قضايا وآراء

أبو العلاء المعري ... رهين (العقدتين)

وكانت صفين منعطفا خطيرا في (الفكر الإسلامي) إذ انتقل الإسلام بعدها من (البساطة) إلى (التعقيد) فالحرب لم تعد بين مسلم وكافر بل بين مسلم ومسلم، وكان قول الإمام علي(?)  " الحق لا يعرف بالرجال، اعرف الحق تعرف أهله" يدعو إلى الكثير من التقصي. ولذا اصبح هامش (الاجتهاد) لا يقل أهمية عن النص. وصار على المؤمن أن يفهم (فلسفة الإيمان) لا الإيمان المجرد للوصول إلى معرفة الله الحقة. ثم وقع الاختلاف في (الإمامة والأصول) وولدت الأحزاب السياسية والمذاهب الدينية والفرق الكلامية، واختلفت وجهات النظر فمن قائل بتكفير المسلم إذا ارتكب الكبيرة كالخوارج، وقائل بـ(منزلة بين منزلتين) كالمعتزلة، وتارك الأمر إلى الله كالمرجئة.

وقد كان المعري ضحية ما جرى فعلا، فلا نحن ولا غيرنا يعرف مذهبه. فقد رفض كل المذاهب والاتجاهات، فنراه يهاجم الفرق الفكرية:

اله قادر وعبيد سوء

               وجبر في المذاهب واعتزال

 

كما نراه يسخر من المذاهب الدينية :

أجاز الشافعي فعال شيء

               وقال أبو حنيفة لا يجوز

 

على انه إذ يفند الآراء جميعها لا يملك يقينا من رأيه:

أما اليقين فلا يقين وانما

               أقصى اجتهادي أن أظن واحدسا

ولهذا فقد الارتكاز وهو يخوض في الدين الذي لبس ثوبه الفضفاض فتعثر وسقط. كما نجد له أبياتا تشرح حيرته بين الإسلام والمسيحية:

في اللاذقية ضجة

               ما بين احمد والمسيح

 

هذا بناقوس يدق وذا بمئذنة يصيح

كل يقول برأيه

               يا ليت شعري ما الصحيح

 

فما الموجب لهذه الحيرة وهو مسلم؟!. . . إلا انه انتصر في أبيات أخرى للمسيحية التي ترى أن الذبيح هو (إسحاق) وليس (إسماعيل) بقوله: (وكان أبوك إسحاق الذبيحا).

لكنه ـ كعادته ـ لم يطل في انتصاره فالحيرة تقتحمه حيث كان، فقال مهاجما الجميع:

دعا موسى فزال وقام عيسى

               وجاء محمد بصلاة خمس

وقيل يجيء دين غير هذا

               وأودى الناس بين غد وأمس

ثم قام يدعو، مبشرا بدينه الخاص، إلى حرق الميت على طريقة الهنود للتخلص من (منكر ونكير) إذ لا يبقى مع الحرق لحم أو عظم فيحاسبه الملكان. وخاطب المؤمن بشرع الله واصفا إياه بـ(مريض العقل والدين) وطلب منه أن يلقاه (ليسمع أنباء الأمور الصحائح) وهي مفردات دينه، فدعاه إلى ترك أكل اللحم والعسل والبيض والحليب، إلا ان ابشع ما دعا إليه هو (ترك الزواج) وهو سنة الله العظمى فبه يكون النسل ويستمر البشر ويعبد الله، وقد حمل دعواه هذه إلى قبره .

ومما يقنعنا بأن الحيرة طبع فيه متأصل، انه كان متناقضا في كل دقائق حياته فقد لزم بيته مصرحا " لزمت بيتي واجتهدت أن أتوفر على تسبيح الله وتمجيده " ولكنه لم يتفرغ للعبادة بل تفرغ للتأليف، فألف نحو (60) كتاباً وهو ما لا يجتمع مع التبتل والانقطاع لله . وزعم انه اغلق الباب على نفسه وكان بيته يضج بالقاصدين إلى درجة أن أحد الرحالة (وهو صاحب سفر نامة) ظن أن المعري هو حاكم المعرة حينما زارها .قال:" وكان بهذه المدينة رجل أعمى اسمه أبو العلاء المعري وهو حاكمها وكان أهل البلد خدما له، يجلس حوله دائما اكثر من مائتي رجل" فأية خلوة تلك؟!! . كما تناقض في دعواه بالزهد وتصريحه متشبثا بالحياة " إنما أنا رجل بلي بالصدى، لا يجد موردا، فهو ظمآن أبدا " وتظاهر بعدم رغبته بالنساء بينما نجده يصرح برغبة غير منقطعة فيهن:

