قضايا وآراء

الكتابة والوجود (4)

 اللصوص والفضوليين ولا يظهرها إلا في الأوقات السعيدة والمناسبات والضرورات والمحن ولا يُطلع عليها أحد إلا الذين يتوسم فيهم خيرا ويمنحهم ثقته؛ يختبر سرائرهم وإن مثّلوا وتبدلوا.

 هذه المفاتيح تتيح الولوج لعوالم جديدة وأفضية غير مألوفة، يُكتشف من خلالها الخبايا والأسرار، قد يطول زمن التأثر والتأثير لكل من رأى جمال وتلذذ بمتعة وعرف من أسرار وأختبر من أمكنة.

  لكل شيء  مفاتيح، للمعنى مفاتيح، للباطن مفاتيح، للعقل مفاتيح وللكتابة مفاتيح لا تعطى إلا للذين أختارهم الله أن يغيّروا مجتمعاتهم بعد تَغَيُّرِهِمْ في أنفسهم.

 " إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم". قرآن كريم

ليس كل ما يكتب يؤدي هدفا نبيلا  في الحياة أو يزرع فضيلة أو يظهر موقفا أويبيّن عيبا أو يدافع عن قضية  أو مبدأ فقط فالكتابات كثيرة والأطماع كثيرة والأباطيل كثيرة، الأنانية المفرطة والنفس المتعلقة بالخطأ والخطيئة والشر تشغل تقريبا كل مساحات الأمكنة في هذا العالم الضيّق المتسع.

إن الرأي في اليد الباطشة الأمية الجاهلة الظالمة المالكة دون البصيرة، والصواب قليل يطوّق بحصاره الحرية، الحق قلة أهله والكتابة تحمل من هذا وذاك والمتمسّحون كثر والخدم.

الصواب حق والحق يحمل على التغيير والتغيير تجديد للأصيل.

 الخطأ مرغوب فيه ومحمول على القبول مربوطا بوثاق مُلْكٍ أو سياسة أو إيديولوجية، يتحمّل الدخيل لا يصارعه ليتكامل بالمنفعة متواطئا على الخير، يتجسد بصورة أوضح في المجتمعات المتخلفة.

 

 للكتابة مفاتيح يحملها النص في حلقة والفكر علّيقة.

الكتابة معنى في هدف الجملة التي قالها برغسون:" خير الناس وأكثرهم حظا من الحياة  من كانت حياته  وهي نفسها فتية  وقوية مبعثا للقوة والنشاط في فعل غيره من الناس ومن كانت حياته وهي في  نفسها نبيلة كريمة تضيء بأشعة نبلها وكرمها نفوس الآخرين".

 وكذا تصور  وليام جيمس: " الإخلاص هو انتصار الخير والغلبة" وهي وصايا عمر الفاروق لأبي موسى الأشعري: " أعرف الأمثال والأشباه وقس الأمور عند ذلك  وأعمد إلى أحبها إلى الله" .

 الله مطلق وما تأخذه من المطلق لا يمكن حمل الخطأ أبدا إلا إذا أدخلنا مجمل تصوراتنا  ورغباتنا الكاذبة وخبث أطماعنا فأفسدنا قدسية ما أخذنا؛ الكتابة من المطلق هي قريبة من الحقيقة.

 من السابق في هذا الطرح؟ هل أخذ ديكارت من عمر بن الخطاب؟ إنها  معرفة الإنسان بحقيقة المعاني القائمة في النفس، إنه التفكير النبيل من أجل الفعل والتغيير.

الكتابة الحقة عذاب النفس وتعب العقل، ظهور الباطن وجهر لجلد ذات مستترة.

الكتابة دعوة للتوازن في الحياة، البحث عن الحياة بتفجير فكر الانتباه لشظاياه لملأ الفراغ وإثارة الاهتمام والراحة في هذا الشقاء.

الكتابة تملك حريتها إذا انسلخت من الأوقات السيئة المشبوهة للأنظمة والأحزاب والسياسات الزائغة، إذا انسلخت من أوقات الخدمة والطلب والتصقت بأوقات المستضعفين والمهمّشين والمقصيين والمطاردين وصدودا عن المخصيين أدبيا الذين لا تفوح من أخلاقهم مواقف الرجولة.

