قضايا وآراء

القدس: أنظومة كونية، من ملكها ملك العالم كله

ودانت له الموجودات والخلائق، والبرزخ وما فيه الشيخ الأكب محي الدين بن عربي الحاتمي من كتابه الوصايا

 

مقدمة

ان التقدمية والرجعية والوطنية والقومية والانسانية والقيم العليا-بمعانيها النبيلة، انما هي مواقف من حركة التاريخ، وليست سفسطة فكرية تلفيقية، أوتفلسفا فارغا دوارا، أودردشة مقاهي، أواصطخابا كلاميا تحزبيا، أو استنضالا ورقيا، فتلك من أخلاقيات عسكربطالة الروح كما يقول سيد المتصوفة الجنيد البغدادي ،

 

وحتى ولوسلمنا جدلا بمقولة أن التاريخ هو تاريخ الملوك، -كما يقولون-أوتاريخ المفكرين والمتفلسفين والعباقرة والمصلحين، الا أن الأبرزدائما، والأكثر بقاء وخلودا، هو ما فعله الملوك بأقوامهم، وما تركه هؤلاء المفكرين والعباقرة لأناسهم، وأتباعهم، وأجيالهم، ان خيرا، أو شرا..

 

ولكي يكون التاريخ، تاريخ الأمم، يجب أن تسبق الأمم التاريخ، لأن الفاعل لابد أن يسبق فى الوجود الفعل، وهذا ما يجب أن يعيه أحباؤنا وأشقاؤنا المناضلين في فلسطين والعراق وافغانستان، فهم وحدهم صانعو تاريخهم..

 

فجبابرة المنطقة العربية والعالم السابقين منهم واللاحقين، الذين نرسسوا الحكم بالهش على قطعان شعوبهم، وأشبعوا جماهيرهم المسلوبة أفانين الهوان والاستغلال والتجهيل، هم دوما الى زول راجعون، والى غياهيب النسيان ومزابل التاريح آيبون

 

 غيرأن آفة الآفات اليوم عندنا، تكمن في تكاثررهوط المفكرين العرب، الذين ينسبون التخلف الفكري للريادات السياسية، والمجاميع الثقافية، وسواد الجماهيرالعربية قاطبة، الى ضعف الحضورالايديولوجي انتاجا واستهلاكا، فاستكثروا من الروشتات العلاجية المستلهمة من ترقيعات الاقتطافيات التثويرية والتنويرية الغربية، بينما نحن في واقع الأمرمستلبون متغبطون، ومانزال نتقيؤأطروحات يساروية بائدة، لم يعد لها ذكرولا وزن-فكرا ولا تفلسفا- من برشلونة الى سيدني، الا في أذهان هؤلاء الغارقين في لجج طوفان الهراء الايديولوجي المحنط، من الداخل الفلسطيني ومن خارجه الممتد على خارطة العالم العربي، من المزايدين على أقدس مقدسات العرب والمسلمين-قضية فلسطين- سواء على الصعيد الرسمي-الحكومي، أوعلى مستوى المعارضات، أو على صعيد المنظمات الاجتماعية، والمسماة بالمدنية، والهيئات الثقافية، والمؤسسات السياسية، حتى بات العثورعلى انتاج فكري واحد ينيرلنا الطريق الى بيت المقدس، منزه عن أغراض التكسب المؤدلج، من قبيل المستحيل

 

عضة التاريخ :

 الجاهل لقراءة التاريخ، لا يمنكه الا تكرار نفس الاخطاء القاتلة الجنرال دوغول والفطن هنا، من يتعض بالتاريخ كما وضح ذلك دوغول كمؤرخ أكاديمي ومقاوم للنازية قبل كونه حرب، في أحلك المراحل الحاسمة في تاريخ أوربا المعاصرة، -كما هو الشأن عندنا-عندما أوقف أولا كل مهاترات النخب والمثقفين الذين كانوا يلغطون ويملئون الصحائف بالمضاربات الكلامية الفارغة والتلفسف الورقي ودردشات الصالونات التي كان يسميها كبيرالأكاديميين الفرنسيين رولان بارث Roland Barthes ب Tautologie immenseأي الهذاءات الكبرى حيث كان دوغول يحقرمن شأن هولاء الطوطولوجيين المهدارين من المثقفين، الذين كانوا يتناحرون حول أسبقية التنظير على العمل أم التنوير قبل التثوير- ولوك مقولات المقاومة والرجعية والتقدمية بما فيهم نبي الوجودية سارتر ورفيقته دوبوفوار اللذين لم يتبنيا ثقافة المقاومة الا في أواخرعهدها -بما في ذلك ميتران- بينما العدو النازي الألماني يجتاح دول الببونليكس ليصل الى باريس فيحتلها، ويزلزل الأرض الباريسية تحت أقدام وأمام أعين الصفوة المثقفة الباريسية الغائبة في التنظير والتفلسف حول جدوى المقاومة وماهية المقومة فقام دوغول بتوجيه تحذيره التاريخي من منفاه من لندن، الى هؤلاء النخب المهدارة من كل التيارات الفكرية اليمينية واليسارية واللامنتمية والمثالية والسوريالية، بكلمته المشهورة عليكم ألا تخطئوا أولا في تحديد أولوياتكم، ومعرفة من هوعدوكم الأول والأخير : هتلر والنازية وهكذا أخرس دوغول الرجعي اليميني والمتدين -بالمصطلح اليساري السائد أنذاك - بخطابه هذا، كل الأفواه المحسوبة على ما كان يسمى باليسار التقدمي في خطابه المدوي بعد الهزيمة النكراء التي منيت بها فرنسا عام 1942،

