قضايا وآراء

الأنا وتعيين وجود الآخر في ظل التغير (3)

البراعة وحدها لا تكفي والقدرة على امتلاك اللغة وأسرارها لا يكفي حتى دونما اقتراف للأخطاء، حتى في استعمال الكلمات الدقيقة والصحيحة أيضا؛ وبقدر ما تقترب الكتابة من اللغة البسيطة المستعملة ومكانها عند الآخر فمن خلالها تعيّن الآخر ومكانه على خريطة الفكر والإبداع.

الحالة النفسية والاجتماعية والسياسية تشي بالآخر واتجاهه في الحياة من خلال الملاحظات والاقتراب بعلاقات التواصل الدائم مع المحيط فترسمه في صورة كما تريدها وتحمل الصورة ألوانها كما هي في النص والذي لا يخفي معنى الصورة وإن خبأها جائزة لمن يقدّم جهده العقلي والفكري؛ الكنز يحتاج لنبّاش أسرار.

الآخر هنا يفيض بالأحداث يرتدي ألبسة فكرية كثيرة وكلما دعت ضرورة المكان والزمان لذلك؛ جزء من ماضي الذات يصنع حادث الكتابة، يكوّن حضور الذات في النص ولو بتقليد محاكاة الآخر، كتابة الآخر نقلٌ لتجاربه لسلوكياته بواسطة لغة متموّجة تضيع منه وتنتهي إلى شاطئ المؤلف.

انتقال الملاحظة الماضية وتكوّنها في استحضار مسألة مفاتيح المعاني الأنا المتقاربة لهذه التجارب؛ والتجارب ظواهر وتحولات للأشياء يعبر عنها الإنسان انطلاقا من حواسه والحواس تختلف من بشر إلى آخر فإن المعرفة  ذاتها مشكوك فيها كما رأى ذلك جورجياسgeorgias  وبروتاغوراس protagoras1

إن سلوك الآخر بوجه عام هي حقيقة جزء من كياننا جميعا وإن اختلفت مستوياتها. لقد أكد سقراط على حقيقة واحدة موجودة وهي الماهية فإذا توصلنا إلى معرفة الماهيات فإننا نتوصل بالضرورة إلى الكشف عن الحقيقة الكامنة راء كل تغيّر؛ والحقيقة لا تتمثل عنده في الخصائص المتغيرة التي تبدو في الأشياء وإنما في الخصائص الثابتة لكل نوع من أنواع الموجودات.2

 نحن طبيعة واحدة بشرية دلالة مشاركة الآخرين في صنع الكتابة المعتبر ملكية المؤلف.

الحقيقة أنّ الآخر يقدّم خدمة ابتغاء جواز الوجود للذات لولاه ما انفتحت مسألة الفكر والبحث ولما اتسعت مدارك العقل ولما تحركت دواليب الجوهر في تحفيز رسم العالق في حياتنا القاسية الجارحة حزنا أو فرحا.

 يعتبر ياسبرز الوجود حقيقة لا يمكن أن تدرك إلا على نحو وجودي عن طريق المعاناة والتجربة وليس عن طريق التصور والتعريف المنطقي، والطريقة المثلى لمعرفته هي أن يكون على وعي مباشر ومن أجل أن يفكر في شيء هو بطبيعته لا موضوعي لكنه يفكر فيه في صورة شيء موضوعي وهذا الشيء يكون مجرد وسيط أو وسيلة يجعل ذلك الإنسان واعيا بالشامل."3

 فالوجود انبثاق ينجذب دائما نحو وجود آخر، بحث عن اليقين مصدر الوجود وأصله.

الذات تكتب تفاعلات كيميائها الباطنية فتتشارك مع آلاف الحالات الكيمياء نفسها والمعادلة نفسها، الذات تتحرر في النص من قيد اللحظة وترفض الواقع حين تمثّل فعلها وتغير زمنها لتقدّم حريتها في الاعتراف، الاعتراف المحدد لحريتها المنفلتة.

 الذات في الكتابة تكسّر قيدها لتخالط ذوات كثيرة في رحلة تلتقي فيها بماضي صنعته الجماعة على اعتبار التفاعل المباشر كما يحدد ذلك هومانز، الأفراد طالما يتحقق بينهم نوعا محددا من التكامل كما قال لاندكر، ثقافة اعتبارها الجزء من البيئة الذي صنعه الإنسان على حد تعريف تايلور، وعرفا وتحولا إلى وظائف وأدوار .