الكتابة خدمة للإنسانية واعترافا بفضل الله والنظر في مطلقه المزروع  فينا وفي الآفاق المحيطة بينا؛ تَمَلُكٌ لحريتها حين التغلغل في زمن الآخرين مفككة فاضحة الخطط كاشفة ما ينام خفاءً لتستحق عن جدارة خلودا.

إن الجهد في بناء المفرّق يطوّل عمر النسيج الإبداعي والفكري الإنساني ويدحض الديمومة السراب.

حين تتمكن الكتابة من إرجاع السوية لما تم تحريفه من مفاهيم الخير والجمال.

 الكتابة تحيي السلبية النائمة في النفوس لتجتثها وتحملها على قبول الايجابية لتُخَلِصْ الأوقات من العبثية حين التمكن من قبر الانفعالات  الباطلة المتغذية بأوامر إكراهية وتهدئتها مثيرة في الوقت ذاته عوامل التحريض في الأغوار المقيدة بالوهن.

 فتح أبواب البحث عن حقيقة كل وجود فلسفة لتحريك الحياة كلها الحياة العميقة للعقل

والروح يقول ديوي : " كل سعي وراء الحقيقة ليس سوى أسلوب منظم من الروح

أساليب البحث يراد بها خلق الوسائل الناجعة التي يمكن استخدامها في حياتنا العملية". مفاتيح الكتابة تحتاج ليد أمينة تحافظ على قدسيتها  وقدسية القلم وحي الله وقسمه خدمة للتوازن، الحياة  توازن الروح والعقل توازن الوجود حين الفناء.

 

2 ـ الوجود الحداثة في مقاومة فكرة عقلية الصحراء الشيخ والتابع:

 

 إن الوجود في الحياة ارتباط بموضوعات العالم ومسائله، وجودنا يفرض علينا التغيير نتغير ونظل على ارتباطنا بمواقفنا لأننا نطمح للحرية الغائبة إننا نريد أن نكون  وقد لا يتحقق الذي نريده أن يكون؛ نتكلم في محيط يحكمه  الاستبداد على إمكانية تحقيق وجودنا في الآفاق التي يُضّيّق فيها البشر مجال المستقبل والأماني والعراقيل التي يضعونها باستبدادهم ومرضهم النفسي خوفا من تجاوز أصحاب المواقف لعقباتهم ونهوضهم من كبواتهم للجهر بالحقيقة ولو على الذات.

إن الوجود الإنساني الذي يؤكد حقيقة وجوده الفعلي يظل قائما باستمرارية المواجهة لأفعاله لأن أهمية الإمكان  والقدرة ترتبط بالواقع.

إن غياب إمكانيات التحرك الايجابي في اتجاه التغيير والخير يقيّد هذا الوجود ويجعله محدودا. كيف يمكننا أن ندرّس الخير للناس وهم يقطعون رزقنا ويتآمرون علينا حين يتحركون بفعل أمر الآخر وتوجيهه.؟ هل في هذه الحالات تبقى المواقف ثابتة في فعل الخير؟ أدليل وجودك إلجام مواقفك  لحماية الوجود ذاته. لا أحد يملك حرية مطلقة ولا نسبية أيضا، إن الذين يقولون بوجوب الحرية في الدول التي يقبع فيها الفقر والحرمان النفسي ويتجول الجهل بدون قيود، الدول التي مرجعيتها الديني والعرفي المتحكم فيها أصحاب الأهواء والمطامع؛ أليست هذه الحرية في هذا الوجود خدعة؟

 إنها حرية الاستبداد تجعلك تطيع وقيمتك قيمة الحيوان الذي يُمنح الأكل ويُفك قيده  ليسرح بعض الوقت من ثمة يعود إلى قيده وإلى تملقه وطاعته لإشارات المسيطّر عليه. هل نشعر بالوحدة حقيقة؟ هل نتحرك لخير العالم ككل؟ أم أننا عبيد أهوائنا وأنانيتنا؟ هل نتحول من أنفسنا للنظر للآخرين الأكثر ضررا وألما منا؟ هل نتجاوز أطماعنا وغضبنا على الذي نعانيه داخلنا لنعفو على هذا الواقع الذي يسلبنا أعمارنا وأحلامنا؟ إرادتنا التي تنهار جراء الإقصاء والاضطهاد بكل أنواعه والحصار؟ .

