قضايا وآراء

إشكالية القراءة التاريخية: بحث في المفاهيم والأصول والمنهج (1)

 من منطلق أن النظر إلى أحوال الماضي، يندرج ضمن الرؤية الواعية لفهم حقائق الحاضر، ووقائعه، والتطلع إلى معرفة ملا مح المستقبل ...

إلا أن الإشكال الذي نواجهه يتمثل في الفهم أي في قدرتنا على فهم الحقيقة عندما يتعذر علينا إدراك المقاصد الكامنة وراء الوقائع أو العوامل المؤثرة في مسار الأحداث واتجاهاتها ...

إن الفكر الرومانسي يعتمد في مقاربته للوقائع التاريخية على ربط الفهم بمفهوم الخيال) الذوق أو الحرس (مما يعطيه القدرة على تمثل الحدث في الذهن..

 ويرى رينان " بهذا الصدد، وهو يكتب عن المسيح (la vie de jésus)، بأن تشخيص عمالقة الماضي يتطلب قدرا من التكهن والتخمين (1) .

ويقول ابن خلدون في مقدمة كتاب العبر بأن التاريخ فن من الفنون تتداوله الأمم والأجيال، إذ هو في ظاهره لا يزيد على أخبار عن الأيام، والدول، والسوابق من القرون الأول .. فالتاريخ إذن عبارة عن خبر عن أحداث الماضي وبحث في أحوال البشر ووقائعهم، وبالتالي فهو علم يهتم بالصيرورة التاريخية أي أنه يشمل الماضي والحاضر والمستقبل.

 ولنتوقف قليلا عند كلمة " أرخ " في اللغة العربية يقال أرخ وورخ توريخا وتأريخا بمعنى الإعلام بالوقت، ومن ثمة فإن تاريخ كل شيء آخره ووقته الذي ينتهي إليه زمنه، ومنه قيل فلان تاريخ قومه، وذلك بالنظر لإضافة الأمور الجليلة إليه ..

 ونستنتج من هذا أن التاريخ والتأريخ تعريف بالوقت بمعنى وضع الحدث التاريخي في سياقه الزمني والمكاني.

وقد قامت طائفة من مبرزي المؤرخين مثل " روبرت فلنت " في كتابه) فلسفة التاريخ (و المؤرخ بارنز في كتابه عن تأريخ الكتابة وغيرهم من الباحثين، بالبحث في جوانب التاريخ المختلفة، إلا أنه كلما اتسعت دائرة الكشوفات الأثرية، وكلما كثر البحث في نطاق المخطوطات والوثائـق،

و الآثار والنقوش، كشفت مصادر كانت مجهولة، وتجلت حقائق لم تكن معروفة ... (2)، وقد لاحظ " ماكس نوردو " أن هناك خلط بين التاريخ في ذاته وكتابة التاريخ وتسجيل أحداثه، وأخذ على الباحثين أن جهودهم اتجهت إلى جعل الوصف والموصوف شيئا واحدا ...

 فالتاريخ له وجوده القائم بذاته، وهو بطبيعة الحال أوسع نطاقا وأبعد مدى من التاريخ المكتوب ...

 فتأثير الأحداث الطبيعية الكبرى على البشرية، قد يكون أشد وأخطر من تأثير النظم الاجتماعية، والسياسية والمعتقدات الدينية ... (3)

 فالتاريخ إذن بمعناه الضيق يتناول حدثا في الزمان والمكان، أما التاريخ بمعناه العام فيتناول الحضارات البشرية من جميع زواياها وأبعادها، وأحوالها سواء كانت كبيرة الشأن أو ضئيلة الشأن، لا فرق بين الإنسان المغمور والفاتح الذي ملأت شهرته الآفاق ...

ظهر تعبير " إسطوريا " أي التاريخ عند الإغريق في القرنين السادس والخامس قبل الميلاد، وكان يقصد به البحث عن الأشياء الجديرة بالمعرفة : معرفة البلاد والعادات والمؤسسات السياسية ..

 ثم أصبحت الكلمة مقتصرة على معرفة الأحداث التي رافقت نمو الظواهر، وبذلك ولد تعبير التاريخ بمعناه الشائع ..

