قضايا وآراء

الله والإنسان في الفلسفة الصوفية لعبد الكريم الجيلي

أنها تعطي لنا إمكانية رؤيته عن قرب وبعد. وهو تقييم وضعه في مخاطبة تقول: "أنزلته على قانون الحكمة الإلهية، وأمليته على نمط ميزان المدركة البشرية ليسهل تناوله من قريب وبعيد ويمكن تحصيله للقريب والشريد"1 . وليس المقصود بقانون الحكمة الإلهية سوى حكمة وجود الأشياء بالحق، لأن اختلالها يؤدي إلى اختلال الوجود وهدمه. وهي علاقة وضعها الجيلي في رؤيته عن تجانس الوجود وترتيبه بين الأزل والأبد. فوجود المخلوقات جميعا عين وجود الحق، لأنها تحتوي في ذاتها على وحدة عناصر الملك (النار والماء والهواء والتراب) والملكوت (العظمة والعلم والقوة والحكمة). وتكون هذه العناصر الجوهر الفرد، وله عرضان وهما الأزل والأبد. وللأبد (الوجود) وصفان هما الحق والخلق. وللخلق (وجود الحق المتشيئ) نعتان هما القدم والحدث (الله والإنسان)، ولهما وجهان الظاهر والباطن (الدنيا والآخرة)، وحكمان (وجوب وإمكان) واعتباران (أن يكون لنفسه مفقودا ولغيره موجودا، أو أن يكون لغيره موجودا ولنفسه مفقودا) ومعرفتان (وجوبيته أولا وسلبيته ثانيا، وسلبيته أولا ووجوبيته ثانيا).

إننا نعثر في هذا الترتيب المتجانس عن علاقة الخلق بالحق، بوصفها الصيغة المجردة عن علاقة الله والإنسان، على تأسيس لوحدتهما في الكلّ. وبالتالي ترابط وجودهما. مما يؤدي إلى فكرة مفادها أن نفي الله يعني نفي الإنسان، كما أن نفي الإنسان يعني نفي الله. وبغض النظر عن تنوع صور هذه العلاقة، إلا أنها تعبر عن حقيقة واحدة وضعها الجيلي في فكرة "الإنسان الكامل".

ففي مرتبة (مستوى) الهوية تصبح هوية الحق عين الإنسان. إذ لا يعني قول الله: "قل هو الله أحد" سوى "قل يا محمد هو (الإنسان) الله أحد"، أي قل يا محمد أن الله والإنسان واحد2 . وفي علاقتهما تتجلى دورة الوجود والارتقاء. إذ الأمر في الإنسان دوري بين أنه مخلوق وأنه على صورة الرحمن، كما يقول الجيلي. وبالتالي، فإن الله هو "حق متصور في صور خليقته، أو خلق متحقق بمعاني الإلهية"3 . وإذا كانت الإلهية حسب رؤية الجيلي، هي جميع حقائق الوجود وحفظها، فإن الحق والخلق هما حقائق الوجود. فهما الوجهان المتقابلان الدائران في فلك الإلوهية. وذلك لأن الإلوهية "تجمع الضدين من القديم والحديث، والحق والخلق، والوجود والعدم، فيظهر فيها الواجب مستحيلا بعد ظهوره واجبا، ويظهر فيها المستحيل واجبا بعد ظهوره فيها مستحيلا، ويظهر الحق فيها بصورة الخلق مثل قوله (رأيت ربي فيها في صورة شاب أمرد)، ويظهر الخلق بصورة الحق مثل قوله (خلق آدم على صورته). وعلى هذا التضاد، فإنها تعطي كل شيء شملته من هذه الحقائق حقها"4 .

وفي مرتبة (مستوى) الرحمانية تتجلى علاقة الله والإنسان على نسبة علاقة الحق بالخلق. فإذا كانت نسبة المرتبة الرحمانية إلى الإلوهية كنسبة سكر النبات إلى القصب، فإن العالم (الإنسان) هو أول رحمة إلهية، لأن الله خلق العالم (الإنسان) من نفسه. وبما أن الحق هو هيولي العالم، لهذا كان العالم مثل الثلج والله هو الماء الذي هو أصل هذا الثلج، كما يقول الجيلي5 . كل ذلك يكوّن مضمون "قانون الحكمة الإلهية" في الوجود. أما ميزان أو منطق إدراكها البشري، فهو أن يدرك الإنسان، بأنه ليس هناك من تجل للحق في الأكوان أتم من الإنسان، وذلك لأن الإنسان نفسه هو مظهر تجلي الحق6 .