 إن الخلق في مجتمعاتنا عناصر سلبية قائمة لما تنتجه من أفعال مأساوية، حربها وحصارها  عراقيل توضع لأجل شعورك بالفشل والإخفاق لا غير؛ والذي لا يقوى على تجاوز هذه المحنة يعيش مسلوب الوجود لأنه يحيا في وجود الآخرين الذين تمكنوا من إخضاعه يعيش في وجود الآخرين ذليلا دون حرية ودون اختيار منه ولا فهم.

لأن هؤلاء المتحكمون لا يقلقون على المستقبل إنما يقلقون على منفعتهم التي قد يحرمون منها لأن ذاتهم المريضة سحر مستتر.

حياة هؤلاء معنا نشعر بها ضاغطة، صحراء جافة، قاحلة مهجورة مسكونة بالأشباح والخوف، التفكير في تغيير المكان إلى مكان مفضّل هو هروب من الضيق إلى الاتساع هروبا بالنفس ونجاة للعقل إنه منطق العقل ومنطق العقل هنا عند الآخرين أمثالنا يعتبر فرارا من المسؤولية وخيانة لهذه المواقف. إن بحثنا للانتقال من الأوقات السيئة العصيبة إلى الايجابية التي تمكّننا  من الاستمرار في الحياة وتباعد عنا الخطر وتصدّ عنا الأشباح هو هروبا من واقعنا إلى واقع أكثر ملائمة مع تفكيرنا  وطموحنا وآمالنا  ورغباتنا أيضا. هل هو هروبا من المسؤولية مخافة أن نتنازل عليها لصالح من جعل الله حاجتنا عندهم وجعلهم ابتلائنا الكبير؟ لأجل رغيف خبز ووظيفة ننهي بها أوقات عمرنا فنتحول إلى وشاة وعبيد مطيعين؟

إن المجتمعات المستبدة لا تريد موظفا أو مثقفا أو كاتبا إنما تريد موظفا واشيا  في نفس الوقت إنها عقلية الصحراء شيخ القبيلة والتابع.

لماذا تُهمل الكتابة والقراءة معا في المجتمعات المتخلفة؟ لماذا يحاصر الكتاب ويقصون  في مجتمعاتهم؟ لماذا الكاتب الأصيل سيء الحظ؟ كلنا نعرف الإجابة ولو أختلفنا في الطرح والأسلوب لكن الحقيقة تبقى واحدة لا تغيب على أحد.

الذي يداوي الجرح يفتحه أكثر ليطهّره ويخيطه برغم الألم الذي يحدثه، إنه يحدث الألم الشديد للحظات  ليتوقف الألم الدائم.

 

3 ـ وجود القدر، الجسد والروح وقدر وجود الآخر في الكتابة :

هل الكاتب  قدر الله للناس؟ أم الكاتب قدره الناس؟

إن قدر الكاتب مسطر من القدم يجبن أو لا يجبن، يتنازل أو يظل على مواقفه، ولتطمئن النفس من قلقها عن حريتها التي قد تسلب منها أو تنتهي بتوقيع إلى السجن أو بطلقة بندقية أو بخيانة أو بتكالب الأشرار عليه والأصدقاء وجفاء الوقت وأهله، لا بد من قبول هذا القدر بإرادته. أفعال الآخرين المسئولون عن زرع عراقيلهم المؤلمة في وجوده  من أجل حده أو النيل من عزيمته بغية شقائه.

جزء من قدره ماضي من تاريخه لم يستطع تغييره في حاضره؛ مرغم هو  على هذا القدر الذي لم يشأه أن يكون ملتصقا بوجوده وربما كان هو نفسه قدر الآخرين يغيّر في لحظاته ووجوده، إن هذا القدر ملكه ولا يمكنه أن يورثه لأحد غيره، ملك بكل ما فيه من أفعال الآخرين هو فيه سيد وعبد.

