قضايا وآراء

أعباء القصيدة في أشعار أديب كمال الدين: ما للشاعر وما عليه

مع الأش?اء (و?ي نثر العالم في الخطاب الشعري) 1، ثم مع الصورة والانطباعات التي تترك?ا في الذ?ن . و?ذا ?عني ضمنا أن? استعمل مفردات من غبار وعبارات من لدائن، وبتعب?ر الشاعر نفس? كان ?تحرك بخطوات من سكون) كما ورد في د?وان الأش?اء) 2 .

و على سبيل التوض?ح : لم ?كن الشاعر يدعم بيت الشعر القصير (في القصائد المبكرة) والمجزأ الذي يحتمل عددا لا ن?ائ?ا من المترادفات والطباق وغ?ر?ما من المحسنات (في أخبار المعنى وما بعد) بما ?سم?? النقاد العاطفة، الوجدان، الضم?ر، أو ب?ت نار الحساس?ة الشعر?ة الأص?لة.

و لكن برأيي لا تخلو قصيدة لأديب كمال الدين من هذه البذرة الوجدان?ة التي تحاصر العقل بعدد من المعاني، حتى لا تترك أمام الع?ن من فرصة للإبصار، ل?س لأن?ا ع?ن ضر?رة، ولكن لأن عالم الأش?اء الصغير والض?ق دائما ?تسع باشتقاقات ل?س ل?ا مدلول دن?وي، ول?ست ?ي بعوز لرص?د من د?الكت?ك الواقع، وإنما ?ي في حالة صعود أو معراج من (مقام أدنى ) و?و المدلول) إلى مقام أعلى (و?و المعنى 3. وب?ذا الخصوص تتحول القص?دة إلى أنشودة مفتوحة على الطب?عة والح?اة من طرف، وعلى الذات من طرف آخر.

و ?نا، و?ذا ?و الغر?ب في الأمر، نحن باستمرار نتابع المعاني و?ي تعبر بالاتجا??ن مثل ت?ار متناوب، ?ضيء على التزامن :

1 - الأساط?ر الطب?ع?ة لبلاد ما ب?ن الن?ر?ن، بكل ما تنطوي عل?? من حزن وموت وفناء، ثم جفاف كوني، ?و في حالة حرب أزل?ة مع مف?ومنا للخصوبة وللعماء المائي وللف?ضان.

2 - وأساط?ر الذات، وربما لنكون أشد تواضعا، التجارب الذات?ة والتي ل?ا طابع شمولي وجدلي، وتوق?ع ذات دام?ة من?مكة في نضال عس?ر، كما أن?ا تمر في مرحلة اشتباك مع عناصر?ا الأولى، النفس والأفكار والجسد.

لقد توزعت هذه التجربة الشعر?ة الطو?لة على هموم اجتماعية ولغوية مريضة في مستوى أول، ثم ?موم اجتماع?ة فنية تعبر عن نفس?ا بشكل منفصل عن الواقع، ومتمفصل مع صوره أو تعب?رات?. ولقد انقسمت إلى تجربة عشق فوضوي للح?اة، ثم تجربة رفض أود?بي ومن?جي ل?ا، وربما رفض عصابي ومأزوم، وناره تحت الرماد، ح?ث حر?ق اللغة والعلاقات مع أخطاء الذاكرة ومع الأواصر البارة بشروط?ا وم?ثاق?ا . وهي تحتل بالمنطق مرتبة رمز معاصر يقود حتما إلى الموت.

أما بالنسبة للتصوف الذي يوظف الشاعر مفرداته الخاصة في أكثر من مناسبة، ف?و ?بدو لي أقرب إلى أنه إشاعة، أو وجبة محضرة في مطبخ مختلف. ولماذا لا نتحلى بالجرأة ونقول : إن? نفس الظا?رة التي ?عزو?ا بوفون إلى الأسلوب ، باعتبار أن الرجل ?و أسلوب?، بمعنى أن? تكن?ك?.