إن إدراك هذه العلاقة والتحقق بها يؤدي بالإنسان إلى بلوغ درجة الكمال. وهي فكرة وضعها الجيلي في فلسفة مكثفة يمكن دعوتها بالصيغة النموذجية للعلاقة بين الإنسان والله، بوصفها النموذج الممكن والمعقول والواجب في طريق الوصول للكمال. وكتب بهذا الصدد يقول، بأن العارف إذا "تحقق بحقيقة كان سمعه وبصره ولا يخفي عليه شيء من الموجودات"7 .  ووضع هذه المقدمة في مخاطبته الإنسان بعبارة:"ثم لا يصح نفيه مطلقا، لأن بانتفائه تنتفي أنت إذ هو أنموذجك. وكيف يصح انتفاؤك وأنت موجود وأثر صفاتك غير مفقود؟ ولا يصح أيضا إثباته لأنك إذا أثبته اتخذته صنما فضيعت بذلك مغنما. وكيف يصح إثبات المفقود؟ أم كيف يتفق نفيه وهو أنت الموجود؟ وقد خلقك الله على صورته حيا عليما قادرا مريدا سميعا بصيرا وتكلما لا تستطيع دفع شيء من هذه الحقائق عنك لكونه خلقك على صورته وحلاّك بأوصافه وسماك بأسمائه. فهو الحي وأنت الحي، وهو العليم وأنت العليم، وهو المريد وأنت المريد، وهو القادر وأنت القادر، وهو السميع وأنت السميع، وهو البصير وأنت البصير، وهو المتكلم وأنت المتكلم، وهو الجامع وأنت الجامع، وهو الموجود وأنت الموجود. فله الربوبية ولك الربوبية بحكم كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، وله القدم ولك القدم باعتبار انك موجود في علمه، وعلمه ما فارقه مذ كان. فإنضاف إليك جميع ما له وإنضاف إليه جميع ما لك في هذا المشهد"8 .

لقد جعل الجيلي من الإنسان مثلا وتجسيدا حيا لله. فهو يحوي في ذاته على صفات الله جميعا. وبالتالي، فإنه يستحيل نفيه وإفتاءه. فهو يحتوي في ذاته مطلق الوجود، وفيه الأزلية والأبدية، وذلك لأنه على "أنموذج الحق" بحكم وجوده، ويصبح إنسانا حقا، حقيقيا وكاملا في حال تكامله على "أنموذج الحق".

إن تكامل الإنسان على "أنموذج الحق" يجعل من هيكله الإنساني فردا كاملا وغوثا جامعا عليه يدور أمر الوجود ويكون له الركوع والسجود وبه يحفظ الله العالم، كما يقول الجيلي9 . ولا يعني ذلك سوى أن الإنسان قادر على تخطي الحدود أيا كانت ما زال المطلق هو مصدر وجوده وديمومته. وبالتالي، فإن نواحي الكمال لا تتناهى في أنموذجها، وهي المعبر عنها في تقاليد الإسلام بالمهدي والخاتم والخليفة، أي "الإنسان الكامل"، الذي تنجذب حقائق الموجودات إلى امتثال أمره انجذاب الحديد إلى حجر المغناطيس، ويقهر الكون بعظمته والفعل ما يشاء بقدرته فلا يحجب عنه شيء10 .

لم يسع الجيلي إلى جعل الإنسان إلها، ولكنه سعى إلى جعل الالوهة فيه امتدادا لرحمة الوجود. ومن ثم تحويله إلى أنموذج مطلق يسري في صيرورة التاريخ الإنساني، باعتباره "قطبا تدور عليه أفلاك الوجود"11 . بعبارة أخرى، ليس "الإنسان الكامل" سوى الأنموذج المطلق للكمال الإنساني. ومن ثم فهو "خارج" التاريخ وداخله، لأنه يتمثل في ذاته وحدة الوجود والعدم على مثال الحق. من هنا فكرة الجيلي عن أن الإنسان الكامل هو "واحد مذ كان الوجود إلى أبد الآبدين"12 . بمعنى أنه وجود وأنموذج مطلق للإنسان في كل مكان وزمان، والشيء الوحيد المتغير فيه هو "تنوعه في الملابس"، كما يقول الجيلي13 . ومن ثم فإن تنوعه في التاريخ يشكل سلسلة الكمال الإنساني أو حلقاته المترابطة. وبالتالي، فإن الكمل (الكاملون) في الناس كل منهم "نسخة للآخر" في سلسلة الوجود. وإذا كان الجيلي يطلق على "الإنسان الكامل الأصلي" أسم محمد، فلأنه مثال الوجود التاريخي للثقافة التي بلورت شخصية الجيلي وتراثه الصوفي. لهذا نراه يتكلم عما اسماه باجتماعه وإياه وهو بصورة شيخه شرف الدين إسماعيل الجبرتي بمنطقة زبيد عام 796 هجرية14 .