لم نكن نعلم أننا سنصير كتابا بؤساء  أو سعيدين برغم اختيارنا لجهة المواقف والحق برغم رفضنا انتمائنا للطبقات الأخرى الكثيرة التي اختارت مكانها ولو كان نتنّا عفنا موحشا بغيضا ظالما مستبدا.

واجهنا ولم نختر المواجهة مع عادات وتقاليد هي نفسها قد تحدد موتنا أو تفرض علينا النفي والاغتراب، لا نختار الصراع ولا نعتبر ما نكتبه صراعا إنما القائمين على حرية الآخرين من يعتبروننا أعداء ومغفلين وأندادا ومخربيّن ومفسدين.

يغيرون  قدرنا بقوة القوة والوسائل كثيرة وينتهون بالإقصاء بالقانون لأجل أن نتغيّر ونبدّل الاتجاه في طريق معاكس لأجل أن نتنازل إلى ما نطمح  لرؤيته يتغير في الآخرين.

قدرنا ماضي فينا  لأنه حكم الله لم نختر اللا استقرار لكننا نخضع لذلك في أنفسنا، نكشف ما يحجبوه عنا  فنجد الوضوح يزداد عتمة  لمستقبلنا وحياتنا كأننا مطالبون بترك ما هو في أيدينا، إننا نعلم أن إساءة الآخرين والشقاء الذي صنعوه قدرنا لكنهم يجهلون  أننا ربما لا نتغير، إن اعتقادهم  بعملهم هذا كسروا سنن القدر إنها حماقة قاسية.

نأكل مع الناس ونلتقي بهم في الطرقات ونصادفهم في المقاهي ونرى وجوها كثيرة وغريبة، نزدحم معهم  في الأسواق ونتوسخ بوحل الأرض والطين لأننا نملك جسما متشابها، إننا من لحم  ودم ولسنا كائنات ضوئية.

 

مقيدون نحن بالعادة ولا نقوى  على تجاوز هذه العادة لأننا على الأرض وعددا في عدّاد الزمن.

"  وما من ذرة في السموات ولا في الأرض من قبل أن ندرأها إن ذلك على الله يسير" قرآن كريم.

 إنها مطالب الجسم والجسد والرغبة  واستمرار الحياة، إن جزء منا مادة لا يمكن عبورها لتحقيق وجودنا المطلق الكلي، هذا الجسد يفرض علينا القيد ويعطّل مشاريع كثيرة  وأهدافا وآمالا وأحلاما، هو القالب الذي سكنته الروح للتجلي للعيش مع العالم وجزئه الأكبر المنغمس في الأنانية  والفظاعة، الجسد لم يكن سرا إنسانيا غامضا بقدر الروح والعقل.

4 ـ مقاومة فكرة الثقل الميّت والانتقال لحركة العدد:

 قدر الله فينا يتجزأ كلما تجزأت تركيبتنا؛ إننا أعدادا وأرقاما؛ الدقائق والساعات والأيام، مولدنا وزننا  وعدد نبضاتنا، الدواء  الذي أعطي لنا عدد الحبات والقطرات، مرات الرضاعة  ومدة تغيير حفاظاتنا؛ وفي كل يوم نكبر فيه يزداد العدد أو ينقص في أجسادنا وعقلنا وسنين دراستنا، نخضع لعلاماتنا  ومعدلاتنا؛ جسدنا الذي نعرف كم عظما فيه وكم عضلة وكم عصبا وكم خلية.

جسد متصل بالعالم الخارجي  محكوم بالعدد والأرقام، العدد والأرقام قدر أيضا حتى في وفاتنا  نقضي زمننا المحدد وحتى بعد موتنا نظل عددا وأرقاما، يحسب يوم موتنا ويوم ميلادنا وماذا فعلنا وماذا أنجزنا مؤرخين بالعدد والإحصاء، ألم ينظر معظم الفلاسفة إلى الجسم نظرة إبستيمولوجية، إن معرفة الجسم تتم بواسطة الإدراك الجسمي1.