لقد كانت الغاش?ة الصوف?ة، و?ي التي تتحمل أعباء معنى أ?ل الباطن وأ?ل الظا?ر أو عالم الثبوت وعالم الغ?ب، متنح?ة من مجمل الصورة، وكان ?عوز?ا في ?ذه الحالة ما ?ز?د على نصف العناصر التال?ة : 1 - شدة الوجد، 2 - تجربة الاتحاد، 3 - الدخول في غ?بوبة السكر، 4 - صوت ال?اتف الإل?ي، 5 - الاستفاضة بالكلام بلا ق?ود (4). فالمتصوف، في النهاية، ?و مشروع لنبي صغ?ر لم ترسل? إل?نا السماء. وهو يجمع في بنيته بين أساليب الأنتلجنسيا وواقع الإنقلاب الشعبوي. وكان روح ميثاقه مع الدين ينقض التعبير السنيّ للسلطة، وربما لهذا السبب دفع الثمن مثل أي مشروع ثوري مولود قبل الأوان (والعبارة الأخيرة للمرحوم فائق المحمد) . لقد كان التصوف يضغط لتعديل التصور الإسلامي الأصولي للحياة والطقوس، فالطريق لديه كما ذكر الحلاج أن " تدع الخليقة لتكون أنت هو، وهو أنت من حيث الحقيقة ". وبهذا الصدد يقول هادي العلوي : إنهم ألغوا الوسائط واتصلوا بالسماء رأسًا، ثم حذفوا مبدأ خاتم الأنبياء الذي اعتبره ابن سبعين تضييقا للواسع (5) . وحتى اللحظة الراهنة تتبنى الطائفة الأحمدية في الكويت هذه الآراء.

غير أن أديب كمال الدين اعتمد على أسلوب المناجاة ولغة التنكيل بالوجه المأساوي والجاحد للبشرية. وحتى لو أنه أقل راديكالية من معلم الأجيال ورائد الحداثة الشاعر عبد الوهاب البياتي، كانت أظافره، لم لا نقول سكاكينه، تستهدف الصيغة الفنية وأساليب الخطاب معا، لينعي إلينا طبيعة العلاقات االغامضة بين الوجه والقناع، ثم بين الوجدان الرومنسي الرقيق وخطاب الثورة الدامي.

و من هنا كان اهتمامه بصعود الحرف (مجد الحروف كما ورد في قصيدة البحر منفردا – ص 16)، ثم سقوطه المدوي (وعودته إلى التراب الذي تكوّن منه، كما يقول في قصيدة المتبرقع – ص 17) 6. بعكس المتصوفة الذين اعتبروه ستارا يحجب المعنى. فقد أكد ابن عربي في فتوحاته المكية أن الحروف تعبير عن الخلق والخالق في نفس اللحظة، وهي تنقسم بمصادرها إلى منشئين : مائي وناري، وباتحادهما ينشأ الهواء الذي يدل على النفس، وعلى الحياة الحسية التي تحرك كل شيء. وهي أيضا جامعة للوجود المطلق الذي لا قيود له. ولهذا السبب كانت حروف المعاجم تسمى كذلك. لقد عجمت على الناظر إليها معناها. (انظر الجزء الأول) 7.

و مما لا شك فيه أن هناك أكثر من علاقة جدلية بين اللغة والأشياء. إنما ليس على النحو المبالغ فيه كما لدى زكي الأرسوزي، الذي يعتقد أن لكل حرف معنى يرتبط بمصدره 8، ولكن حسب مبدأ ياكوبسون: إن الطريق في الحروف يمتد من الصوت إلى المعنى 9.

و بهذه المناسبة يودع أديب كمال الدين في مناجاته مع الحروف دموعا وآهات حرّى، فيقول :

 أعرف يا صديقي الحرف، أنك ستموت الآن . 10.

ثم يخلع عليه هذه المواصفات القصوى : الأنقى من الوردة، الطيب، موجة أقمار الطفولة، الصغير والجميل، 11.

و أغلب الظن أن الشاعر كان يوظف الحروف بطريقتين :

الطريقة الدائرية : صوت شفوي في البداية ثم حلقي في الوسط وشفوي في النهاية، (على سبيل المثال : كهيعص)، وهذا يتطابق مع معنى الدائرة كشكل هندسي مغلق ومتأزم، ومجال ثقافي محدود بالإدراك، وفضاء له نشاط حدسي يتوازى مع تصميم القبة السماوية.

و الطريقة الرموزية العامة التي يعلن عنها الشاعر بصراحة حين يقول : إن نقطة أشعاره (مطر)، وحروفها (بحر وحب) – ص 53 .

الشيء بالشيء يذكر.