والمرء ليس بزاهد عن غادة

               لكنه يتربص الإمكانا

أما عقدته الثانية فهي (المتنبي)، والمعري ليس الشاعر الوحيد الذي وجد أمامه قمة لا يمكن اجتيازها، ومعروف أن المتنبي خمَّل اكثر من أربعمائة شاعر في زمانه وخمل آخرين جاؤوا بعده. إلا أن المعري ابتدأ من المتنبي فدرس على راويته (ابن سعد) كما نجده يقف في بلاط الحمدانيين يمدحهم كما قام بمحاكاته في كل شيء وقد يعجب المرء أن يرى المعري يكتب في (الحماسة) وله أشعار (سيفية) و(درعية) بل ويأخذ من المتنبي الكثير من صوره الحربية كقوله:

إذا سقت السماء الأرض سحبا

               سقاها من صوارمه سجالا

 

وهو من قول المتنبي (وهو افضل):

سقتها الغمام الغر قبل نزوله           فلما دنا منها سقتها الجماجم

كما نجد له غزليات حاكى في بعضها المتنبي، كقوله:

وأرسلت طيفا خان لما بعثته

               فلا تثقي من بعده برسول

 

فهو نظير قول المتنبي:

كلما عاد من بعثت إليها

               غار مني وخان فيما يقول

 

بل نراه يقلد المتنبي أيضا في مزجه الغزل بالحماسة، وكذلك في إيراده الحكمة وله قصيدة عارض بها قصيدة المتنبي التي رثى بها ام عضد الدولة فاختار الوزن نفسه ووضع فيها حكما تناظر حكم المتنبي. وله أبيات يذكر فيها أمه اختار لها عين البحر والقافية التي اختارها المتنبي في رثاء جدته . كما قلده في التشبيه بالأنبياء والفخر بشعره

واني وان كنت الأخير زمانه

               لآت بما لم تستطعه الأوائل

 

على أن الحيرة لم تتركه على هذه الثقة فبينما هو نافش ريشه في هذا الفخر نراه يقول:

عساك تعذر إن قصرت في مدحي

               فان مثلي بهجران القريض عسِ

 

أي: جدير. لقد أدرك انه لم يبلغ شاو المتنبي بل كان صدى باهتا عنه، فتطلب أسلوبا وموضوعا جديدا فابتدع (اللزوميات) وكان تمكنه العجيب من اللغة مسعفا في نجاح برنامجه. ولا اقصد اللزوميات ديوانه المعروف؛ فقد التزم المعري في اغلب أعماله بما لا يلزم ؛ في ديوانه (اللزوميات) التزم بقافيتين أو أكثر وفي كتابه (الفصول والغايات) وهو كتاب نثري التزم بجعل كل فصل ينتهي بحرف من حروف الهجاء، وفي سقط الزند التزم شيئا معنويا وهو إثارة اكثر من معنى للفظ الواحد واغلب شعره إنما على غرار قوله:

إذا صدق الجد افترى العم للفتى

               مكارم لا تكري وان كذب الخال

فقد ذكر (الجد والعم والخال) وهو لا يريد الأقرباء  بل الجد: الحظ، والعم: الناس، والخال: الهيئة. أي إن من خدمه الحظ يروي له الناس مناقب لا تدل عليها هيئته.أما رأيه بالمتنبي فمتناقض أيضا فبينما يعده الشاعر الأوحد ويسمي ديوانه (معجز احمد) يسأل عنه وعن أبى تمام والبحتري فيقول: (حكيمان والشاعر البحتري) . وفي رسالة الغفران ينسب إلى المتنبي التدين حد (التدله)، وفي نفس الصفحات يروي حكايات عن ادعائه النبوة ويزعم انه رواها له (رجل ثقة) !!!.

لقد كان المعرى نابغة وشاعرا لا مثيل له ولولا ذاك لما نجح فيما قدمه من أدب متناقض وكان لاجتماع عقدتيه  الأثر الموجه والفاعل في خروجه بهذه الصورة، كما أن لعماه كما يبدو أثرا مهما في نفسيته انعكس في شعره  فما اعظم تألمه في قوله :

إذا طفئت في الثرى أعين

               فقد أمنت من عمى أو رمد

ولكننا نقرا له أيضا أبياتا تناقض ما ذهبنا إليه فهي تنكر الألم وتهون العمى:

والله ما في الوجود شيء

               تأسى على فقده العيون

فوا حيرتاه من حيرة المعري !!! .

 

د. محمد تقي جون

[email protected]

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1224 الثلاثاء 10/11/2009)

 

 

في المثقف اليوم