إننا محكومون بأجسادنا لذواتنا، وسيلة العبور الضرورية لدافعية الوجود والارتفاع لتحقيق مراتب تأكيد ذواتنا، بإرادتنا وصبرنا نستطيع تحقيق ذاتنا  على أحسن وجه، نتكيّف مع بيئتنا وحاضرنا ومن خلال ذلك نغيّر أوضاعنا، أجسادنا قدر الله ومسؤوليتنا  في الشفتين  وهذا اللسان  الذي ينطق العبارة .

" ألم نجعل له لسانا وشفتين وهديناه النجدين" قرآن كريم

 

وهذه الحنجرة التي تنادي للحق أو تصيح للخراب أو هذه الأصابع التي تمضي بيان الحقيقة أو توّقع الظلم  والهلاك والفناء. قدر واقع تحت مسؤوليتنا  نتحمل تبعاته.

جوارحي تطلب عادتها، تدعوني للحرام  حين يغيب الحلال أو يكون ضابطا وحدا ونهيا، تهيج  وتفك عقال العقل منها، والذات تمل وضعها  والروح  تضعف من خلال ضغوطات وعراقيل الخارج، الجسم يتحوّل إلى طبيعة حيوانية شرسة إلى مادة جامدة تتحكم فيّ، تقودني إلى أي وجهة شاءت حين يزيغ  وعيي يحدث هذا الحيوان.

 التحكم  في هذه الرغبة الحيوانية صعب، والجسد أمانة من أجل تحقيق الوجود المشروع بحصول الوعي، قدر واختيار، رجوع الوعي وتسخيره في تصحيح الأخطاء ومحو آثار السيئ في حياتي.

 قدرنا أن نكتب لنؤكد حقيقة ذاتنا على وجودها في هذا العالم وتأكيد لذوات الآخرين الذين يشاركوننا حركاتنا وأعمالنا " إن الصورة الجسمانية  هي أسلوب للتعبير عن أن جسمي قائم في العالم" 2.

 لقد بين موريس ميرلونبونتي الجسم: " هو شيء فوق المادة، فهو ليس مجرد آلة تقوم بحركات بدافع الإرادة الإنسانية ولكن " الأنا" أو الذوات الإنسانية هي حقيقة تتجاوز جسمها لتصبح أعلى من الجسم وفي هذا الصدد يكون من الصواب أن نقول دائما إننا نملك أجساما  لأننا نستطيع أن نتجاوز وقائعية أجسامنا في حدود معينة"3.

هل قدر مجتمعاتنا  أن تتحكم الحيوانية فيها ؟ أم أن الحرمان بالنقص الذي تتعرض له هو ما يجعلها كذلك؟ لماذا يغيب الذكاء وتحضر العادة باستمرار؟ لماذا يهجر العقل مركزه ويصير إلى الهامش؟ لماذا يتلاشى وجودنا وتهمل المعرفة؟ لماذا ينظر إلى الكاتب كمذنب أو مهرّجا أو مسخرة؟ لماذا الكاتب لا ينسلخ من قدره ويعيش كباقي الخلق يصنع لفعله اجترار العادة فيرتاح من عذاباته؟ الكلام عن قدر الكاتب الحقيقي الأصيل مهما كان أسلوبه في الكتابة. لا عن الكاتب العامل؟.

لا شك الإجابة سهلة ودونها الغزالي في كتابه كمياء السعادة:" الروح حقيقة جوهرك وغيرها غريب منك وعارية عندك فالواجب عليك أن تعرف هذا وتعرف أن لكل واحد من هؤلاء غذاء وسعادة فإن سعادة البهائم  في الأكل والشرب والنوم والنكاح فإن كنت منهم فأجتهد في أعمال الجوف والفرج وسعادة الملائكة في مشاهدة جمال الحضرة الربوبية وليس للغضب والشهوة إليهم طريق فإن كنت من جوهر الملائكة فأجتهد في معرفة أصلك." 4

القطرة تصنع البحر وحبة القمح تصنع الكيس ووجودها منفردة يعطي فكرة الخبز والرغيف والسنابل والحقل.

