قضايا وآراء

المفهوم الامريكي للعلاقة مع الآخر

التعامل مع الولايات المتحدة الامريكية، امر بالغ الصعوبة لا سيما بالنسبة الينا نحن العرب، مع ذلك لا ننفك عن طلب المساعدة منها بوصفها اقوى دولة في العالم. بينما يرى المتابع للشأن الامريكي في كل جوانبه، يلاحظ زحف المصلحة القومية الامريكية على المصلحة الوطنية في الدول الصديقة لها.

وراء هذا الزحف احياناً جهل المسؤولين الامريكان للحراك المحلي والاقليمي واصرارهم على استيعاب مواقف الدولة الصديقة حصراً في اطار المفهوم الامريكي لعلاقة الدفع والتسليم واحياناً اخرى يتكئ الزحف على اعتبارات محلية صرف تقدر بين غموض موازين الرأي العام وبين بقاء المؤسسات الاقتصادية الضخمة التي يتم تبويبها في خانة الامن القومي للولايات المتحدة الامريكية.

علاقة امريكا مع من نسميهم الاعداء على غموضها، لها التوجهات الاساسية التي قد تبرر جنوحها احياناً على اساس ان علاقة العداء بحد ذاتها تفرض الافراط في تضخيم الاخطار او تحجيم فوائد الحوار، مثل هذه العلاقة كانت قائمة مثلاً مع عراق قبل 9/ نيسان.

انما في علاقتهما مع الاصدقاء فان الادارات الامريكية درجت على اتباع سياسة تتضمن ان تنوب هي ذاتها عن اصدقائها في اتخاذ القرارات او ان تسعى لاقناعهم بتغليب المصلحة الامريكية على مصالحهم الوطنية الخاصة او تفترض ان الآخرين لا بد ان يفكروا كما تفكر بل احياناً تفكر بدلا عنهم.

مثلاً: في مسألة مناهضة ما تسميه الارهاب الدولي، وضعت امريكا تعريفاً للارهاب ولم تقبل بتعريف مختلف حتى من حلفائها الذين اصطدمت معهم في تحديد حدود هذا المفهوم بسبب- وجهة نظرها الخاصة – من ان حلفائها لديهم برنامج عمل مختلف في هذا الشأن عن التفكير الامريكي، فان امريكا لم تغير تفكيرها ولا بدلت اسلوبها حول الوسائل الكفيلة بمكافحة الارهاب ولا تملك حلاً للارهاب.

واذا كانت اغلبية الدول الحليفة او الصديقة لها تعارض اعمال العنف بكل اشكالها، لكنها تعتقد ان الاسلوب الامريكي لمعالجة الارهاب ولا سيما في وطننا العربي ليس ناجعاً ان لم يكن في رأي هذه الدول ان ما يجري يشجع على المزيد من اعمال العنف.

احراج الاصدقاء هو مثال آخر على اسلوب الصداقة الامريكية، ففي اثناء عدوانها على العراق 1991، تطوع اكثر من متحدث امريكي بالقول: ان الاقطار العربية المعتدلة ابلغت امريكا اكثر من مرة بشكل غير رسمي ضيقها من قيادة صدام حسين، فاعطت امريكا لنفسها صفة المتحدث باسم هذه الاقطار من دون ان يخولها أي منها ذلك ودون مراعاة لتأثير مثل هذا الكلام على علاقات هذه الاقطار في ما بينها، وبخاصة علاقتها مع العراق.

وفي اثناء العدوان نفسه، فكرت الادارة الامريكية انه طالما احد الاقطار العربية (مصر مبارك) غير راضية عن منهج سياسة (عراق صدام) فانها بالضرورة لن تمانع في مشاركة امريكا في عمل عسكري ضده، وفاتها – أي امريكا- ان مصر بحكم كونها مركز استقطاب عربي قد تفكر بشكل مختلف، وفي هذا المجال فات  المسؤولين الامريكان ايضاً، ان الرأي العام الامريكي لا يمكن ان يكون مثالاً مطابقا للرأي العام المصري، ولم يضعوا في حسابهم ان الحاحهم في الضغط على الحكومة المصرية لتحقيق ما تريده امريكا قد يؤدي الى اضعاف حكم تعده صديقا لها.

على العموم، أصح ما ذكر آنفاً ام لا، فان لنا سوابق في حظوة الامريكان، حبنا واعجابنا وتقديرنا واحترامنا... ففي اوائل الاربعينات كان الاعتقاد السائد في الاقطار العربية، ان امريكا ليس لها اطماع استعمارية بالاضافة الى انها تدعو باستمرار الى تحرير الشعوب عدا انها دولة غنية جداً.

من هنا جاءت الدعوة الى ضرورة التقرب من الامريكان في مواجهة الدعوة الى التعاون مع الالمان لا حباً بهؤلاء ولا بالنازية وانما كرها بالصهيونية فقط، وباعتبار ان ميزان الحرب راح يميل الى جانب الالمان. فالتعاون معهم اذن يمكن ان يخلصنا من الاستعمارين الانكليزي والفرنسي ومن الاطماع الصهيونية.

ويمكن القول، ان هذا التفكير الساذج طغى على الاوساط الشعبية في معظم الاقطار العربية، فأثار غضب الانكليز والفرنسيين وحملهم على القيام بعمليات انتقامية عديدة.