 إن كلمة التاريخ في الاستعمال المألوف مصطلح يشمل معنيين مختلفين في معظم الأحيان يقصد به الأعمال والمنجزات التي قام بها الإنسان فيما مضى من الزمان . وكثيرا ما يدل على رواية الأعمال والمنجزات وتسجيلها ... (4)، وفي بادئ الأمر كانت للأساطير والأوهام أثر ظاهرة في تكوين التاريخ ونرجع نشأة التاريخ بهذا المعنى إلى قدرة الإنسان على تخيل الماضي والإحساس الفني الذي يلم به حينما يروي الأحداث الماضية ويستحضرها ...

وكان الأدب في أول ظهوره مقصور على الشعوب التي تمجد العبقرية في الملاحم، وذلك بإبراز سير الأبطال وتخليد بطولاتهم. (5)

فكانت المنظومات الشعرية الملحمية مشوبة بالأساطير والخرافات بعيدة عن وصف الواقع الحقيقي ..

وقد ظهر أدب الملاحم الأسطوري قبل ظهور الأدب التاريخي..

عند اليونان ظهر<< هوميروس >> قبل << هيرودوت>> بزمن طويل، وفي إيطاليا ظهر << دانتي>> قبل << ميكيا فيلي>> .. ألخ.

ولم يستطع العقل الإقبال على الكتابة التاريخية إلا بعد أن تخلص من قيود التقاليد وأغلال الأساطير والأوهام والخرافات ..

ونتيجة تقدم الثقافة ونشاط الحركة الفكرية والسياسية في الدويلات الإغريقية التي أنضجت العقليات..

إن أقدم الوثائق التاريخية كانت كتابات ورسوما ونقوشا على المعابد والقصور والمقابر التي أقامها الملوك والغزاة الفاتحون، لتسجيل انتصاراهم والإشادة بأخبار المعارك التي خاضوا غمارها، والبلاد التي استولوا عليها، كما سجلوا حلقات أنسابهم وما جمعوا من ثروات وصنعوا من منجزات ..

 

-2-

بعض الحضارات رغم ما وصلت إليه من تقدم حضاري، لم تظهر عندها قدرات فنية في الكتابة التاريخية المنظمة ..

 فالحضارة الفرعونية وضعت قوائم تضم أسماء الملوك بغية تعظيم شأنهم ..

 أما في بابل، فقد أخذت الكتابة التاريخية صورة النقوش المرسومة على المباني، وظهرت عند الأشوريين وثائق وحوليات ملكية تضم مغامرات الحكام في الحرب والصيد، والقيام ببناء بعض القصور طبعا غابت الحاسة النقدية في هذا التسجيل البدائي للتاريخ وكان الهدف من النقوش تمجيد الملك الحاكم، وأعلاء شأنه في نظر الأجيال التالية، وقد تغلب على تلك الوثائق المبالغة والتهويل والروح الدينية، ونسبة المباني المشيدة للآلهة، ومن الحق القول أن مصر تعتبر متحفا تاريخيا ضخما يحفظ مصادر وافية وقيمة للمعلومات التاريخية، في مقابر الملوك والقصور والمعابد والآثار)6).

و حينما تأثرت الثقافة المصرية القديمة بالثقافة الهيلينية ظهر كاتب مصري هيليني الثقافة اسمه مانتو Manatho)) قام بجمع حوليات عن تاريخ مصر وكتب سردا تاريخيا، وقد عرف هذا الكاتب بإجادة البحث وتحري الموضوعية في جمع المادة التاريخية، وتفسيرها إلا أنه لم يبق من كتبه سوى مقتبسات، وقد شابتها الشوائب نقلها المؤرخ اليهودي يوسفوس (7) .

البابليون والآشوريون كانوا أكثر تقدما في جمع الوثائق التاريخية، ولكن لم يظهر بينهم مؤرخ من طراز " مانتو "، وأقدم الكتابات التاريخية الآشورية هي الوثائق التي كتبها الكتاب السوماريون، إلا أنه لم يعثر على سرد تاريخي منظم يمكن أن يعزى إليهم .

إن ازدهار الكتابة التاريخية كان يستلزم جوا من الحرية، تنمو فيه الملكات، وتتفتح المواهب، وغياب الحرية هو الذي حصر الكتابة التاريخية في تسجيل أخبار قلة من الملوك وأعيان الدولة ...