إن وجودي الحقيقي في هذا العالم إضافة فإن لم يكن كذلك وكان إلا جسدا فهو حلقة دخان، وجودي جسدا يحمل موضوع وهو ذاته موضوع الآخرين فبمشاركة مواضيع الآخرين أدل عليّ، أدل على المكان الذي أنا فيه، عن الأوضاع التي تحيط بي، عن الوضعية التي أحتلها، إنه نظام  la pus كل يضاف إليها ليصبح معلوما، تكون موضوع بالتمكن من ولوج أغوار الحقيقة لتكون شاهدا على عصرك، على ما يحفّك:

 " تطوير الجسد لتأنيس الكائن، وتأنيسه لترقيته، وتأنيسه وترقيته لجعله يشعر بفرديته والكل من أجل الوصول  به إلى الأشكال الروحية الأكثر سموا، ذلك هو برنامج كل تربية واعية بأهدافها" 5.

 تحقق نظرتك باتجاه الآخرين دون اللجوء إلى ذاتيتك المعقدة  المريضة الحاقدة  الناقمة، المغرورة، وجودك الحقيقي هو حين تكون وسيلة اتصال بينك وبين الآخرين، قد يقس الآخرون عليك كثيرا ولا يبالون ويعملون على إيقاف تواصلك بفضل أي علاقة قد تدلك إليهم. إننا متشابهون نحن البشر في الصفات مختلفون في الطباع والطبائع، إنما اتصالنا  يزداد وثاقه  للآخرين الذين نراهم متآخين في رسالة يتقاسمون  حملها بلا امتيازات ولا غنيمة  وبلا أنانية المنفعة  لأن بغير هذا   فناء الآخرين.

نمارس الكتابة فنصبح وجود عند الآخر بموضوعنا وموضعه الذي عرفناه  وكان جسر عبورنا إليه.

نكتب لأن إحساسا مركّزا جارحا أو بهيجا انفعل معه وجودي المتفاعل مع علاقاتي بمحيطي والآخرين، أي وجود  هذا إن لم نضاف إلى المركز وكنا فقط الثقل  الميّت في الأجسام.

وجودي الحقيقي خضوع  الذات  لوظيفة الحياة؛ نكتب وقد نثير غضب الناس، قد نخطئ في حق فئة، قد نتعرض لانتقادات سلطة في هذا العالم  ونكون في ظل حكمها، قد  نسجن أو نضرب أو نغرّم أو نقصى أو ننفى على أساس ذلك  فإننا موجودون؛ نظرنا لوجودنا نظرة صحيحة أو استخدمنا ذواتنا  وأجسامنا  بوصفهما  الوجود البشري دعامة لعملنا  لتعزيز الحقيقة، إن تواصلنا  مع كل هؤلاء بما نعرفه من حقائق عنهم بالذي لا يعرفونه هم أنفسهم هو مسيرة لأجل تأكيد حقيقة الوجود الأسمى من حقيقة الوجود الأدنى؛ " إنه عمل خفي كما العقل" ينمو في الخفاء كنور الصبح الذي يكمل بطلوع قرص الشمس"6 ...

 

...................

المراجع:

1ـ د/ حبيب الشاروني  فكرة الجسم في الفلسفة الوجودية، القاهرة المكتبة الانجلو مصريةص75.

2 ـ maurice merleau ponty phemonologie de la perfection. Paris.ed. gallimard 1960p17

3  ـ من الوجود الزائف  إلى الوجود الأصيل  ص93 د/ فريدة غيوة حيرش مطبوعات جامعة منتوري قسنطينة.

4 ـ الغزالي كمياء السعادة ص 75 ضمن كتاب المنقذ من الضلال.

5 ـ hubert.r. traité de la pédagojie puf.1970.7émé éditionp318

6  ـ الغزالي الرسالة اللدنية ص87.

 

خالد ساحلي

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1236 الثلاثاء 24/11/2009)

 

في المثقف اليوم