وردت مفردة نقطة في مجموعة (أربعون قصيدة) 18 مرة ربما للإشارة إلى العلاقة بين محيط الدائرة (التجربة أو الموضوع أو الصورة) ومركزها (الإنسان أو الذات أو النفس الكلية)، وكأنه ينقل لنا رسالة ابن عربي : إن الإنسان هو روح الله، وله رمز نقطة مطلقة لا تقيدها الدوائر. وإن أصل هذه الفكرة يعود إلى (المذهب الذري) الذي يرادف عند علماء المسلمين معنى (الجوهر الفرد) والكثافة (انعدام الفراغ في الداخل). وكان وراءها تخيلات نصف علمية لها ضرورات إيمانية، لتبجيل الخالق، وليس ضرورات خطاب اجتماعي تحليلي متعقل، لذلك غابت عنها (الصفات) لا سيما أن الله ليس كمثله شيء، ولم تتدرج من المحسوس إلى المعقول، وخاطرت بالمنهج في طريق الخيال والصورة، ثم المجازات والاستعارات (كما ذكر حسن مروة في معرض حديثه عن المعتزلة - انظر النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية، ج 1، 1980، ص 728 – 729 ).

بالمقابل ورد حرف الباء (6) مرات، والحاء (4) مرات. وهما حرفان خافتان (شفوي ولساني)، ولهما معنى عاطفي مضمونه (حب)، أصغر مفردة ذات معنى في اللغة العربية (12). على أية حال لم يكن الشاعر مهتما بحرف دون آخر. وقد توزع مخطط حروفه في مجموعة (أربعون قصيدة) على النحو التالي : الباء (6) مرات، الحاء (4)، الدال (4)، الألف (3)، الواو (2)، الخاء (2)، الراء (1)، السين (1)، النون (1)، الميم (1)، التاء (1)، الغين (1)، الهمزة (1). وكما هو واضح إن الفونيمات القريبة في نطقها من مقدمة الفم وذروة اللسان تبلغ 17 مرة، مقابل 11 تكرارا لفونيمات موزعة على ما تبقى من مناطق. وهذا دليل آخر على أن القصائد ليست معدة لاحتفالات جماهيرية ولا لأغراض التحميس، ولكنها مكتوبة بوحي من الوجدان والتأمل الذاتي الرقيق والشفاف.

لقد لعبت الحروف في قصائد أديب كمال الدين دور الخلايا النائمة، فاستحق عليها لقب أمير الحروف (أو الحروفي) . إنها مشروعه الذي ينطوي على المعاني المؤجلة والمفردات الغائبة. وهي الصورة المثالية والهوية الناقصة التي يبحث عن المتبقي منها، وعن نصفها الآخر، ضمنا اكتمالها، ولكن أبدا ليس جوهره الواحد.

لقد كانت الحروف لدى المتصوفة هي سرير بروكست الذي تختنق فيه الرسالة. ولكنها في شعر أديب كمال الدين هي نقطة الإرتكاز لتكنيك التوسع، أو فنية الخروج والتبصر . فهو بعد أن تنبأ للحرف بالاحتضار الوشيك، استدرك وقال :

انظر هذه شمسنا لم تزل تشرق

رغم أنها بحجم حبة قمح

لا تستسلم

تمسك بحلمك وإن كان خفيفا كالغبار

أرجوك

ال... ن ... ج ... دة ! – ص 9 (13).

و هنا أجد تناصا غير مباشر مع يانيس ريتسوس مؤلف (الأنشودة الرومية) الذي يقول فيما يشبه ترتيلا لجوقة مستترة :

تلك الأشجار لا ترتاح تحت سماء أضيق،

تلك الحجارة لا ترتاح تحت الخطوات الغريبة،

تلك الوجوه لا ترتاح إلا للحق – ص 9 ( 14).

 

**

من ناحية أخرى، استوعب أديب كمال أديب الدين دروس المحنة الخاصة جيدا، والتزم بقوانين الاغتراب، واحتفظ بفاصلة واسعة عن صور هذه المرحلة العصيبة، ولا سيما الاجتياح الثقافي. ثم إنه التزم بمفردات ليس لها وجود على خشبة المسرح من واقع هو أحد عناصره ومكوناته. أقصد مفردات حرب الخليج الأولى والثانية، التي ضربت رقما قياسيا في عدد الكلمات النارية، مثل : النابالم، القذيفة، الانفجار، ألسنة اللهب، وسوى ذلك، وسواه. بكلمة مختصرة : كان يكتوي بـ (وجع البعاد) وليس بالشوق للحضرة الإلهية. وكانت أسماء العلم لديه تتوارى خلف ضمائر غير مباشرة (تحديدا : أنا وأنت)، وفوق ذلك لم تترك بغداد وأسماء شوارعها ومعالمها الأساسية الأخرى أية علامة واضحة. وكان يكتفي بالإشارة إلى الرموز المنزلية الصغيرة (على طريقة هاشم شفيق في أقمار منزلية)، ثم إلى بعض العلامات الفارقة، ومن أهمها : جلجامش كأصل ملحمي للفاجع الذي نعاني منه، ومدينة سيدني التي يتوزع مصيرها بين الشقاء والموت (أو كما يقول الشاعر : التي تركض من الفجر إلى الفجر ... والتي تركض مرة إلى البحر، ومرات إلى الموت – ص 23 – قصيدة قطارات سيدني) 15.

