قضايا وآراء

النص المفتوح أو بحث قاسم مطرود الذي لا يكل عن الممثل

يتم ابتداعه أحياناً أمام المشاهدين، ليس من أجل إنارة مدلولاته القيمية، ولكن تحقيقه كلعبة (ثمة هنا تعامل "فلسفي" أو على الأقل "رؤيوي" فيما يتعلق بهذه المفردة)؛ ثم لعب المسرح ذاته من الداخل، أي ضمن محايثته الخاصة، وليس التلاعب بممكناته التقنوية (يخلو مسرح الفنان قاسم مطرود، عموماً، من الكثير من الوسائل المستخدمة في المسرح التقليدي والعصري، لحد يمكن فيه القول، عند هذه النقطة، بأنه مسرح تقشفي للغاية). ذلك هو العنصر الأول. أما العمود الثاني الذي يرتكز عليه بقوة مسرح مطرود، فهو الممثل : الفرد الذي لا يملك أي شيء آخر، من أجل ظهوره واستمراره في الحياة وعلى الخشبة، سوى قوة وديناميكية "مخيلته"، كما كان ماركس يقول بالنسبة للعامل "لا يمتلك سوى قوة عضلاته". بغية محاولة إبراز هذين البعدين عند مطرود وتسليط الضوء على أهميتهما في مسرح كهذا، سنتناول قراءةًً، وليس مشاهدةً لسوء الحظ، واحد من أعماله الأكثر مباشرة وعفوية في الظاهر، وأعقدها من ناحية العرض والتمثيل، ذلك ببساطة لأنها الأكثر وضوحاً في تجسيد البعدين المذكورين : اللعبة والممثل. اسم المسرحية"موتى بلا تاريخ"، مع أنه ليس هناك عمل في المسرح العراقي، على علمنا، أقرب منها لتواريخنا.كيف يمكن تقديم وتسمية هذا النص؟ لكن قبل أن نمنح أنفسنا حرية الاقتراب من النص وتحليله، يطيب لنا سماع الكاتب، أو المؤلف وهو يعبر عن رغبته العميقة المتعلقة بنوعية المسرح الذي يتلاءم مع تطلعه : "منذ زمن ليس بالقصير وأنا أبحث عن شكل جديد لبناء النص المسرحي يتوافق واستخدامات العصر الحديث..." حسناً، نحن نفترض بأن "موتى بلا تاريخ" تتوافق وتلك الاستخدامات المعاصرة، وإلا لما تمت كتابتها ومن ثم عرضها. لكن ولأن براعتها تتكشف عبر اللعبة العارية، أي تلك التي لا يفبركها النص وحده، أو حتى غيابه، وكذلك لأنها لعبة الممثل وحده، أي تلك الطاقة الإبداعية التي لا بد لها من تقبل، أو تحمل بالأحرى ثقل بقية الشخوص وتغليف حضورها، يصعب لذلك معرفة كيف ينبغي تقديمها. هنا، لا يبخل علينا المؤلف ولا يتركنا لوحدنا حيارى أما عملية التقديم هذه. فهو يقول لنا ليس هناك طريقة واحدة للتقديم، بل وفرة من الطرق."يمكن تقديم هذا النص بطرق كثيرة ومختلفة :                                                                     

1-مسرح الحكواتي والاكتفاء ببعض قطع الاكسسوارات.

2-مسرح الشارع واستخدام مكان العرض والمعمار المتوفر لساحة العرض.

3- مسرح دائري باستخدام فضاء السقف.

4-مسرح العلبة العادي باعتماد الديكور ألبسط.

5-مسرح اللسان بإشراك بعض المتفرجين في اللعبة.