ولم يقصد الجيلي بذلك استعادة فكرة تناسخ الأرواح، وذلك لأن "الإنسان الكامل" في منظومته ليس استعادة للماضي، بقدر ما هي صيرورة دائمة لأنموذج. أنه ليس استعادة باهتة أو لامعة، كما أنه لا تكرار فيه. أنه يتمثل ويمثل العملية الذاتية لحقائق الوجود نفسها وصقلها الدائم. ومن ثم، فإنه تمثيل للفردية والفردانية الإنسانية في جبروتها الساعي لتوليف حقائق الملك (الطبيعة) والملكوت (ما وراء الطبيعة) في ذاته عبر جعلها مرآة تجليه الدائم. من هنا استنتاج الجيلي عن أن "محمدا بإمكانه أن يتصور بصورة في كل زمان بصورة أكملهم ليعلي شأنهم. فهم خلفاؤه في الظاهر وهو في الباطن حقيقتهم"15 . أي أن ظهور الإنسان الكامل هو استمرار خلافته للحقيقة المحمدية، أي لفكرة الكمال المطلق. وبالتالي فإنه لا نهاية في ظهور "محمد"، أي لا حد محدود في التجديد الدائم والارتقاء الدائم للأفراد والجماعات والأمم. كما أنه لا صيغة واحدة وأنموذج واحد فيه. إن الوحدة في حقيقة الكمال، أما الكمال فإنه قابل للتصور بصورة لا تتناهى. والإنسان الكامل هو الكيان المتنوع في الصور. ومن ثم، فإن لكل مرحلة وتاريخ وشعب وأمة ودين ناسه الكاملين. ذلك يعني أن الإنسان الكامل يحمل في منظومة الجيلي طابعا كونيا، يستمد مقوماته مما فيه من "مقابلة الحقائق الوجودية والعلوية" كما يقول الجيلي.

وهي مقابلة كانت ترمي الى تأسيس الفكرة القائلة، بان الانسان الكامل يحتوي في اعماقه على مكونات الوجود، أي انه يحتوي على كل مكونات الملك والملكوت والجبروت. وبالتالي ليس الإنسان الكامل، سوى الكيان الذي يحتوي في ذاته على كل شيء مما في عوالم الملكوت (الماوراطبيعي) من عرش وكرسي وسدرة المنتهى والقلم الأعلى واللوح المحفوظ. كما أن فيه استمرارها الوجودي في العناصر والهيولي والهباء واستمرارها في الأفلاك المجردة وسماواتها وأفلاكها الطبيعية واستمرارها الطبيعي في مبادئ الحياة من نار وتراب وماء وهواء ومستواها الأدنى في الغرائز. بعبارة أخرى، إن الإنسان يحتوي على كل شيء! والإنسان الكامل، بالتالي، ليس كيانا مجردا خارج الملك (الطبيعة) والملكوت (ما وراء الطبيعة)، بل هو الكيان الذي يحتوي في ذاته على مكوناتهما جميعا، بحيث يجعل من قلبه وأنيته ومقامه وعقله ونفسه وطبعه وقابليته وهيكله ورأيه وإدراكه وهمته ووهمه وهمومه وفهمه وخياله وفكره وذاكرته وجميع قواه الحسية وعناصر وجوده الطبيعية من حرارة وبرودة ورطوبة ويبوسة وخواطره ووساوسه وغرائزه (حيوانيته) حقائقا مقابلة للحقائق الوجودية والعلوية. حينذاك فقط يمكنه أن يكون كاملا.