و إن هذه االمفاهيم الحزينة والبائسة، الناجمة (غالبا) عن فصل الذات لنفسها عن موضوعها (كما يقول لاكان)، أو للانفصال المريب بين الأفراد ونمط الإنتاج، كانت حاضرة أيضا في مجمل قصائد أديب كمال الدين الذي لخص الأزمة بقوله :

 خرجت من الحرب

أجر هزيمتي النكراء (ص 31 – شجرة الحروف).

 ثم يتابع حتى يقول :

لك المجد يا إلهي

خلقت الموت ليكنسنا في هدوء مريب ( ص 24 – تناص مع الموت) 16.

و كأنه يعيد صياغة ما ورد على لسان سيدوري (أول سيدة رأسمالية في التاريخ المكتوب) حين قالت لجلجامش :

إن الحياة التي تبغي لن تجد

فالآلهة عندما خلقت البشر قدرت الموت عليهم (17) .

و هو عندما يلغي الحدود الدلالية بين دوائر الحرب الخاسرة والموت، يفرض على الحاسة الشعرية أعباء ذات – مضمون، وأعباء منطق – صورة، وإلى حد بعيد ضرورات ألم وجودي لا دال عليه بغير ماهيته. وكان هذا يحدو بالشاعر إلى تقديم الدلالة على البنية، وإلى استبدال القصيدة بتقنيات (الإنشاد)، حيث أن الضمير الفني يشتق اللغة من عناصر الطبيعة الحرة المعطاء : الماء والهواء والنار والتراب. وبذلك يتحقق أول تعارض أساسي مع التصوف، أقصد التلازم الطردي بين اتساع الرؤية والعبارة.

إن الدينامو الأساسي في الأناشيد هو العاطفة، وبها يتم إصلاح العلاقة الخاطئة بين الخيال والمحتوى، وهذا يأتي ضمن صلاحيات القطاعات المعرفية، حيث يمكن لهفوات في الترتيب أن تضبط الإيقاع والحركة، وأن تطابق بين االثابت والمتحول . وعلى الرغم من انتماء فن الإنشاد في الشعر إلى الحوار هو، كذلك، خطاب تجزيئي مفتوح على عناصر الطبيعة المقهورة، وليس بمقدوره أن يفرق بين المادة والجوهر، لأن في كل منهما بذورا صامتة .

لقد ارتدى أديب كمال الدين عباءة شكسبير في هذا التردد الواضح بين الأحلام الفابية والواقع القاسي، مثل الشخصيات المصابة بالذهان والتي وصلت إلى مشارف الجنون في هاملت وعطيل وماكبث وغيرها. وإنه يذكرنا أيضا (من الألف إلى الياء) بمحمد الماغوط الذي أتقن فن البكاء، ورفع الستار على أول ميثاق له مع الشعر بمجموعة لها عنوان أسود، ولا تنقصه الدموع، هو (الفرح ليس مهنتي).

لا شك إن الفرح ليس مهنة أديب كمال الدين. وكما ذكر في قصيدة أغنية سوداء القلب – ص 28، إنه يكتب (قصائده كي لا يبكي) 18.

و بفحص ذخيرته من المفردات يتأكد لنا ذلك. فقد وردت لديه (في باقة عشوائية من مجموعته أربعون قصيدة) مفردات هدامة بمعدل 8 مرات (وهي النار والرياح)، ومفردات شريرة بمعدل 5 مرات (هي الغراب والأفعى)، مقابل 4 مرات لكلمات أصلية وأساسية (هي الأرض والتراب). ولو لا مفردات أخرى خصيبة مشتقة من بقايا التراث التموزي لشعراء الحداثة مثل : النسر، الفجر، الينبوع، وماشابه، لكان المشهد العام قريبا من بيان الحداثة رقم (1) . وهذه إحالة لطبيعته الأوديبية والمأزومة، ثم الدموية والاستفزازية.