ممارسة الحرية لتثبيت استقرارها وتأكيد حقيقتها تغيير الآخر، تغيير الآخر في اتجاهات مختلفة ووجهات كثيرة التي هي بحاجة للتغيير أو قابلة لتغيير التغيير. الفلاسفة اليونانيون القدامى اعتبروا التغيير يخفي في طياته الحقيقة التي لا يجب أن نربطها بمظاهر الأشياء؛4 ولا شيء جاهز في الذات مهما اكتسبت موهبة من غريزة نائمة أو فطرة في طبيعة اللاشعور، في خضم الكتابة الذات تتحرر لتصنع فعلها بتساوي العقل مع الروح، طاليسthales أكد بأن كل شيء يتغير ويعود إلى مصدر واحد؛5 تصنع فعلها داخل المعنى لتحريك القارئ ندما أو اعترافا بالخطايا، تأثرا أو انقلابا وارتقاء واقترابا من مصدرها الأول الذي انبثقت منه كما أجتهد في ذلك أفلوطينplotin6 واعتبر حركة الذات هبوطا صعودا.

الكتابة تصنع فعلها زمن التدوين أو في لحظات القراءة كما فِعْلُ الجلد والسوط الذي يحدث أثره في اللحظة ثم يزول بزوال العقوبة ؛ والذات حركة مستمرة تبدأ من عالم الذات إلى الكون الذي انبثقت منه إلى الخارج (الآخر) إلى  الواقع (الفساد) الذي تنتهي إلى مواجهته لأجل هدف التصفية والمجاهدة إلى الصعود نحو الأفضل الذي أصدرت كتابتها عنه.

 الكتابة الرديئة تصنع الأثر السيئ والذات القارئة الرديئة تصنعه أيضا.  التناقض بين المسألتين واضح إذ أن الواحد لا يتغير لأنه بسيط أما الذي يجب أن يتغير فينبغي أن يكون مرّكبا كتابة رديئة وقارئ رديء.

الكتابة التي تتغير الذات في سطورها ولا تثبت تحدث معنى الفعل داخل الآخر تحرّك لتتوغل لتحفر عميقا فتطوّر من الفكر وتصبغ عليه رغبة في ذلك. فأنكسمندرanaximandre يعتقد أن هناك لا نهائيا من خواص كامنة تنبعث من الحرارة والبرودة الصحة والمرض والأشياء تحمل التناقضات.

في زمن كتابة الذات يتساوى أحيانا الآخر مع الذات كثيرا والذات باحثة عن هذا التساوي لأجل إنتاج خطابها المعرفي والأدبي والجمالي وتسويقه، وأحيانا  في بحثها عن المعرفة تشترط انتقال العقل من حالة القوة إلى الفعل والانتقال ليس بفعل الإنسان ذاته بل بتأثير عقل آخر وهو يتجاوز العقل الإنساني(العقل الفعّال) كما قال بذلك الفارابي.7

الكتابة في السوق الإبداعية تعجّ بأنواع البضائع الأدبية والفكرية والفلسفية لأن الكِتاب تحوّل إلى صناعة وسوق.

الكتابة الجيدة الحاملة للذات والآخر في جدلية دياليكتية ونقاش مستمر في التفاوض والإقناع  تمثل البضاعة النادرة المتهافت عليها لأنها تحمل أصالتها دون زيف.

الذات ارتباط بحوادث متتالية ومتغيرة وكل منها له سبب معقول يرجع إليه حدوثه كما قال ابن خلدون8 فإذا فهمت الأسباب فهمت الحادث وأثبتته وهذا هو قانون السببية.

الكتابة كما الوجود تجربة وتغير وتحوّل وبحث عن هدف أسمى، لا يمكن للكتابة أن تعطى دون وجود تحمله لأنه لو كان كذلك لنفينا صفة التغير.

علّقت الدكتورة فريدة غيوة حيرش حول التغير عند الفلاسفة الوجوديين المؤمنين من أمثال كيركاد وياسبرز وجابريال مارسال " نحن نخرج من ذواتنا ونعرف من خلال هذا الخروج المطلق أو الله لكن هذه العملية تعني في نفس الوقت أننا نتغير ونصير إلى الوجود لا خارج الوجود."

 

.........................

المصادر:

1ـ جون بول  ديمون الفلسفة القديمة ص 35/36

2 ـ نفس المصدر ص 33/34

3 ـ محمد رجب الميتافزيقيا عند الفلاسفة المحدثينص142

4 ـ gean paul dumont la philosophie antique p 17

5 ـ د/ يوسف كرم تاريخ الفلسفة اليونانية ص13 دار القلم بيروت

6 ـ gean paul dumont la philosophie antique p74/75

7 ـ الفارابي آراء أهل المدينة الفاضلة تحقيق الدكتور ألبير نصري نادر 1959 ص83/84

8 ـ من الوجود الزائف إلى الوجود الأصيل الدكتورة فريدة غيوة حيرش ص14

9 ـ نفس المصدر ص20

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1231 الثلاثاء 17/11/2009)

 

 

في المثقف اليوم