مما سبق يتضح، بأن الإنسان الكامل في منظومة الجيلي هو ليس "سوبرمان"، بل أنموذج للكمال الإنساني الفاعل بمعايير الحق المطلق. فهو يجسد في ذاته تناسب الأوزان الضرورية للفعل الأخلاقي المتسامي. إذ فيه تتناسب وتتكامل مكونات الوجود الطبيعي والماوراطبيعي، وبالتالي، فإنه ممثل الوحدة. إذ فيه من كل شيء نسبة معقولة ومتجانسة من أقصى مكونات المطلق (الحقائق العلوية) إلى أدنى تجلياته في الشيطنة والبهيمية.

وقد حدد ذلك غاية الإنسان الكامل، بوصفها رهن المساعي الإرادية للحق. من هنا قول الجيلي، بأن "مثال الإنسان للحق مثال المرآة التي لا يرى الشخص صورته إلا فيها. وإلا فلا يمكنه أن يرى صورة نفسه إلا بمرآة الاسم الله. فهو مرآته. والإنسان الكامل أيضا مرآة الحق، فإن الحق أوجب على نفسه أن لا ترى أسماؤه وصفاته إلا في الإنسان الكامل"16 . بعبارة أخرى، إن الإنسان الكامل هو الإنسان الذي تتكامل فيه مكونات الوجود ووحدتها المتناسقة، بحيث يصبح كالمرآة قادرا على عكس حقائق الوجود الملكوتية في علمه وعمله. الأمر الذي يحرره من رق الاغيار، ويجعله قادرا على الفعل بمعايير ومقاييس الحق (المطلق). انه ممثل المعاني الخالصة والحقائق العلوية في وجوده التاريخي. وعّبر الجيلي عن هذه الفكرة في تأويله للآية (كل يوم هو في شأن) بطريقة تقول، بأن "تغيره في كل زمان إنما هو أثر للشأن الإلهي الذي اقتضاه التجلي الحاكم على الوجود بالتغير"17 ، أي أن التغير في الزمان (التاريخ) هو نتاج للشأن الإلهي الذي يتحدد بدوره بأحكام التغير الضروري في الوجود. وأسّس لهذه الفكرة في سلسلة الشأن والأثر والمقتضى والتنوع، انطلاقا من أن لكل تجل شأن، ولكل شأن أثر، ولكل مقتضى تنوع في الصور وذلك لأن الحق (الله) وإن كان ثابتا بذاته إلا أن له في كل تجل تغيرات هو عين "التحول في الصور". بهذا المعنى انه متغير لا متغير، متنوع لا متنوع، متحول في الصور لا متحول في نفسه، كما يقول الجيلي18 . والحقيقة كما هي تمثيل لهذه الفكرة. أنها ثابتة من حيث ذاتها متنوعة في الصور. بل أنها غير محدودة وغير متناهية. وإذا كان الأمر كذلك، فإن منطق الإنسان الكامل في تعامله مع أي شيء يتحدد بعلاقة الثبات والتغير، أي الثبات في الحق والتغير في الصور. من هنا نرى الجيلي يرى في القرآن ليس كتابا محصورا للمسلمين، بقدر ما وجد فيه "عبارة عن أحكام الوجود المطلق"، الذي هو أحد وجهي ماهية الحقائق. من هنا تصبح سوره وآياته "الصور الذاتية وهي تجليات الكمال. فلكل سورة معنى فارق تتميز به". حينذاك تصبح الآيات "عبارة عن حقائق الجمع"، لأن كل "آية تدل على الجمع الإلهي من حيث معنى مخصوص". وتصبح الكلمات "عبارة عن حقائق المخلوقات العينية". وتصبح الحروف عبارة عن "الأعيان الثابتة في العلم الإلهي"19 .