بعد الجلاء الفرنسي عن سوريا والجلاء الانكليزي عن فلسطين اصبحت الحرب العربية الاسرائيلية الاولى هي الميزان الذي يزن به كثيرون عواطفهم تجاه هذه الدولة او تلك، الا ان المفاجأة التي لم تكن في حسبان احد هي الضغوط الامريكية على الامم المتحدة لأقرار مشروع التقسيم ثم التسابق بين واشنطن وموسكو على الاعتراف بدولة اسرائيل التي اقرت الامم المتحدة قيامها، وحماسة دول المعسكر الشيوعي وخصوصاً تشيكوسلوفاكيا لتسليح اسرائيل في حربها مع العرب.

منذ ذلك الوقت والعلاقات بين اسرائيل وامريكا من جهة وبينها وبين روسيا من جهة اخرى، تتخذ اشكالاً مختلفة لكن كان واضحا منذ البداية ان السلطات الاسرائيلية تعتمد في وجودها على الجانب الامريكي اكثر من أي جانب آخر. وان كانت تسعى دائما الى استقطاب الدول الغربية والافريقية ودول امريكا اللاتينية... ومع استغلالها كل خطأ يقع العرب به للتحريض والاستعداء عليهم.

كان يجري هذا من غير ان يحاول العرب درء عواقبه وشروره بالرغم من ان الاعتداء الثلاثي الفرنسي- البريطاني- الاسرائيلي على مصر سنة 1956، كان مفروضا فيه ان يفتح عيون العرب على ان علاقات اسرائيل تتجاوز امريكا، وان الموقف الذي اتخذه ايزنهاور من عدوان 1956، لم يكن من اجل سواد العيون العربية بقدر ما كان من اجل اعتبارات ومصالح امريكية بحتة.

ومهما قيل عن حرب 1967، وعن حرص الروس وقتها على الترويج لبناء غير صحيح عن حشود اسرائيلية على سوريا لتوريط مصر في حرب لم تستعد لها ، فمما لا ريب فيه ان تلك الحرب اعدت اعداداً جيداً بالاتفاق مع الحكومة الامريكية، وزودت اسرائيل قبل بدء هجومها على المطارات المصرية بمعدات واسلحة حربية حديثة تضمن لها القيام بهجوم ساحق وانهاء الحرب في اقل وقت ممكن.

صحيح ان القيادتين السياسية والعسكرية في مصر وقعتا يومها في اخطاء لا تغتفر، لكن ثمة من يعتقد بان هذه الاخطاء نفسها كانت جزءا من المخطط الذي وضع لضمان الحاق الهزيمة بمصر. وكانت امريكا تنتقده عن طريق بعض اعوانها المندسين في بعض الاوساط الحاكمة في القاهرة.

ولو رجعنا قليلا الى حرب 1973، لاكتشفنا ان امريكا حتى لو سلمنا بانها فوجئت بالحرب وهي عملياً لم تفاجأ، بدليل انها ابلغت اسرائيل بها، بذلت اقصى ما تستطيع لكي لا تتجاوز هذه الحرب الخط الاحمر، ولتنتهي الى ظروف تجعل مصر في وضع يفرض عليها القبول بمقترحات امريكية.

منذ ذلك اليوم، وامريكا تضغط على الاقطار العربية بمختلف وسائل الضغط لتحقيق هدفين: الهدف الاول تجريد بعض اقطارنا العربية من أية قوة اقتصادية وسياسية مع خلق مشاكل عديدة لها لتفقد القدرة على التصدي لاسرائيل حتى لو كان هذا التصدي دفاعاً عن النفس.والهدف الثاني، دعم اسرائيل بمختلف وسائل الدعم لا في وطننا العربي فحسب بل في سائر ارجاء العالم باعتبارها الحليف الاهم لامريكا في المنطقة العربية بل باعتبارها اكثر اهمية من أية ولاية من الولايات الامريكية.

في مجال آخر لعل التحذيرات التي وجهها بعض خبراء السياسة الامريكية الى اقطار الربيع العربي هو مثال على اسلوب آخر في تغليب المصلحة الامريكية على المصالح الوطنية لاصدقائها، فقد حذر الامريكان حكومات الربيع العربي من ان استمرارها في سياسة الاستذلال (للخارج) والاستحواذ (للداخل) يضر بالامن القومي الامريكي، بينما اردف بعض اقطاب السياسة الامريكية على ان استقرار هذه البلدان مسألة تعني الامن القومي الامريكي.. وكوسيلة للتغطية على تغليب المصالح الامريكية على المصالح الوطنية للاصدقاء بدأت المصادر الامريكية تروج لفكرة ان اضطرابات الربيع العربي بات يهدد استقرار الاقطار المنتجة للنفط وبالتالي يؤثر على مصالحها وامنها.. ومع كثرة التصريحات والايضاحات من قبل صانعي ومنفذي القرارات السياسية والمالية والنفطية الامريكية لم تعد تعرف حقيقة الموقف الامريكي من التطورات الجارية في اقطار الربيع العربي.. والتصحيح والادراك يأتي دائما مقرونا بعذر وهو ان هذه الاراء قد ابديت في اجتماع مغلق وانها لم تكن مقررة للنشر، او ان هذه الافكار تعكس وجهة نظر هذا الشخص او ذاك، ولم تكن المصادر المختصة في امريكا على علم بها.

اذاً، امريكا متضررة في نظر هذا النفر ومستفيدة في نظر النفر الآخر، وكل حسب مصلحته الذاتية الانانية وليس هذه المرة حسب المصلحة القومية الامريكية ولا مصلحة الآخر.

 

في المثقف اليوم