم انه قام بهذه الترجمة قبل طه باقر بنصف قرن تقريبا، اي ان طه باقر هو (غوميليوف العراقي).

 

تابعنا على الفيس بوك  وفي   تويتر

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2306 الأحد 16 / 12 / 2012)


في المثقف اليوم