إن تحول القرآن إلى عبارة عن "أحكام الوجود المطلق"، والسور إلى "تجليات الكمال" والآيات إلى "حقائق الجمع" والكلمات إلى "حقائق الموجودات" يعني تحرير النص القرآني من صولة السلفية وتقديس الحروف وأوهام العقائد وسطوتها "الفقهية". بهذا يكون الجيلي قد أعطى للعقل التأويلي، عبر تحويل القرآن إلى ميدان "معرفة الوجود المطلق"، والسور إلى "تجليات الكمال"، والآيات إلى "حقائق الجمع"، والكلمات إلى "حقائق ملموسة" إمكانية السباحة الحرة في بحر الوجود والتاريخ بالطريقة إلى لا يقيدها شيء غير الإخلاص للحقيقة. وذلك لأن حقيقة "اللوح المحفوظ" هي "النفس الكلية"، أي "نفس الإنسان الكامل"، كما يقول الجيلي. فهي النفس التي تتكشف فيها حقائق الوجود المطلق، لأنها هي نفسها تجسيدا له. فاللوح المحفوظ الذي يحتفظ على معاني القرآن وتبدله في الصور ما هو إلا نفس العارف الكلية. ذلك يعني أن حقائق الأشياء (الكلمات) على قدر "حقائق الجمع" ومن ثم على قدر جمع الذات أو تكاملها. كما أن تكاملها هو صورة ذاتية وبالتالي تجل للكمال. من هنا فكرة الجيلي، عن أن فهم القرآن وأسراره وتأويله يعكس العملية الذاتية لإدراك حقائق الأشياء باعتبارها حقائقنا نحن، وبالتالي الاضمحلال فيها بحيث يبلغ المرء حال "أنت بلا أنت"، وتتحول الأنا العارفة إلى تجل للكمال.

وهي عملية تتسامى بالمرء للدرجة التي تتحول فيها الكلمات (حقائق الأشياء) إلى "حقيقة ذاته"، أي على خلاف تحولها إلى "خيال المتضادات" مثلما هو الحال عند العوام، كما يقول الجيلي. من هنا موقفه مما اسماه بحقيقة السرّ في القرآن، الذي جرى ستره "بقشور عبارات وسطور كما فعله النبي محمد"، وذلك لأن "الذي أمر محمد بتبليغه ظاهر، والذي خيّر في تبليغه باطن"20 . إلا أن الذي "اخذ على محمد بالكتمان يوجد في القرآن ومودع فيه لا تعرف حقيقته إلا عن طريق التأويل لغموض الكلام، فلا يعلم ذلك إلا من اشرف على نفس العلم أولا أو بطريق الكشف الإلهي21" .

تنبع ضرورة التأويل من حقيقة وجود "الأسرار الإلهية" والحقائق التي يحويها "اللوح المحفوظ"، أي لوح الوجود الدائم ولوح الكشف الدائم. إذ ليس اللوح المحفوظ سوى "نفس العارف". ومن ثم فإن تبدل الصور هو نتاج التبدل الدائم في كمال الإنسان. إذ ليست السور القرآنية سوى "الصور الذاتية" و"تجليات الكمال الإنساني". وهي حالة تحرر الإنسان من قيود الكلمة وتجعلها جزءً من حقائق الوجود المكتشفة في مجرى معاناة الإخلاص للحق. آنذاك يصبح "الهدى" على سبيل المثال عبارة عن "كيفية رجوع النور الإلهي المتنزل في الهيكل الإنساني إلى محله ومكانه"22 . ويصبح معنى "الأرض يرثها عبادي الصالحين" هو "الوراثة الإلهية" والأرض هي "الحقائق الوجودية المنحصرة بين المجالي الحقية والمعاني الخلقية"23 . ويصبح معنى الأب والأم والابن في المسيحية هو على التوالي أسم الله وماهية الحقائق والكتاب أو الوجود المطلق، لأنه فرع ونتيجة عن ماهية الحقائق24 . وان معنى سورة الفاتحة يقوم في إشارتها إلى قسمة الخلق والحق في الإنسان. فالإنسان الذي هو الخلق باعتبار ظاهره هو الحق باعتبار باطنه، لأن دلالة الفاتحة هي إشارة إلى "هذا الهيكل الإنساني الذي فتح الله به أقفال الوجود"25 . أما كلمات النبي محمد عن أن "الله ينزل إلى السماء الدنيا في الثلث الأخير من كل ليلة"، فإنها تحتوي على معان عديدة، منها أن الليلة هي الظلمة الخلقية، والسماء الدنيا هي ظاهر وجود الخلق، والثلث الأخير هو حقيقته. كما يمكن تأويل الحديث على أساس "أن كل شيء من أشياء الوجود تنقسم بين ثلاثة أقسام، قسم ظاهر يسمى بالملك، وقسم باطن ويسمى بالملكوت، وقسم ثالث هو المتنزه عن القسمين السابقين"26 .