و ينسحب ذلك على التراكيب، التي لا تستعمل أنا الإنابة ( وهي عند المتصوفة مرادف لضمير المتكلم في الحديث القدسي)، وتركز على متوالية من الأفعال المتعدية وحروف النداء وأدوات التسويف ، كما يتبين لنا من الخطاطة التالية :

 

1 – اللازمة أ (حرف تسويف) ? الإخبار (فعل) ? المناداة (اسم) ? اللازمة (حرف تسويف).

2 – اللازمة ب (حرف نفي) ? الإخبار (فعل) ? المناداة (اسم) ? اللازمة جـ (أداة تشبيه) ? اللازمة ب (حرف نفي)، ... إلخ.

و بالاستطراد نستطيع أن نعدّ في نفس المجموعة 5 افتتاحيات فقط بضمير المخاطب، مقابل 18 بضمير الغائب، و17 بضمير المتكلم. وهذه قرينة لا تقبل الشك أنه يتحاور مع نفسه في مونودراما خيالية طويلة، دون الوصول إلى مرحلة التخاطب (بمعنى أن المرسل موجود والمرسل إليه غائب).

**

لطالما كان التفرد والاعتزال والاغتراب من العلامات المريضة التي حملت أوزارها الحداثة في مطلع عهدها . فمحمد الماغوط يقول مرارا :

لا أحد في البيت

لا أحد في الطريق

لا أحد في العالم ( من : الفرح ليس مهنتي).

و أعتقد أنه كان يقف في صف واحد مع علي الجندي الذي يقول أيضا :

لا روح في الشارع إلا أنا (من : الراية المنكسة).

و منذ مطلع الألفية الثانية قال جبران (نقلا عن ثابت ومتحول أدونيس) : أفضل ما استطيع فعله وأنا وحيد . ج3 – ص 203 .

أنا لا أحد سواي.

هذا، بالضبط، ما يقصده أديب كمال الدين في بكائياته وهي ترثي الحرف، وتشجعه على النهوض في نفس الوقت. لقد كانت لديه قيود منظورة وكوابح منعت القصيدة من التحول إلى شاهد على مرحلة البناء والتطوير. بصراحة : لم تكن الرياح تجري لديه باتجاه المستقبل. وكان تكنيك صوره بفحواه يستند على الأصول المريضة للواقع المتردي، فالشمس ليست لاهبة، ولكنها ليمونة ذابلة وبحجم حبة قمح. لقد ساعد منطق (النظارة السوداء) الشاعر على كتابة نعوة لكل من رموز الحرية في العالم أمثال لوركا والنفري، ولم يساعده على استيعاب (أو توقع) مصير الاستعمار في أمريكا اللاتينية وجنوب إفريقيا وإيران وغيرها، وغيرها ..

و أعتقد أن هذه الظاهرة هي القاسم المشترك لكل أبناء الجيل السادس (الذين باشروا بالكتابة في مجالات الشعر والنثر عام 1960 وما بعد)، وأخص بالذكر منهم غادة السمان مؤلفة (ليل الغرباء)، التي ذرفت دموعها في ثنايا روح ضائعة ومفجوعة ومستلبة . إنهم (جيل القدر) كما يقول المربي الكبير (مطاع صفدي)، وهم أيضا من مهّد للهزيمة وحمل أعباءها على الصعيد الفني والاجتماعي 19.

***

أخ?را، أعتقد أن أد?ب كمال الد?ن شاعر مخلص لتقال?د أفراد الج?ل الوس?ط في العراق (20) . فقد كان ?بحث عن صوت? الخاص والمتفرد و?و ?شق طر?ق? الصعب ب?ن تراث الب?اتي، بكل ما ?حمل? من علامات شكل?ة على تصوف موضوعي وغ?ر عرفاني، ومتأصل برومنس?ات الإ?د?ولوج?ا الق?ر?ة. ثم تراث الس?اب، الابن البار لمد?نة البصرة، والذي حمل على ظ?ره أعباء تحد?ث الشعر العربي بالانطلاق من ?موم س?اس?ة ل?ا خلف?ات مع وجدان مأزوم ومعصوب، وجدان تموزي مر?ض ?عبر عن المستقبل الداعي لحداثة ترفض?ا شروط مجتمعات?ا.

لا شك أن الأجراس، في قصائد أد?ب كمال الد?ن الأخ?رة، تقرع . إن?ا تعلن الحرب الطاحنة ضد ماض??ا من كل النواحي ..

