قضايا وآراء

هل أحب المتنبي خولة.. أم راعى العرف العربي

هذه كانت وراء تركه لحلب بانياً كل هذه الادعاءات على قصيدة واحدة للمتنبي انفردت بذكر خولة وهي القصيدة التي رثاها بها وهو في العراق. والعجب العجاب أن الجمهور تقبلوه منه وتبنوه وجعلوه من بديهيات دراسة المتنبي. وما كان هذا الأمر ليخفى على الجهابذة من النقاد والشراح الذين عاصروا المتنبي أو جاءوا بعده، بل هم يعدونه (عزهاة لا تطَّبيه المرأة) وهو مشغول عنها بالمجد. وانتبه الثعالبي إلى حقيقة مهمة وهي أن المتنبي كان يستعمل ألفاظ الغزل – وهي من لوازم المرأة – في مجال هدفه المجدي في قصائد الحرب والمدح. وليست قليلة تلك الأبيات التي استهزأ بها المتنبي بالحب كقوله:

يا عاذل العاشقين دع فئة

                         أضلها الله كيف ترشدها

اذا غدرت حسناء وفت بعهدها

                         فمن عهدها ان لا يدوم لها عهدُ

وغير فؤدي للغواني رمية

                         وغير بناني للزجاج ركابُ

 

وإذا نظرنا إلى بائية المتنبي تلك وجدناها ليست من مختاراته، وإنها أشبه باللوحة السوداء التي يعرّف من خلالها بالميت. وقد راعى المتنبي في هذه القصيدة العرف العربي الذي لا يجيز أن يسمى الميت إذا كان امرأة. وفي العراق يذكر اسم الميت صراحة إذا كان رجلاً، اما إذا كان امرأة فلا يذكر اسمها، ولكن يعرف بها من خلال ذويها فيقال (توفيت أخت فلان أو كريمة فلان أو عقيلة فلان) أو (أم فلان) إذا كانت متزوجة. وفي مصر تطوف سيارات بالشوارع مذيعة النعي فتذكر اسم المتوفى صريحاً وتذكر المتوفاة ولكن بلا اسم صريح بل تعرف بها من خلال ذويها كما في العراق. وقد جسد المتنبي ذلك في البائية فعرّف بخولة من خلال أخيها وأبيها:

(يا أخت خير أخ) (يا بنت خير أبِ)

               كناية بهما عن اشرف النسبِ

اجلُّ قدرك (أن تسمي) مؤبنةً

               ومن يصفكِ فقد سماك للعربِ

 

وهو يقصد أخت (علي سيف الدولة) وبنت (حمدان التغلبي) وقد راعى المتنبي العرف العربي في عدم ذكر اسم خولة إجلالا لها ولقدرها. وبالتالي فقد جانب الصواب محمود شاكر حين وجد في عدم ذكر اسمها دليلا واضحا على حبه ولذا قال:

كأن (فعلةَ) لم تملأ مواكبها

               ديار بكر ولم تخلع ولم تهبِ

 

وهو في الحقيقة إصرار من المتنبي على مراعاة العرف العربي ليس إلا، حيث استعمل (الوزن الصرفي) للتعرف بها متهرباً من ذكر اسمها صريحاً. وغير هذا وقف محمود شاكر عند أبيات أخرى من القصيدة وجد فيها حرارة الحب :

طوى الجزيرة حتى جاءني خبر

               فزعت فيه بآمالي إلى الكذبِ

حتى إذا لم يدع لي صدقه أملاً

               شرقت بالدمع حتى كاد يشرق بي

أرى العراق طويل الليل من نعيت

               فكيف ليل فتى الفتيان في حلبِ

 

وهذه الأبيات – على عكس ما رآه شاكر – باردة لم يحقق فيها المتنبي صدقه الفني المعهود وقد وصفها العكبري بانها (لا طائل تحتها) وهذا دليل ضد. واما قول المتنبي وقد ألح عليه محمود شاكر :

ولا ذكرت جميلا من صنائعها

               إلا بكيت ولا ود بلا سببِ

 

فلا يقصد الحب، بل العلاقة التي تربط المتأدبين وقد كانت خولة راعية للأدب والأدباء بدليل قوله:

بلى وحرمة من كانت مراعية

               لحرمة المجد والقصاد والأدب

 

(هذا) وإننا لو استقرانا الأدب العربي لوجدناه برمته يراعي العرف العربي؛ فجرير لم يذكر اسم زوجته (خالدة) حين رثاها واكتفى بذكر كنيتها – تعريفا بها -  (أم حرزة) ، بينما نجد أبا تمام يذكر اسم مرثيه (حميد الطوسي) والمتنبي ذكر (يماك التركي) حين رثاه ولم يذكر اسم والدة سيف الدولة أم خولة أخته.

ولا يزال بعض الشعراء إلى وقتنا ملتزمين بالعرف العربي فالجواهري حين  رثى زوجته لم يسمها بل كناها:

حييتِ (أم فرات) إن والدة

               بمثل ما أنجبت تكنى بما تلدُ

 

بينما ذكر أسماء مرثييه (شوقي) و(الزهاوي):

طوى الموت رب القوافي الغررْ

               وأصبح (شوقي) رهين الحفرْ

 

وفلسفة أطلقتَ في الشعر نورها

               هي اليوم ثكلى عن (جميلٍ) تناشدُ

 

وربما تخلى بعض الشعراء المحدثين عن هذه القاعدة – جهلا بالعرف العربي أو تجاهلا له – فقد ذكر السياب الاسم الصريح لحبيبته المرثية (وفيقة) في قصائد كثيرة مثل: (شباك وفيقة) و(مدينة الضباب) وغيرها. والحقيقة التي نريد أن نبرزها في هذا المقال هي أن المتنبي لم يحب خولة ولكنه كان مراعياً، وهو العربي القح، البدوي الشعر والأخلاق، للعرف العربي… إن المتنبي كان يغمض عينيه دون الحب إلى غاياتٍ أكثر سمواً.

 

دكتور  محمد تقي جون

[email protected]

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1225 الاربعاء 11/11/2009)

 

 

في المثقف اليوم