 

 وبهذا المعنى، فان القضية الفلسطينية عموما لن تحل بمهاترات النخب النرجيسية الفلسطينية والعربية على مدارأكثر من نصف قرن حول من هو المتنور التقدمي ومن هو الظلامي الرجعي فان الأموردائما بخواتيمها فليتم التحريرأولا، ثم تصفى الخلافات لاحقا، وخو ما حدث في فرنسا بالانقلاب على دوغول في ثورة ماي الطلابية المشبوهةعام1968

 

 القدس في الأخيلة الغربية

 أنه من المستحيل فصل قضية الأقصى عن القدس بكل أبعادها التاريخية والحضارية والروحية للمنطقة، عن قضية –فلسطين- بأي منطق كان، فالأقصى هوالمحك، ومربط الفرس، ومفصل قضية الشرق الأوسط كله، والعالمين العربي والاسلامي، ومفتاح مفاتيح السلم العالمي، لا لكونها فقط من أهم المقدسات الاسلامية لمليارين من الملسلمين، بل لأنها رمزالصراع التاريخي المقبل/شرق غرب، بين المعسكرالشرقي بكل مذاهبه ومعتقداته الروحية مقابل- المعسكر (الوثني- الهيليني-الروماني-التلمودي الجديد) حيث تم ابعاد الكنيسة الغربية عن قضية القدس منذ حوالي ثلاثة قرون، باتفاق البابابوية والثورة الفرنسية، عندما حرص بونابارت على أن يتوج من طرف البابا، وبطقوس كنسية مهيبة-وهو اللاديني والملحد الثوري، التنويري- لدعم السماء لنظامه الديكتاوتوري الأمبراطوري، الذي أنشأه باسم الحرية الممتد من البرتغال جنوبا الى روسيا شرقا، وصولا الى اسكندنافيا شمالا، -بموجب ما سمي ب قانون بونابارت الجديدلعام1804 المخول له بحرية التصرف والملكية المطلقة للعالم المسيحي بمباركة الكنيسة، فكان ما كان من حملته الشنعاء على مصر، وعينه على الجزائر، ثم غزوه الفاشل لبيت المقدس (التي ما زال البعض-عندنا- يسميها 'تنويرا'وفتحا مبينا)

 

وهكذا فان الأخيلة الغربية لم ولن تتغيرمنذ أول حملة صليبية أوروبية مشوبة بحبورجنوني، نحو بيت المقدس في القرن الثاني عشر، قصد اخلائها من الشيطان الأسود -وقد بقي المقدسيون في التراث الأدبي الفرنسي في كتابات الرومانسيين ما بين1811-1840 كشياطين وخاصة عند شاتوبريان ولامارتين وهيغو) (1) التي غذت –شعبيا- الضمير الجمعي اللاشعوري الاوروبي- ضد العرب الى اليوم

 

 والشاهدهنا، هوأنه لا بد لنخبنا من سياسيين ومثقفين ومفكرين من كل الطوائف والميول والاتجاهات، من التسليم أولا–في خضم مضارباتهم الكلامية والتنظيرية حول التقدمية والرجعية - بأنه لم يحدث قط، أن امتلك الغرب الاستعماري مثل هذه القوة الكاسحة والارادة والاصرارعلى الوحدة (الأورو-أمريكية –اسرائيلية) والرغبة المرضية الدفينة، في أن يفعلوا بالأمة ما يشاء، وكيفما يشاء، ومتى يشاء، كما يملكها اليوم، –منذ أن أقصي دوغول بثورة 68 الباريسية، والمعسكرالسوفياتي بجائزة نوبل لغورباتشوف.