لنصغي جيداً "الديكور ألبسط"! وليس ديكوراً بسيطاً وحسب. تلك علامة التقشف الأولى. وكذلك "المتفرجين" للمشاركة في... "اللعبة". ستتكرر هذه المفردة قبل مباشرة الممثل في لعبه، أثناءه ومن بعده. اللعبة، وليس العرض أو التمثيل، أو حتى اللعب، أو فعل لعبَ، بل اللعبة، بمثابة رهان الإبداع الوحيدة.  يلعب المسرحية برمتها ممثل واحد، إذاً. لكنه لا يلعبها في غرفة نومه، أو على أحد قاعات أكاديمية الفنون الجميلة الفارغة، لإجراء البروفات وحسب. كلا. أنه يقوم بلعبها أمام جمهور من المشاهدين كلما أتسع، كلما كان العرض أفضل. الدليل على ذلك، يمكن لعبها في كل مكان، وحتى في "الشارع". يتوجه الممثل مباشرة إلى قاعة العرض؛ يحدثنا في البدء عن نفسه، عبر جملة واحدة يقول فيها اسمه، ولا ينسى أن يؤكد لنا بأنه ممثل عادي عاش "بعض التجارب التي لاقت ثناء". لكن : "في هذا العرض وقعت مشكلة ما بين المخرج والمؤلف... سأطلعكم عليها، شريطة أن نبحث لها عن حل"وها أننا أمام تبرعم عبقرية الممثل المتمركزة بقدرته على أقناع الجمهور بأن عملاً مسرحياً يمكن أن يطرح مشكلة، ومن ثم يجري البحث لها عن حل، عبر لعبها، على أن يكون هناك جمهور، إذ "بدونكم لا يمكن عمل أي شيء". قبل أن يتقدم الممثل أكثر من جمهوره، يهمس له بشيئين : "يمكن تسمية هذا النص بـ "مونودراما" (لعب الدراما من قبل ممثل واحد). لكن، لنتظاهر بأننا لا  نعرف ماذا تعني هذه المفردة، ولا يعنينا أمرها.ثم يسأل إذا ما كان في "القاعة من نقاد مسرحيون". نحن نجيب على هذا السؤال، بدلاً عن ذلك الجمهور المتخيل، بالقول كلا والحمد لله، ليس هناك من "نقاد مسرحيين"، حتى لحظة هذه الكاتبة. لكننا نريد معرفة نوعية المشكلة التي حدثت في هذا العرض ما بين المؤلف والمخرج! وها هي إجابة الممثل لنا، كجمهور :"تعالوا نتحالف ونتفق على صنع العرض بعيداً عن الاثنين، لأن المخرج أدخل إلى المستشفى، أرتفع لديه الضغط والسكري والمؤلف سلم نصه ولم يحضر أي تمرين بحجة أنه لا يريد أفساد رؤية المخرج". ذلك ما دفعنا للقول بأن مسرح المبدع مطرود يمكن أن يكون في المقام الأول مسرح الممثل، فذريعة "الضغط والسكري" عند المخرج لا تنطلي على أحد : تعتمد اللعبة، في المطاف الأخير، على لعابها، وليس على  محكمها، مهما كانت أهمية زاوية نظره ومراقبته للخطوط الداخلية والخارجية. وفي عمل كالعمل الذي نتناوله: على الممثل قبل المخرج. أما طهرانية المؤلف وعدم رغبته في "أفساد رؤية المخرج"، فيمكن تفسيرها بالشكل  البسيط التالي : هنا يدخل النص في الحركة؛ يترك أفقية الكتابة، لكي يقفز، يتشقلب، يرقص ويتلوى أمام المشاهد. بعد غياب ذلك الذي نقلوه إلى مستشفى الحالات الطارئة للضغط والسكري، المخرج، لا يبقى سوى القول : أعطني ممثلاً وجمهوراً وأنا أعطيك عملاً. تلك هي حكمة "موتى بلا تاريخ" على صعيد "الشكل". نلتمس التعامل مع هذه المفردة الأخيرة بغموضها. يبقى "المحتوى". آه، المحتوى! أسم المسرحية، ثانية،"موتى بلا تاريخ"، ما الذي نتوقعه في حالة كهذه، وفي ظروف مثل تلك الظروف؟ سينهض أحد هؤلاء الأموات ليمثل أمامنا حياته التي كانت يوماً؛ ماضي  حاضره، زمن اندثاره وإذلاله الواقعيين؛ ليس هو وحده وحسب، شعب بأكمله؛ ليس هذا فقط، الحياة بأسرها. لنصغي له، كيف يقدم نفسه : "مت في أحدى المعارك التي نسيت عددها، والمحزن أنها لم تكن أشد المعارك قاتلت العدو كثيراً، ولا أعرف السبب، وأطلقت الرصاص في الجو". ولكن لماذا أطلقت الرصاص في الجو؟"خوفاً من الموت طبعاً، أو بحثاً عن العدو الذي يتربص لي، وقد علموني أن أقتله قبل أن يقتلني". ذلك هو، إذاً، "محتوى" مسرحية "موتى بلا تاريخ" : الخوف وقتل الآخر باسم الخوف. "فحتى طفلي الوحيد لم أره جيداً، لم ألاعبه أو أشمه، ولأنني لم اغب يوماً من الخدمة العسكرية". ها، ولا يوم واحد؟ ما هذا الحماس، وتحت أي شعار ويافطة؟ الجواب : "ليس لأني وطني، بل أخاف...يمكنكم القول بأني "يهمس" جبان. تلك هي، للمرة العاشرة، سطوة هذا الطاغية اللعين : الخوف الذي يجعلني أسكن الجبن داخلياً.... أو يسكنني، مرة واحدة وإلى الأبد. هل انتهت اللعبة؟هل نَسدلُ الستارة على فضيحة الرعب؟ يبدو كلا، ما دامت : الفكرة "هي أني معكم أصنع العرض وبدونكم لا وجود له". وكذلك : " قبل البدء علينا تجريب اللعبة"وأيضاً : "لأن مسرحنا تجريبياً في الأصل".  ومن ثم : "وأنا أميل دائماً للتجريب"، و"لأنه التجديد والحياة"وفوراً : "أعتقد تفلسفت كثيراً، لنجرب اللعبة". لماذا؟ "لأني وأنتم الأهم في هذه اللعبة". و"المؤلف غير موجود والمخرج قد يكون مات في المستشفى".هذا ما يقوله مؤلف مسرحيتنا عن المؤلف والمخرج اللذان هما هو. كلمة مقتضبة أخيرة : "مشكلتنا الحديث، نتحدث ونتحدث والغاية أن نوصل لكم الحدث عبر صور الحياة". عبر ماذا؟ 

.............. الحياة.                                                 

 

 

 

  

في المثقف اليوم