يقول " روبرت فلنت " بأن الصينيين تفوقوا في الأدب التاريخي نتيجة إحساسهم بحقائق الحياة، وفرط احترامهم لأسلافهم وشدة تعلقهم بالماضي، وحسن إدراكهم السياسي، واعتدالهم في إصدار الأحكام، وتقديرهم العالي للمعرفة والثقافة وميلهم إلى الجد في طلب العلم . وعند الصينيين عدد كبير من المؤرخين منذ ألفين وستمائة سنة ...

و الأدب التاريخي الصيني حافل وضخم، ويشمل على تاريخ أسر، وملخصات حولية، ومذكرات مختلفة الأنواع، وسير لا يكاد يحصيها العد، ومدونات تاريخية زاخرة بالمعلومات، تتناول شتى العصور ومختلف جوانب الحياة ..

 إلا أن الكتابة التاريخية رغم ذلك لم ترتفع عن مستوى الطريقة الحولية، فالمؤرخون الصينيون قد بذلوا جهدا في جمع المعلومات واستقصاء الوقائع وتنسيقها . إلا أنهم لم يضعوها في موازين النقد، ولم يسبروا أغوارها، فالتاريخ عندهم تعوزه دقة العالم، وشمول الفلسفة وإحاطتها، ولم يستطع الصعود إلى وجهة نظر عامة . وهم يتناولون التاريخ باعتباره فنا قوميا نافعا لا باعتباره مرآة تنعكس فيها الطبيعة البشرية .

 وأشهر المؤرخين الصينيين شهرة هما : " سيزماتيان " المولود حوالي ) 145 ق – م (و " سرجها كوانج " الملقب بأمير المؤرخين وقد ذاعت شهرته في القرن الحادي عشر ..

 كتب الأول وثائق تاريخية تشمل كل ما له أهمية في الحوليات الصينية منذ عهد) هونج تي (:) 2697 ق - م (إلى العصر الذي عاش فيه، واستقصى الثاني تاريخ الصين خلال ألف وثلاثمائة واثنين وستين سنة (8).

 اهتم اليابانيون بالتاريخ مثل الصينيين، ويرى المتخصصون الأربيون في الدراسات اليابانية أن الكتابة التاريخية اليابانية، ترجع إلى القرن السادس قبل الميلاد . وقد ترجمت إلى الانجليزية الحوليات اليابانية التي تمت سنة 720 ميلادية، تبدو فيها طابع التأثير الصيني، إلا أنه حدث تطور ملحوظ في الكتابة التاريخية اليابانية ما بين القرنين الميلاديين) 10 – 13 (حيث اتسمت بأحكام السرد وإجادة التفكير التاريخي . أما في عهد الإقطاع ظهرت حوليات كثيرة ولكن قل ظهور المؤرخين الممتازين ...

و أول مؤرخ ياباني صعد بالتاريخ إلى المرتبة العالمية هو " هاليسكي " ) 1657 – 1725 (و يعتبره اليابانيون أعظم مؤرخيهم أصالة وأوسعهم إحاطة، ومن كبار مؤرخي اليابان) ربي سانجو () 1780 – 1833 (و في العصر الحديث ظهر في اليابان مؤرخون لهم وزنهم مثل ) موتوري نوريناجا () 1730 – 1801 (و هرانا استاني) 1776- 1843 (و ميزات الأدب الياباني كثرة الروايات اليابانية التاريخية التي ترجع إلى القرن العاشر والقرن الحادي عشر .

أما في الهند فإن التنافر في العادات والتقاليد واللغة لم يساعد على ظهور الكتابة التاريخية، لذلك ليس للهندوس تاريخ قومي مكتوب وقد استطاع الهنود أن يعبروا عن أفكارهم وخوالجهم في الكتب المسماة " فيدا " وهي تضم وصفات الحياة الاجتماعية لطائفة الهنود الآرين وآرائهم في الله والكون والإنسان وكذلك في الملاحم العظيمة مثل المهاراتا واالرامايانا، ومجموعة الحكم والأمثال المسماة سوترا، ولكنهم لم يعنوا بتدوين أخبار الحياة الإجتماعية والأحداث الخارجية العادية .

 وأقدم المؤلفات التاريخية الهندية لا ترجع إلى أبعد من القرن الحادي عشر الميلادي وأشهرها كتاب) ملوك كاسميرا (و تغلب عليه الروح الشعرية والنزعة الأسطورية (9) .