الشكل والمضمون، المفردات والإ?قاع، ثم النسق والمعنى. و?ذا بحد ذات? نقطة انعطاف تحتاج لمز?د من التأمل ومز?د من التقد?ر.

 

?وامش :

 

1 – انظر ص 11 من كتاب (اخبار الحلاج)، تصنيف علي بن أنجب الساعي الهنداوي. دمشق. دار الطبيعة الجديدة. 1997 .

1 - انظر مقالة مشار?ع جد?دة لخزعل الماجدي المنشورة في الطل?عة الأدب?ة، ن?سان 1979، ص 117 . وف??ا ?قول : إن أد?ب كمال الد?ن ?نشغل كل?ا بعالم? الخاص، ب? والذي ?بدو متدفقا كث?ر التفاص?ل، وقل?ل العنا?ة بصنعت? الشعر?ة، إذ سرعان ما تندفع القص?دة عنده إلى استطرادات كاملة....إلخ.

2 - المرجع السابق نفس? ص 138.

3 - انظر قص?دة موت المعنى لأد?ب كمال الد?ن، صح?فة المثقف الإلكترون?ة، الخم?س 1 كانون الثاني، 2009 . و?ي منشورة أ?ضا في مجموعت? (أخبار المعنى)، الصادرة عن مد?ر?ة الشؤون الثقاف?ة العامة ببغداد عام 1996.

4 – انظر : شطحات الصوف?ة لعبدالرحمن بدوي، ص4 . مكتبة الن?ضة المصر?ة . 1949

5 – انظر مقدمة هادي العلوي كتاب أخبار الحلاج الصادر في دمشق عن دار الطليعة الجديدة عام 1997 . ص 11 .

6 – ص 16 و17 من مجموعة أربعون قصيدة عن الحرف الصادرة عن دار أزمنة بالأردن عام 2009 .

7 - الفتوحات المكية لابن عربي / ج1 .

8 – انظر زكي الأرسوزي : في فلسفة اللغة العربية / مجلة الشرطة / عدد 31 / أيار 1968 .

9 – انظر رومان ياكوبسون : محاضرات في الصوت والمعنى. ترجمة حسن ناظم، علي حاكم صالح، منشورات المركز الثقافي العربي في بيروت 1994 .

10 – ص 7 . أربعون قصيدة.

11 – ص7، 9، 15 من أربعون قصيدة على التوالي، ص 30 من شجرة الحروف.

12 – حركة أعضاء النطق في كلمة حب من الخلف إلى الأمام. ونحن ننطق الحاء برفع اللسان أولا، ثم الباء بإطباق الشفتين.

13 – أربعون قصيدة.

14 - الأنشودة الروم?ة ل?ان?س ر?تسوس، ترجمة بشار عباس. دمشق 1989.

15 – مجموعة أربعون قصيدة.

16 – من مجموعة شجرة الحروف الصادرة في الأردن عن دار أزمنة عام 2007 .

17 - ص 79 من ترجمة طه باقر الصادرة في بغداد . مع تعديل طفيف بعد المقارنة مع ترجمة فراس السواح.

18 – مجموعة أربعون قصيدة.

19 – انظر كتابي (المأساة في الأدب) الصادر في دمشق عام 1992، والذي يتحدث عن أثر الهزيمة على شكل ومضمون الكتابة العربية .

20 - كما أرى إن الشعر في العراق، بعد الرواد الكبار، ?نقسم إلى ج?ل مؤسس وفي مقدمت? ?أتي الس?اب والب?اتي ونازك الملائكة، ثم أفراد الج?ل الأول ومن?م سعدي ?وسف وعلي جعفر العلاق وصادق الصائغ، إلخ، وبعد ذلك الج?ل الوس?ط ومن ب?ن?م سلام كاظم وفاروق ?وسف وصاحب خل?ل إبرا??م وأسعد الجبوري وكمال سبتي، ثم الج?ل الحالي وفي مقدمة ?ؤلاء ?ح?ى السماوي، وفائز العراقي، وموسى أحمد، والمرحوم عق?ل علي إلخ...

 

    للمقالة جزء آخر، قيد الإنجاز، يقارن بشكل عام بين معنى الحداثة والنكسة لدى المتصوفة ورواد الشعر الحديث.

 

يتبع .......

 

أيلول 2009

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1212 الخميس 29/10/2009)

 

في المثقف اليوم