وطبق موقفه هذا من تأويل مختلف الآيات والأحاديث المتعلقة بمختلف قضايا الفكر الإسلامي. بل نراه يقول في بعض تأويلاته بأن بين بعض "أهل النار أناسا عند الله أفضل من كثير من أهل الجنة، أدخلهم دار الشقاوة ليتجلى علمهم فيها فيكونون محل نظره من الأشقياء. وهذا سر غريب وأمر عجيب"27 . لقد أراد الجيلي القول، بأن "للأشقياء" نماذج ودرجات في الظاهر، كما أن النار مصدر الدفيء وأداة الحرق، والماء مصدر الحياة وأداة الموت أيضا. وهناك من "الأشقياء" الذين يخرجون عن المألوف في تحديهم إياه بحيث يجعلهم ذلك اقرب إلى الحق. وتعّبر هذه الرؤية عن عمق الحرية المتسامية في منظومة الجيلي، بحيث وجدت تعبيرها أيضا في تأويله "لخروج آدم" من الجنة. إذ وجد في أكله الثمرة والخروج بسببها أمرا منطقيا، استنادا إلى أن النفس مخلوقة من الذات الربوبية، وليس من شأن الربوبية البقاء تحت الحجر. وهو حكم يستجيب عليها في الدنيا، كما يقول الجيلي28 .

أننا نعثر في منظومة الجيلي عن الإنسان الكامل على استمرار منطقي في تحدي الواقع والخروج على خيالاته، باعتبارها قيوده. وذلك عبر الخروج عليها بها، انطلاقا من أن "كل أمة من الأمم مقيدة بالخيال في أي عالم كانت من العوالم"29 . فأهل الدنيا مقيدون بمعاشهم والمعاش خيال. وكل ما هو مقيد بجزء هو خيال. إنه ضروري للوجود، لأنه جزء منه. لكن الحقيقة تقوم في تذليل جزئيته. وينطبق هذا على كل شيء وموقف. الأمر الذي جعل الجيلي يتكلم عن بلوغ حال أن "تكون أنت بلا أنت والله المدبر". بمعنى تذليل الأنا الجزئية، وبالتالي العلم والعمل بمعايير الحق المطلق. آنذاك يمكن رؤية الوجود على حقيقته بوصفه وحدة يحتل الإنسان مركزها. والمقصود بذلك مركزية الإنسان الذي يجسد في ذاته حقيقة الحق. ومن ثم تمثيلها بوصفه خليفته في العلم والعمل. بمعنى النظر بعين الرحمة للوجود والعمل بمقاييسها. الأمر الذي يمكن رؤيته في موقف الجيلي من العقائد والأديان والإنسان الكامل في الوجود.

***

 

...........................

إن هذا المقال مدعوم من جانب مؤسسة (الصندوق الروسي العلمي الإنساني) المتعلق بمشروع دراسة التصوف الإسلامي (رقم 080300105a).

1عبد الكريم الجيلي: الإنسان الكامل في معرفة الأواخر والأوائل، ج1، ص12.

2 المصدر السابق، ج1، 26.

3 المصدر السابق، ج1، ص26.

4 المصدر السابق، ج1، ص32.

5 المصدر السابق، ج1، ص38-39.

6 المصدر السابق، ج1، 36

7 المصدر السابق، ج1، ص11.

8 المصدر السابق، ج1، ص11-12.

9 المصدر السابق، ج1، ص62.

10 المصدر السابق، ج1، ص62.

11 المصدر السابق، ج2، ص61.

12 المصدر السابق، ج2، ص61.

13 المصدر السابق، ج2، ص61.

14 المصدر السابق، ج2، ص61.

15 المصدر السابق، ج2، ص62.

16 المصدر السابق، ج2، ص63.

17 المصدر السابق، ج1، ص89.

18 المصدر السابق، ج1، ص90.

19 المصدر السابق، ج1، ص92-93.

20المصدر السابق، ج1، ص99.

21 الصدر السابق، ج1، ص99.

22 المصدر السابق، ج1، ص100.

23 المصدر السابق، ج، ص104.

24 المصدر السابق، ج1، ص105.

25 المصدر السابق، ج1، ص109.

26 المصدر السابق، ج1، ص108.

27 المصدر السابق، ج2، ص44.

28 المصدر السابق، ج2، ص48.

28 المصدر السابق، ج2، ص33.

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1234 الجمعة 20/11/2009)

 

 

في المثقف اليوم