أما فيما يخص بني إسرائيل يرى " بارنز barnes " في كتابه) أصول الكتابة التاريخية (بأن الرخاء العظيم الذي استمتع به اليهود والمكانة التي ظفروا بها في ظل المملكة المتحدة في عهد " (شاول وداوود وسليمان(من البواعث الحافزة على كتابة التاريخ، وأقدم محاولتهم للكتابة التاريخية عهدا تتمثل في الأسفار الخمسة، وسفر يشوع وسفر صمويل وسفر الملوك ..

 ويرى الأستاذ برستيد brasted بأن هذه الأسفار هي أقدم ما نملك من الكتابة التاريخية عند قوم من الأقوام ومؤلفها المجهول هو أقدم مؤرخ في العالم القديم (10).

 فكيف إذن ظهر هذا الأدب التاريخي عند بني إسرائيل؟ وبالرجوع إلى المؤرخ اليهودي فلافيوس يوسيفوس) 37 – 105 م (الذي يعتبر مؤرخ اليهود القومي فقد كتب بعد أن فقد اليهود وحدتهم وسقوط دولتهم وحاول إعادة ذكرى أمجادهم السالفة ليهون عليهم، لذلك عمد إلى المبالغة والإشادة بالماضي .

يرى " فلنت " أن اليهود كانوا يعتقدون أن الله هو المحرك الأسمى للتاريخ، وأن مملكته هي الغاية التي يتجه إليها التطور التاريخي .

 وقد عرف اليهود بشدة اعتزازهم بماضيهم وإكبارهم لتاريخهم ... (11)

و يعتبر التلمود أهم الكتب اليهودية، وهو مستودع للتراث اليهودي كله سواء التاريخي أو الجغرافي أو السياسي أو الأدبي ويقول عالم النفس الأمريكي " اريك فروم " في كتابه) الدين والتحليل النفسي) بأن العهد القديم من الكتاب المقدس) أي الكتابات اليهودية (قد كتبت بروح الدين التسلطي وصورة الإله فيها صورة الحاكم المطلوب لقبيلة أبوية (12) Patriacal

و بخصوص الكتابات اليهودية يقول " اسبينوزا " : " لا ندري في أية مناسبة وفي أي زمن كتبت هذه الأسفار التي نجهل مؤلفيها الحقيقيين، ولا نعلم ممن جاءت المخطوطات الأصلية التي وجد لها عدد من النسخ المتباينة، ولا نعلم أخيرا إن كانت هناك نسخ كثيرة أخرى في مخطوطات من مصدر آخر ... ( (13)و يضيف نقلا عن ابن عزرا : " إن موسى ليس هو مؤلف الأسفار الخمسة بل إن مؤلفها شخص آخر عاش بعده بزمن طويل " (14) أي بقرون عديدة ويقول أيضا بأن أسفار الأنبياء) أي أنبياء بني إسرائيل (قد أخذت من كتب أخرى ورتبت ترتيبا معينا، لم يكن دائما هو الترتيب الذي سار عليه الأنبياء في أقوالهم أو في كتاباتهم، كما أن هذه الأسفار لا تتضمن جميع النبوات، بل بعض النبوات فقط التي أمكن العثور عليها هنا وهناك، وبالتالي فليست الأسفار إلا مجرد شذرات صيغت على شكل رواية هي مجموعة من الفقرات المأخوذة من كتب الأخبار المختلفة، بالإضافة إلى إنها تكون خليطا دون ترتيب ودون مراعاة للتواريخ ..(15)

إن الفريسين هم وحدهم الذين اختاروا أسفار العهد القديم) من بين الكثير غيرها (ووضعوها في المجموعة المقننة.

إن المجامع (synodes) هي من قرر أي الأسفار يجب وضعها بين الكتب المقدسة وأيها يجب إبعادها، وبالتالي فإن سلطة جميع هذه الأسفار مستمدة من سلطة المجامع الدينية وسدنة الهيكل، إلا أن هذا لا يكفي لإثبات المصدر الإلهي لهذه الأسفار، فضلا عما تتضمنه الروايات والقصص الواردة في هذه الأسفار من أساطير وأوهام وخرافات، تجعلها أقرب إلى الآداب التاريخية البدائية ...