 

ولأول مرة منذ بدايات عام 2006 يتم علنا الاحتفال –رسميا – بالذكرى الستينية لقيام الكيان الاسرائيلي في عواصم الغرب وفي معارضه الثقافية الكبرى باستمرار، مع تطارد الزيارات الرسمية للرؤساء الأوروبيين لتل أبيب، لتقديم مراسيم الطاعة والخنوع للمطالب الاسرائيلية، وللتنسيق المستقبلي وبشكل غير مسبوق للحروب الأبادية القادمة على المنطقة، كما حدث في اجتماع مجموعة بروكسيل في ديسمبرعام2008 الذي بارك وصادق على محرقة غزة، ثم الاعلان الرسمي الذي أعلنه خافيرسولانا في 1 2 أكتوبر من عام 2009كون اسرائيل عضوا كاملا في الاتحاد الأوروبي، الذي سيخول لها الاستفادة الكاملة من مجموعة السبعة وعشرين دولة أوربية (ماليا ولوجيستيا وتقنيا ودعما لا محدود ا في مقاومتها للارهاب وللخصوم المحتاملين مثل ايران وسوريا ولبنان......فانظر !!!!ويعلم الله ماذا يخفي هذا الاتفاق الجديد من مفاجئات لفلسطين وللمقدسيين خصوصا وللمنطقة جمعاء حصوصا فس ظل التحركات المشبوهة السرية لناتانباهو وليبرمان في العواصم الغربية، فالغرب قد عودنا على انه لا يتحرك من فراغ ويقوم بمفاجئتنا في كل هجوماته ونحن ننتظر ونحملق ..

 

أما القدس فستبقى هي قلب الشام الكبرى-من دمشق الى عمان، وسيبقىالشام مركز الحضارة الانسانية بالمنظور (الفرنسي -البريطاني:) ..فلقد اعتبرالمؤرخ البريطاني الكبير توينبي Toynbe، أن الباحة السورية (الشام) وباحة آسيا الوسطى، هما مركز الحضارة الانسانية، حيث يقول بالحرف الواحد لقد اكتست المسيحية في سوريا الشكل الذي انتشرت به عبركل العالم الهيليني، وتشكلت النستورية(مذهب يرى التمييز في شخصية المسيح (ع) بين شخصين والمونوفيسيسمية (المذهب المسيحي الذي لا يعرف للمسيح عليه السلام الا طبيعة واحدة) في ايدس بين النهرين، ...أما الاسلام فقد ولد في مكة والمدينة بالحجاز جنوب سوريا، وولد المذهب الشيعي على الحدود الشرقية لشمال الجزيرة العربية) الأمر الذي يجعل الغرب حاليا يعيد رص صفوفه، ولملمة شعثه، وتقوية لحمته، وتفعيل مقولة الحضارة الهيلينية- اليهودية الجديدة لمواجهة'التواطؤ (الاسلامي- الكونفوشيوسي)- حسب مقولة هنتنغتون - (كمحور وريث لأقدم حضارات العالم من العراق وسوريا الى الصين) وتهويد القدس بتدنيسها هو نهاية للامة الغربية والاسلامية – كرمز ونحن هنا لا نتحدث عن الحجرلكي لا نتهم بالوثنية

 

 فالى متى يظل معظم نخب الصفوة في المشرق العربي، ومحلليهم وكتابهم، يرددون تكرارتلك الاستهبالات الاستراجيتية التسطحية، والتحاليلات الأدباتية الفارغة، بترداد المقولات المهترئة لعوامل النفط والاقتصاد والاستراتيجية بمنظارالتفاسيرالمبتورة الأحادية البعد، لفهم المنطقة ومستقبلها..؟بينما أعلن الغرب منذ عام 2007، بأن القدس ستكون العاصمة الروحية الأبدية لأووروبا ابتداء من عام 2012 بينما نقزمها نحن الى مجرد عاصمة لتهريجات الثقافة العربية ؟؟؟

 

باحث مغربي في الأنثروبولجيا بباريس

[email protected]

 

 .......................

(1) انظرالبحث القيم للمستشرقة الفرنسية الكبيرة كلودين غروسير Caude Grossir في جزئين تحت عنوان اسلام الرومانسيين (الفرنسيين) L’islam des Romantiques لدار النشر Maisonneuve&Laros

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1215 الاحد 01/11/2009)

 

 

 

في المثقف اليوم