      إن الكتبة التاريخية اليونانية لم يتيسر ظهورها قبل القرن السادس قبل الميلاد، ) وقد أشرنا إلى ذلك من قبل (، ولا شك أنه توجد في أسفار هوميروس معلومات وافرة عن المجتمع اليوناني والثقافة اليونانية تقدم صورة واضحة لحضارة عصره ...

إلا أن شيوع الكتابة النثرية، وكذلك النظرة النافذة إلى الأساطير الشائعة، وبواعث البحث عن أصول المجتمع ونشأة النظم والقوانين والعادات والتقاليد في منتصف القرن السادس قبل الميلاد ساهمت في توفير الشروط، والمستلزمات للسرد التاريخي..

ففي مطلع القرن السادس بدأ) كادموس الميليتي (ممارسة الكتابة النثرية بدلا من الكتابة الشعرية، ويعد في طليعة الكتاب الناثرين في الأدب اليوناني، وفي نفس الوقت بدأ ظهور الفلسفة التي وضعت أصول التفكير الحر وشجعت على النقد (16)

ثم إن إنشاء المستعمرات والتبادل التجاري، أثر في تقدم الحضارة اليونانية ) في إيونيا وبحر إيجي(كما أن بروز الروح الناقدة ساعدت على تقدم الفلسفة والأدب والكتابة التاريخية.

و كذلك فإن احتكاك الثقافات يثير حب الاستطلاع ويحفز إلى التفكير وينمي العقل.

إن نشوء الكتابة التاريخية كان جزءا من الحركة الفلسفية التي بدأت في ذلك العصر ...

و قد ظهرت الرغبة لدى بعض البارزين لإبراز أدوارهم ومكانتهم الاجتماعية وعراقة أنسابهم، فظهر كتاب يقومون بمهمة تمجيد الأسر الحريصة على إثبات عراقة الشرف والنسب ...

و أدى هذا الاهتمام إلى تحري النساب الميل إلى العناية بالجغرافيا ودراسة أخلاق الشعوب المختلفة وعاداتها، وتقاليدها ووسائل أحوالها الإجتماعية والثقافية والتاريخية ...

لذلك يغلب في الكتابة التاريخية عند اليونان الوصف الجغرافي والإسهاب في الحديث في مختلف جوانب الحياة الإجتماعية للأمم التي يرد ذكرها، وتسرد أخبارها " (17)

و قد بدأ المؤرخ) هيكاشيوس ولد 550 ق- م(الكتابة العلمية للتاريخ بتحريه الحقيقة في المعلومات التي أوردها، كما كان له موقف ناقد من الأساطير المتداولة، ويقول بهذا الصدد " ما أكتبه هنا) كتاب الأنساب (تقرير وبيان لما أعده حقا، وذلك لأن الأقاصيص اليونانية كثيرة وفي رأيي أنها تدعوا إلى السخرية (18) .

و هناك كتاب التاريخ الذي ألفه) هيرودوت 425 – 484 ق - م (و هو مؤلف تاريخي شامل . ويعتبر " هردوت " بمثابة الأب لعلم التاريخ.

 كان رحالة مطبوعا على حب الاستطلاع، والحرص على التزود من المعرفة، وكان يسأل ويستفسر، ويجمع المعلومات والأخبار بمختلف الوسائل والسبل، ويحاول أن يتعرف على العادات، والتقاليد، والعقائد والأديان والقوانين والنظم، لا يكاد يفلت من اهتمامه الفاحص ونظرته الشاملة شيء، وبقوة عبقريته استطاع أن يضمن كتابه كل ما رآه بعينيه وسمعه بأذنيه في أسلوب جذاب وعرض شائق مما جعل كتابه من طرائف كتب التاريخ الخالدة (19) .

 والموضوع الرئيسي في كتاب) هرودوت (هو الحرب الفارسية وبخاصة القضاء على حملة) اكسيركسيس (و المعلومات التي جمعها حول هذا الموضوع رجحت أهميتها وفائدتها ..

و قد أخذ عليه تقصيره في وصف المعارك الحربية التي دارت بين الفرس واليونان ..، ولكن مزاياه البارزة، أن عاطفته القومية لم تتغلب على أحكامه، وبهذا نجده ينصف الفرس، ويقر لهم بالشجاعة والإقدام، الأمر الذي عرضه لنقد اليونانيين الشديدي التعصب لقوميتهم(20).

 

كانت الحرب الفارسية اليونانية في رأي هيرودوت تمثل تصادم طرازين من طراز الحضارة وهما الحضارة الهيلينية والحضارة الشرقية ولذلك عمد إلى وصف سكان الضفة الغربية للبحر الأبيض المتوسط والعالم الآسيوي، في القرنين السادس والخامس قبل الميلاد وصفا تناول فيه الأحوال الإجتماعية والثقافية ..

 ويمتاز وصفه بالنزاهة التامة والتخلص من التعصب الجنسي أو الإقليمي، وقد أكدت البحوث الأثرية الحديثة صدق الكثير من أقاصيصه وأوصافه الإخبارية، وكان يفرق بين ما رآه بنفسه وبين ما يعتقده، وبين ما يرويه من الأخبار السائدة والأخبار المتداولة ..

 وقد أظهر إيثاره لانتصار أثينا على اوتوقراطية الإمبريالية الفارسية ..

 وفي كتابه الذي يعتبر ملحمة إنسانية ضخمة، يبدو تأثره بفكرة تدخل الآلهة في الشؤون الإنسانية ...

إن مكانته بوصفه مؤرخا فنانا، قدم أروع النماذج في السرد التاريخي الرفيع الحي النابض، فوق متناول الشكوك(21) .

ومن معاصريه المؤرخ ) توقديد thucydide () 396 – 456 ق – م (الذي تناول الكتابة التاريخية بطريقة مخالفة لطريقة " هيرودوت " فقد أثر الجدية في البحث وتشدد في أبعاد الأساطير والخرافات التي كان " هبرودوت " يميل إليها ويجد متعة في روايتها.

 وقد وضع حدا فاصلا بين المنهج الملحمي، والتأثر بالاعتقاد بما فوق الطبيعة، وبين الكتابة التاريخية التي تقوم على تمحيص الحقائق، واستقصاء الأسباب المعقولة للأحداث والعلل الدنيوية، وأعرض عن الاستطرادات، واختار موضوعا محدد المعالم هو) الحرب البليونسية 431 – 404 ق–م) ومجالها أقل اتساعا من المجال الذي اختاره " هيرودوت "، وقد أعد كتابه في عهد نشوب الحرب ووقوع الصدام، ويقول " برنز " بأن الصورة الموجزة التي قدمها في كتابه حول ارتقاء بلاد اليونان من حكومات المدن إلى الإمبراطورية الأثينية تبين أن (توقديد) كانت له قدرة عظيمة على بلورة رؤية تاريخية مؤسسة على قراءة دقيقة للأحداث وصيرورتها ..

 وقد أظهر بأن أهمية الكتابة التاريخية متوقفة على دقة المعلومات، وصحتها، أكثر مما هي متوقفة على العرض الجذاب .

و هو في تماسك أسلوبه، واكتفائه بالتفاصيل الوثيقة الصلة بموضوعه، يعد في طليعة أوائل الداعين إلى التزام المنهج العلمي في كتابة التاريخ ...

و قوام هذا المذهب الدقة في تمحيص المادة التاريخية التي يجمعها المؤرخ وهو القائل بأن المعرفة الوافية الدقيقة لما حدث مفيدة ونافعة، لأنه من المرجح احتمال وقوع أحداث شبيهة لما سبق أن حدث(22).

كان بالإضافة على نقد المراجع شديد الحرص على فحص الوثائق والأصول، وكان بارعا في تنسيق المواد التي يجمعها وكذالك في تفسيرها وبالفعل فقد كان ينظر إلى التاريخ من الناحية السياسية، ولكن من منظور السياسي الفيلسوف في ربطه بين المشكلات التاريخية والأسباب السياسية، وإلمامه بالأسباب المباشرة والأسباب البعيدة ولم يكن يسمح لأي معتقد ديني أن يلون رؤيته التاريخية ويؤثر في أحكامه التاريخية، لأنه كان يريد أن يكتب تاريخا صحيحا ..

 وقد أخذ عليه أنه أعطى أهمية للعوامل الجغرافية في المواقف التاريخية، وأنه أغفل تأثير العوامل الثقافية والاجتماعية والاقتصادية في سير التاريـخ (23).

 تابع القسم الثاني من الدراسة

 

 

 

في المثقف اليوم